تصدير: قال الله تعالى في سورة التين
﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ
سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي
أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾.[1]
مقدمة: أسئلة حول خلق الإنسان:
قد يتساءل البعض وهذا مطلوب أحياناً، كيف يكون الإنسان قد خلقه الله في أحسن تقويم
وفيه ما فيه من النواقص والعلل والضعف فلا هو من جهة التركيب الفيزيولوجي كامل
بجسده وتركيبه العضوي بل يكاد لا يخلو في جزء منه أو عضو من أعضائه من خلل يوجب
ضعفه ووهنه، وطرؤ الآفات والعاهات المفضية إلى الأمراض والعاهات والوهن والضعف
وعليه فهل يصح وصف الصنع الإلهي بأنه خلق للإنسان في أحسن تقويم. بمعنى هل أن الله
خلق الإنسان في أحسن تقويم.
الجواب على التساؤل:
والجواب على ذلك يحتاج إلى بيان أمور منها:
1- موافقة المصنوع للحكمة والهدف:
إن من يقرأ الآية موضع التساؤل دون الرجوع إلى كامل الكتاب الإلهي قد لا يعثر على
جواب على مسألته؛ وبالتالي فلا بد لأجل ذلك من العودة إلى القرآن الكريم لنرى أن
الله لم يخلق الإنسان ليكون في هذه الدار خالداً
﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن
قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾.[2]
فالموت سنة جعلها الله حاكمة في كل بني آدم، والذي خلق الإنسان خليفة في الأرض بحيث
يخلف كل جيل جيل جديد وكذلك تسير السنة بأن تترك الأجيال السابقة المساحة للأجيال
اللاحقة لتأخذ فرصتها في الحياة الدنيا، فلولا الموت لما وجد المتأخرون مواطىء
لأقدامهم فضلاً عن ماء أو طعام أو غير ذلك مما هم محتاجون إليه فضلاً عن كون الدنيا
دار اختبار وابتلاء الهدف منه تفجير القابليات الخلاقة والابداعية عند الإنسان
والمحفز عليها هو التحدي بالموت والمرض وغيرها؛ وبالتالي حينما يقول تعالى من قائل:
﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾.[3]
يعني أن خلق الموت يخلق أمرين الأول قابلية الإنسان للموت والثاني الإذن بوجود
الأسباب المفضية إليه. فالدنيا ليست الدار النهائية للإنسان بل هي دار تربيته
ليتكامل فيصبح مؤهلاً للدار الأكمل؛ وعليه فإن الحكمة التي اقتضت خلق الإنسان وجعله
خليفة في دار الدنيا نفسها تقتضي وجود نهاية لرحلة وجوده فيها وكونه
﴿وَخُلِقَ
الإِنسَانُ ضَعِيفً﴾.[4] ليتوافق المصنوع مع غرض الصانع.
2- معنى خلق الإنسان في أحسن تقويم
لا بد من الإلفات أن الله عبر بأنه خلق الإنسان في أحسن تقويم وليس بأنه خلق
الإنسان في أحسن تكوين,، وإلا لم يصح بعد ذلك أن يقول:
﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ
سَافِلِينَ﴾.[5] وبيان ذلك أنه تعالى بعد أن أقسم بما أقسم به وهي أمور أربعة جاء
جواب القسم وهو المراد تأكيده:
﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ
تَقْوِيمٍ﴾.إذ لا معنى حينها ليكون بعد كونه الإنسان كامل التكوين كونه قابلا للرد
إلى أسفل سافلين ,فقابلية رده أسفل سافلين مضادة لكونه في أفضل وأكمل درجات التكوين
على الإطلاق.
يقول صاحب الميزان:
"... والمراد بكون خلقه في أحسن تقويم اشتمال التقويم عليه في جميع شؤونه وجهات
وجوده، والتقويم جعل الشيء ذا قوام وقوام الشيء ما يقوم به ويثبت، فالإنسان والمراد
به الجنس ذو أحسن تقويم بحسب الخلقة ومعنى كونه ذا أحسن قوام بحسب الخلقة على ما
يستفاد من قوله بعد:
﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا
الَّذِينَ...﴾؟؟؟ صلوحه بحسب الخلقة للعروج إلى الرفيع الأعلى والفوز بحياة خالدة
عند ربه سعيدة لا شقوة معها، وذلك بما جهزه الله به من العلم النافع ومكنه منه من
العمل الصالح قال تعالى:
﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا
وَتَقْوَاهَ﴾.[6]
فإذا آمن بما علم وزاول صالح العمل رفعه الله إليه كما قال
﴿... فَأُوْلَئِكَ
لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى﴾.[7] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ارتفاع مقام
الإنسان وارتقائه بالإيمان والعمل الصالح...".[8]
وفي الأمثل قال:
"... ثم يأتي جواب القسم
﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾
"تقويم" يعني تسوية الشيء بصورة مناسبة، ونظام معتدل وكيفية لائقة، وسعة مفهوم
الآية يشير إلى أن الله سبحانه خلق الإنسان بشكل متوازن لائق من كل الجهات، الجسمية
والروحية والعقلية، إذ جعل فيه ألوان الكفاءات وأعده لتسلق سلم السعد، وهو –وإن كان
جرماً صغيراً- وضع فيه العالم الأكبر، ومنحه من الكفاءات والطاقات ما جعله لائقاً
لوسام
﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ وهذا الإنسان هو الذي يقول فيه الله
سبحانه بعد ذكر انتهاء خلقه:
﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾. وهذا
الإنسان بكل ما فيه من امتيازات يهبط حين ينحرف عن مسيرة الله إلى
﴿أَسْفَلَ
سَافِلِينَ﴾ لذلك تقول الآية التالية:
﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾
يقال: إن قمم الجبال الشماء إلى جانبها دائماً وديان عميقة، وإزاء منحنيات الصعود
في التكامل الإنساني توجد منحنيات نزول فظيعة، ولم لا يكون كذلك وهو الموجود المليء
بالكفاءات الثرة التي إن سخرها على طريق الصلاح يبلغ أسمى قمم الفخر وإن استعملها
على طرق الفساد يخلق أكبر مفسدة وينزلق طبعاً إلى
﴿أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾".[9]
خاتمة:
إن على شبابنا وفتياتنا والرجال والنساء، أن لا يحبطوا عندما يسمعون سؤالاً من هنا
أو إشكالاً من هناك بغض النظر عن نوايا السائل وطارح الإشكال، وذلك لأن دين الله
متين قوي الحجة ثابت الأركان، غني المادة بالمعارف والعلم وما علينا إلا أن نعمل ما
وهبنا الله من عقول وفكر ولا نسقط فريسة الشعور بالإنكسار، فلدينا كذلك علماء أثروا
المكتبة الإسلامية بنتاجهم الراقي فلنرجع إلى كتبهم وإلى بعض الأحياء منهم، وعلينا
أن نلتفت أن ما يبتلينا الله به في هذا الزمان ليس بدعاً من الإبتلاءات فلقد ابتليت
الأمة في كل عصر بما يمحص أهل الإيمان واليقين من ضعاف الأنفس وضعاف اليقين وكان
ذلك الإبتلاء ليشحذ همم العلماء والمؤمنين لتثبيت دينهم ودين العامة من الناس
وتمتين وتعميق درجات إيمانهم ويقينهم وفي ذلك ألطاف إلهية بينة وخفية فلا تنقطع
عزيزي المؤمن عن علمائك وكتب العلم حتى لا تكون فريسة يستسهل افتراسها أهل الزيغ
والأهواء وأصحاب الشهوات ومدعو الفهم والذكاء.
والدعاء بالثبات وحسن العاقبة آخر الكلام.
[1] سورة التين - الآية – 1-4
[2] سورة الأنبياء - الآية - 34
[3] سورة الملك - الآية - 2
[4] سورة النساء - الآية - 28
[5] سورة التين - الآية - 5
[6] سورة الشمس - الآية – 7-8
[7] سورة طه - الآية - 75
[8] الميزان في تفسير القرآن (الطبطبائي) ج20، ص319، 320.
[9] الشيرازي (تفسير الأمثل) ج20، ص312، 313.