بسم الله الرحمن الرحيم
لقد كان البحث الفلسفي شاملا لجميع فروع المعرفة الإنسانية، كما أشرنا إليه، ولذلك
كان يطلق عليها اسم أم العلوم، وظلت كذلك حتى حدود القرن السابع عشر الميلادي،
عندما أخذت العلوم تنفصل عن الفلسفة وتستقل بنفسها شيئا فشيئا، مما أدى إلى انحسار
دور الفلسفة إلى حد ما، في بعض مفاصل الحضارة الغربية، نتيجة للحملات التي تعرضت
لها، ودعوى عدم فائدتها في المعرفة البشرية، باعتبار أن العلم النافع هو خصوص ما
كان له أثر مباشر في تطور الحياة، والسيطرة على الكون، ولما كانت المسائل الفلسفية،
أي الميتافيزيقا، لا تؤدي إلى رقي حياة الإنسان المادية، وبالتالي فلا فائدة ترتجى
منها، بل ذهب بعضهم إلى وجوب إلغاء مباحث الميتافيزيقا من قاموس المعرفة أصلا،
لأنها لا تستحق عناء البحث فيها، قبل أن يعود نجمها ويتألق من جديد، بعدما أثبتت
الدعوات السابقة عقمها وعدم جدواها، بعدما سيطرت على عقل الغربيين مدة من الزمن..
انه نتيجة للحركة الفكرية النشطة عادت الكثير من المسائل المتعلقة بالعلوم المختلفة
لتدخل تحت جناح الفكر الفلسفي، بطريقة أو بأخرى، والتي حملت اسم "فلسفة العلوم" وما
أشبه ذلك، وقد أثبتت الدراسات عدم امكان القول بانفصال العلوم عن الفلسفة بنحو مطلق،
وإلى حد التباين، بل إنها تشتمل على نحو من الوحدة أو التوحد، على الرغم من
الاختلاف في مناهج البحث في كل منها.
وما يهمنا التأكيد عليه في المقام أن شمول الفلسفة لسائر فروع المعرفة البشرية قد
أدى بالباحثين إلى تقسيم الحكمة إلى نظرية وعملية:
فالحكمة النظرية، وهي ما ينبغي أن يعلم، تشتمل على سائر العلوم النظرية من مباحث
الوجود العامة، والإلهيات، والرياضيات وغيرها.
وأما الحكمة العملية، وهي ما ينبغي أن يعمل، فتشمل السياسات، والأخلاق، وتدبير
المنزل.
وعليه فوظيفة الحكيم أن يبحث في مختلف العلوم وشؤون الحياة، ليتمكن من الخروج
بنتائج تؤمن له السكون والاستقرار النفسي اللذين ينشدهما في مسيرة حياته، بغية
تحصيل السعادة التي يسعى إليها.
إلا أنه مع مرور الزمن وتوسع المعارف والعلوم الإنسانية، وانفصال العلوم شيئا فشيئا
عن الفلسفة، أدى في المحصلة إلى انحصار مباحث الفلسفة في المسائل الميتافيزيقية،
وهي التي تشتمل على مباحث الوجود العامة والإلهيات، إضافة إلى البحث في أساس
المعرفة الإنسانية وامكانها، وهو المبحث المسمى بنظرية المعرفة.
ولا يخفى أن حصر الفلسفة في مسائل الميتافيزيقا لا يؤثر على مدى أهميتها وشمولها،
لأن البحث أساسا يهدف فيها إلى معرفة العلة الأولى للوجود، وهو الموجود المطلق عز
وجل، ومدى علاقة الموجودات وتأثرها به، وتأثيره فيها، ولازمه البحث في علاقات
الموجودات بعضها ببعض، فمثلا علاقة العلية والمعلولية لا يخرج عنها أي موجود على
الإطلاق، لأنه لأي مجال من مجالات المعرفة والبحث العلمي انتمى، فلا يخلو أمره من
أن يكون علة أو معلولا، وهو مما لا يستغني عنه أي فرع من فروع العلم، حيث أن دراسة
الظواهر الطبيعية وعلاقاتها ببعضها بعضا غير خارجة عن أحد العنوانين، وهكذا الحال
في سائر العناوين في الدراسات الفلسفية.
وهذا ما ظهر من خلال عدم ايلائهم فلاسفة الشرق، والمسلمين منهم على وجه الخصوص، أية
أهمية تذكر، ولم يدرسوا منهم إلا من سمحت الثقافة الغربية بدراستهم، ممن لم يكن من
الممكن تجاهلهم وإغفالهم، لما لهم من أثر مباشر في الحضارة الغربية سواء في نقل
الفلسفة اليونانية، أو الاسلامية اليهم، من أمثال ابن رشد والغزالي وابن سينا
والفارابي والقليلين سواهم.
وقد كان لانبهار هؤلاء المثقفين بالثورة الصناعية التي حصلت في الغرب كبير الأثر
على هذا الاتجاه الفكري فاعتقد الكثيرون منهم أن تأخر الشرقي في هذه المجالات يعود
الى تمسكه بالقيم الدينية والغيبيات، وفاتهم أن الغربيين يزعمون ان عقل الشرقي قاصر
بحسب تكوينه عن الإبداع الثقافي والحضاري، كما تقدم عن دي بور، فصدقوا مقولتهم من
حيث لا يشعرون، ولم يلتفتوا إلى أنهم جزء من هذا الشرق.
إن النزعة العنصرية عند الكثير من الغربيين، والتي يبدو أن عداءهم للدين الإسلامي،
وسعيهم الحثيث إلى إسقاطه وهزيمته، كل ذلك أدى بهم إلى عدم الأمانة العلمية
والتدليس في نقل المعلومات، بحيث حاولوا بكل ما أوتوا من قوة وعزم، ان ينسبوا
الإنجازات العلمية الكبرى الى أنفسهم أو الى أمثالهم من الغربيين، وهم قد أخذوها من
العلماء المسلمين، من أمثال ابن الهيثم والبيروني وغيرهما من علماء المسلمين.
ونحن لا نريد من هذا الكلام الانتقاص من الحضارة الغربية المعاصرة، ولا التقليل من
شأن الإبداعات والإنجازات العلمية عندهم، وإنما نريد إزاحة الستار عن بعض الخيانة
التي اقترفها هؤلاء بحق العلم والحقيقة، الناشئة عن الانحياز العنصري غير المبرر
ولا المقبول ممن يصفون انفسهم بالعلماء في العالم الغربي ضد المسلمين والشرقيين على
العموم.
وتكفي الإشارة في هذا المجال إلى ما اعترف به بعض مؤرخي علم الفلك المعاصرين، عن
إنجاز كوبرنيك وثورته الشهيرة والجبارة، خصوصا في ما يتعلق بمركزية الشمس للحركة
الكونية، وهي نظرية كان قد سبقه إليها العالم الفلكي المسلم ابن الشاطر الدمشقي
(1304-1375)، يقول مؤرخ علم الفلك المعاصر المعروف ديفيد كنج: "إن الكثير من
النظريات الفلكية المنسوبة إلى كوبرنيكوس قد أخذها عن العالم المسلم ابن الشاطر،
فقد عثر عام 1973م. على مخطوطات عربية في بولندا كان كوبرنيكوس ينقل عنها وينتحلها
لنفسه ومنها مخطوطة لابن الشاطر[1]".
ولعل هذه القضية تلقي بعض الضوء على اختفاء الكثير من المخطوطات العلمية والإسلامية،
وانتقال الآلاف منها إلى الغربيين، الذين جندوا الكثير من طاقاتهم وأموالهم في سبيل
الحصول على هذه الكنوز والاستئثار بها.
* سماحة الشيخ حاتم اسماعيل
[1] علم الفلك والتقاويم، د. محمد باسل الطائي، ص68