الصفحة الرئيسية
بحـث
تواصل معنا
Rss خدمة
 
  تحريك لليسار إيقاف تحريك لليمين

العدد 1609 17 شهر رمضان 1445 هـ - الموافق 28 آذار 2024 م

أوصيكُم بتقوى الله

الأيّامُ كلُّها للقدسِخطاب الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في لقاء مختلف فئات الناساغتنام فرصة التوبةمراقباتسُلوك المؤمِنمراقباتفَلا مَنْجَى مِنْكَ إلاّ إِلَيْكَمراقباتالمعُافَاة في الأَديانِ والأَبدان
من نحن

 
 

 

التصنيفات
ورشـــــة منهجيـــــة البحث التـــاريخي
تصغير الخط تكبير الخط أرسل لصديق

تحميل

دليـل الورشـة

تم تقسيم هذه الورشة إلى مقدمة وعنوانين رئيسيين يندرج تحت كل عنوان مجموعة من الفقرات سيتم عرضها وفق التالي:

مقدمة:
- تعريف المنهجية.
- أقسام المنهجية.

القسم التقني:
- الخطوات العامة لتقنية البحث العلمي:
أولاً: اختيار الموضوع.
ثانياً: قراءة أولية.
ثالثاً:التصميم الأولي.
رابعاً:القراءة والتقميش.
خامساً:التصميم معدلاً.
سادساً:الكتابة الأولية.

القسم العقلي أو منطق البحث:
- ما هي المعرفة؟
- أنواع النص
- العلاقة بين النص وصاحب النص
- مناهج البحث العلمي
أ- طرق استخلاص النتائج (سبل الاستنتاج).
ب- الحقول البحثية التي تساعد في الاستنتاج (مناهج البحث)

أهـداف الورشـة

الهدف العام :
• أن يكون المشارك قادراً على التفكير والكتابة التاريخيين.

الأهداف الخاصة:
• أن يكون قادراً على تطبيق تقنية البحث العلمي (في التاريخ والسيرة).
• أن يكون قادراً على التعامل مع النصوص التاريخية وغيرها.

تمهيد

1- المنهجية (Methodology): هي علم الطريق، ومنطق البحث، ليس لها صيغ ثابتة، خصوصاً في النسق المتعلق بالحقول المعرفية التي يستخدمها الباحث، فهي علمٌ مفتوح على الإبداع البشري والخبرة الذاتية، وعليه لا تتصف المنهجية بالموضوعية، بمعنى وجود قوالب ثابتة وصيغ جامدة يتسالم عليها الجميع، ففيها قسط من الموضوعية وجانب ذاتي لا يقل أهمية.
2- أقسام المنهجية: تنقسم المنهجية من ناحية الوظيفة إلى قسمين رئيسيين:

أ- القسم التقني: ويُعنى بآليات البحث العلمي بدءًا باختيار الموضوع وانتهاءً بالتصميم النهائي.
ب- القسم العقلي: وهو ميدان مرنٌ ومتحرك مسيس الصلة بنضج الباحث، والخبرة العلمية المتراكمة للمشتغلين بميدان البحث العلمي عموماً والتاريخي على وجه الخصوص.

القسم الأول: منهجية البحث التاريخي

القسم التقني
وهو قسمٌ محدد إجمالاً، يكاد الجميع يتفق على خطواته العامة، وإن كان ثمة اختلاف فلا يعدو بعض التفصيلات الثانوية التي لا تقدح أو تضر بالاتجاه العام.
الخطوات العامة لتقنية البحث العلمي:

أولاً: اختيار الموضوع
يُعد اختيار الموضوع البداية الضرورية التي لا مناص منها، لأنها تسمح للباحث حصر الاهتمام والعناية بإطار محدد بدل الانفلاش في غير اتجاه. في هذا الإطار يفضل أن يترك للطالب أو الباحث حرية الاختيار، لأن الرغبة في البحث شأن ذاتي تسمح للمشتغل بالبحث إطلاق طاقته الخاصة بقوة لا تتوفر في حالة الفرض والإكراه، فالرغبة في معرفة أمرٍ إن كانت منبعثة من الذات هي غيرها إذا كانت نابعة من الأستاذ المشرف، لأن الشغف شأن ذاتي لا يمكن قذفه من الخارج أو زراعته في كيان الإنسان، فالميول المعرفية غير قابلة للتقنين أو الحصر، وإلا لسلك الناس مسلكاً واحداً.

ولذلك لا بُدّ أن يُسأل الطالب أو الباحث عن الموضوع الذي يرغب في دراسته، ولا يجوز في حالٍ، إملاء العناوين والموضوعات أو فرض خيار قد يكون ممقوتاً للباحث، فينعكس ذلك على قوة اندفاع الطالب وعلى حوافزه في السير والتقصّي والبحث.

ثانياً: قراءة أولية
وهي خطوة ضرورية لا بُدّ منها قبل وضع التصميم الأولي للبحث، لأنّ الباحث عندما يريد الشروع في كتابة موضوع محدد يكون ذهنه خالٍ من المعارف الأولية، ولا يجوز الاتكاء على الرغبة فقط أو على المعرفة الغائمة، وإنما يفترض به انتقاء مرجع يتناول الموضوع المراد بحثه أو لصيق الصلة به لتشكل قراءتُه أرضية أولية تسمح له بوضع تصميم أولي للبحث المختار.

ثالثاً: التصميم الأولي
وهو الخطوة الحيوية التي تشرّع الباب للقراءة المفتوحة، والتصميم يختلف سعة وضيقاً تبعاً لحجم البحث واتساعه، فثمة فرق بين بحثٍ قصيرٍ ورسالة وأطروحة. فالبحث القصير لا يستلزم أبواباً وفصولاً، وإنما يكتفي بعناوين عامة يصار إلى معالجتها فيما بعد بما يتناسب ومستوى البحث، إلا أن المشترك بين الأنواع الثلاثة هو المقدمة والخاتمة، أما ما عدا ذلك فيختلف تبعاً لطبيعة البحث ونوعه وحجمه.

وهذا التصميم الأولي مشرّعٌ على التعديل والتبديل ليتساوق ذلك مع الاتساع التدريجي لمدارك الباحث وكمية المعلومات المحصلة أثناء القراءة المكثفة.

رابعاً: القراءة والتقميش
بعد وضع التصميم الأولي، تبدأ الخطوة التالية، التي تعد الأطول زمناً، وفيها يجهد الباحث لتدوين العدد الأكبر من المصادر والمراجع تمهيداً لقراءتها وانتقاء النصوص أو المواقف التي تمّت بصلة إلى التصميم الموضوع مسبقاً. وللقراءة شروطها الخاصة، ويُعد الالتزام بتلك الشروط أمراً حيوياً لإنجاح هذه الخطوة وبالتالي إنجازها، ومن أهم تلك الشروط:
أ‌- ترقيم العناوين الواردة في التصميم.
ب‌- فرز الكتب المصدرية عن شقيقاتها المرجعية، لتكون البداية الصلبة من المصادر لانها ناقلة للمادة الخام، على أن تتلوها المراجع. في هذا الإطار يحسن بنا تعريف المصدر وبالتالي المرجع حتى لا يخلط الباحث بين الصنفين:

• المصادر: هي الكتب التي ألّفها صاحبها في عصر الحدث أو بعده بقليل، بحيث تكون رواية الوقائع إما عبر الكاتب نفسه، أو من خلال رواة شاهدوا أو عاينوا وبدرجة أدنى سمعوا من معاصر.
والمغزى من قراءة المصادر ابتداءً هو الوقوف على وقائع الحدث بتفاصيله مجرداً من التحليل ووجهات النظر، كي لا يؤثر موقف المؤرخ في القارئ وحتى لا يوجهه وفق رغباته.
• المراجع: هي الكتب التي تناول فيها أصحابها الحدث بالتحليل، أي أنها المؤلفات التي تقدّم لي المادة التاريخية مصنّعة، بمعنى أن تكون ممزوجة بالموقف والفهم الخاصين والتحليل الذاتي، وهي أمور مفيدة إلا أنها لا ترتقي إلى مستوى المصادر التي تقدم لي الحدث بروايته الأصلية الخالية من أي تعليق أو تعقيب.

وما تجدر ملاحظته هنا، أنه لا سقف لزمن المراجع، فقد تكون قريبة من الحدث وقد تكون معاصرة لنا، فالعبرة في التسمية ليس في المدى الزمني بقدر حيادية نقل المادة التاريخية أو عدم حياديتها.

بعد هذا التحديد لمعنيي المصادر والمراجع، نلفت إلى أن الباحث، وانطلاقاً من محاولة تشكيل موقف مستقل، عليه أن يمضي في قراءة كافة المصادر والمقارنة بينها ومعرفة اتجاهات أصحابها ومواطن المشتركات والمختلفات، وما زيد وما أهمل، وذلك لاستنطاق المسكوت عنه والمحذوف والمهمل لأن ذلك يشي بموقف خفي لم يشأ الراوي أن يبوح به. وعند الانتهاء من ورشة قراءة المصادر وتوزيع النصوص التي نراها ضرورية على بطاقات خاصة مرقمة وفق أرقام التصميم الأولي، يتولد للباحث القدرة على بناء تصور عن الحدث، موضوع البحث، وخلفياته وملابساته وأبعاده وظروفه، غير أن هذا التصور الأولي يبقى قاصراً إلى حدٍ ما عن مقاربة الحقيقة، وهذا يفترض الانتقال إلى قراءة مختلف المراجع للوقوف على آراء الباحثين الآخرين وعلى وجهات نظرهم وتصوراتهم حول الحدث أو الموضوع.

في هذا الإطار، لا يجوز نقل الرواية الحقيقية للحدث أو المعلومات الأولية من المراجع، لأنه سبق وتم نقلها من المصادر، ويكتفي من المراجع بالمواقف ووجهات النظر التي قد تقترب من تصورنا أو تبتعد، وبِكلا الحالتين يفترض بالباحث أن يشير إلى وجود التقارب والاختلاف لينتهي بعد كل هذه الرحلة الطويلة من المتابعة والقراءة إلى موقف خاص يصح إطلاق كلمة "رؤيتي" أو "فهمي" أو "قراءتي" عليه.

التقميش: الكلمة مشتقة من "القِماش" أو تجميع أطراف القماش وهو تعبير مجازي يصور كيفية لملمة النصوص والمواقف ونقلها عبر "بطاقة البحث" إلى الكاتب وذلك عبر آلية خاصة سنحددها بعد قليل، فالبطاقة تضحي بعد نقل النص إليها بديلاً عن الكتاب، ومن خلالها يتخفف الباحث من الكتب (المصادر والمراجع) وتتحول العلاقة حصراً إلى علاقة مع البطاقات.

كيفية استخدام البطاقة: للبطاقة وظيفتان يمكن إيجازهما على الشكل التالي:
1- نقل المعلومة: وتعتبر الوظيفة الأساسية لأن المعلومة المُراد الاستعانة بها في البحث لا بُدّ أن تكون إمّا رواية لخبر أو موقف لكاتب يقوِّم به الخبر وأبعاده، وفي الصورتين لا بُدّ من نقلهما إلى بطاقة خاصة حتى لا نعود ثانية إلى الكتاب.

2- ثبت المصدر أو المرجع: فكما أن البطاقة تحمل نصاً فكذلك تحمل كافة المعلومات المطلوبة عن المصدر أو المرجع، وهذه المعلومات إما ندرجها في بطاقة مستقلة أو نوردها في أعلى البطاقة على الصورة الآتية: اسم المؤلف ويفضل أن تكون العائلة قبل الاسم الأول، سنة الوفاة إذا كان المؤلف صاحب كتاب مصدري، عنوان الكتاب كما هو مذكور على الغلاف، رقم الجزء إذا كان مؤلفاً من عدة أجزاء، دار النشر، رقم الطبعة، بلد النشر، وأخيراً سنة النشر مثلاً: الطبري: أبو جعفر محمد بن جرير، ت 310 هـ، تاريخ الأمم والملوك،ج1، دار الكتب الإسلامية، ط2 بيروت 1976.
وبما أن الطالب قد يضطر لنقل أكثر من نص للطبري (مثلاً) على غير بطاقة فإنه يكتفي بنقل المعلومات المذكورة سابقاً على بطاقة واحدة ويكتفي بنقل معلومات مختصرة على بقية البطاقات المستخدمة: مثلاً:الطبري، (م،س)، م1، ص162؛ أو الطبري، (م،ن)، م1.

أما لماذا استخدمنا في إحدى المرتين (م،س) أي مرجع سابق وفي المرة الثانية (م،ن) المرجع نفسه فذلك لاعتبار وحيد هو أنه لدى استعمال عبارة (مرجع سابق) نشير إلى استخدام المرجع الذي سبق واستخدمناه مع اختلاف في الصفحة، أما عبارة المرجع نفسه (م،ن) فتعني وجود النص في الصفحة عينها التي وجد فيها النص السابق، ولذلك ذكرنا رقم الصفحة بعد عبارة (م،س) ولم نذكر رقم الصفحة في عبارة (م،ن).

خامساً: التصميم معدلاً
بعد الجولة الواسعة من القراءة للمصادر والمراجع، سيظهر للباحث أن ثمة فجوات في التصميم الأولي، سببه قلة المعرفة بالموضوع المبحوث عنه، لا بد من ردمها (الفجوات) من خلال المعرفة المستجِّدة، ولذلك يفترض بالباحث إعادة النظر بالتصميم، وبالتالي وضع صيغة جديدة تكون أقرب للواقع وأكثر ضبطاً للبحث، مع الإشارة إلى أن التصميم الجديد قد لا يكون الأخير، في هذا الإطار، لأن مرحلة الكتابة قد تكشف عن ثغرات أخرى لم تكن ملحوظة سابقاً، كما أن التصميم قد يدفع إلى البحث عن مزيد من المعلومات غير المتوفرة في المصادر والمراجع السابقة، أو موجودة لكنها لم تكن موضع عناية الباحث، فيلجأ الباحث إلى إعادة القراءة أو البحث عن المعلومات المرادة.

سادساً: الكتابة الأولية
هي كتابة استكشافية ترمي إلى اختبار كفاية النصوص المقمشة من جهة وترابط الموضوع وانسيابه من جهة أخرى؛ وفي حال كتشاف نقص هنا أو ثغرة هناك يصار إلى قراءة المصدر المحدد الذي يردم الفجوة، وأحياناً قد يصدر كتاب مرجع ويعرف في السوق أثناء البحث وقد تكون ثمة وجهة نظر لم يسبق أن اطلعنا عليها، حينئذٍ نبادر إلى قراءتها. والغاية من ذلك ألاّ نتعجل إصدار أحكام دون سابق معرفة، وليكون موقفنا أو رؤيتنا الخاصة فعلاً هي كذلك، كما أن للقراءة فائدة أخرى تظهر في ترتيب الفقرات أو الفصول والأبواب، فقد يتكشف لدينا أن الترتيب لم يكن في مصلحة البحث فنعيد تنظيم العناوين، أما الثمرة العملية في شأن الكتابة الأولية فتتلخص في التخفّف من البطاقات نهائياً، فكما أن البطاقة تخدم مرحلياً في تحرير الباحث من الكتاب ويصبح على علاقة مباشرة مع النصوص المنتقاة، فكذلك الكتابة الأولية، فإنها تضعنا وجهاً لوجه مع النص المكتوب أو مُسوّدة البحث، وأخيراً تسمح الكتابة هذه بإعادة صياغة النص وإحكام عباراته فيخرج في القراءة الأخيرة أكثر تماسكاً، خصوصاً أن الكتابة تفتح آفاقاً جديدة وتلفت إلى أمور لم تكن تخطر في البال قبل الكتابة؛ لهذه الاعتبارات جميعاً نفضّل إتباع هذه التقنية في البحث وهي تريح الكاتب وتجعله أكثر رضىً بالنفس من غيرها.

- الكتابة والكاتب: الكتابة هي صورة الكاتب، فهي تعكس شخصيته وتظهر قوة حضوره أو ضعفه، والفيصل في الأمر هنا، هو الثقة بالنفس وبالقدرة الشخصية على إعطاء الموقف الخاص مستقلاً عن الآخرين، وهو عندما يؤيد موقفاً أو ينقد آخر ينطلق من فهمٍ خاص عارٍ من التبعية أو التقليد، والباحث لا يُضحي باحثاً إن لم يرتقِ إلى مستوى استقلالية الموقف والتحليل ومحاولة اكتشاف الجديد، فالعبرة في الإضافة التي نراكم بها الخبرة الإنسانية، لأن الإضافة الدائمة هي التي تدفع بالعلوم إلى الأمام وتهب المجتمع معنى التجدد، أما التقليد ومحاولة محاكاة موقف الآخرين فلا يسعفان في إضفاء صفة البحث على المجهود المبذول، ويعكسان ضعفاً في الشخصية وقلة ثقة بالنفس.

ويستطيع القارئ الخبير أن يسبر غور الشخصية من خلال القراءة وبالتالي الحكم على الباحث وإمكانياته الذاتية لجهة عمق النظرة وسعة الاطلاع والقدرة على الربط والاستنتاج، فضلاً عن الاستقلالية في الرؤية والتحليل، فكما تكتب تكون، وليس المهم هنا، سعة البحث أو ضيقه، وإنما العبرة في المؤدّى وقوة الربط والثقة بالنفس والاتساق المنطقي، فكم من باحث لا يحمل من البحث إلا الاسم، وربما لا يحمل حتى الاسم، فيكون مجرد ناسخ وصحّاف ليس إلا، فكثرة المؤلفات لا تجعل المؤلف كاتباً وكذلك الحجم وعدد الصفحات فهي لا تغيّر في الواقع شيئاً، فليختبر الإنسان نفسه، فإن لم يكن مزوداً بدينامية التقصي والسبر والبحث عن المجهول، لا يشغلن نفسه في أمر قد يحُطّ من شأنه.

القسم الثاني: منهجية البحث التاريخي

القسم العقلي


منطق البحث
يرتبط هذا القسم بالجانب الأكثر خصوبة في البحث العلمي، فهو يرشدنا إلى كيفية التعامل مع النصوص التاريخية، ذلك أن الصعوبة تكمن فعلاً في عملية زرع النص في التربة التي خرج منها من جهة، وكيفية تصور سياق الرواية التاريخية التي انبثق منها النص أو مجموعة النصوص.

والغاية التي يفترض بالباحث العمل للوصول إليها تنحصر في الاقتراب ما أمكن من الحقيقة، ذلك أن معرفة الحقيقة أمرٌ صعب، فجلُّ ما نروم إليه من البحث هو تقديم قراءة خاصة للحدث نوظّف فيها كل الخبرة المكتسبة باعتبار العُلقة القوية التي لا تنفك بين معارفنا السابقة والنص، فثمة ارتباط جدلي بين الطرفين، أي النص والمعرفة، فكلما كانت خبرتنا في الحياة أوسع كلما كانت مقاربتنا للنص أفضل. فالنص بمثابة مرآة عاكسة لمعارفنا ونضجنا، و تنوّع القراءات والأفهام لنص واحد مردّه إلى هذه الحقيقة ليس إلا.

ما هي المعرفة؟
لا تقتصر المعرفة المطلوبة لفهم النص، وبالتالي نفخ الروح فيه على معرفتنا باللغة ودلالاتها، فهذه من أوليات الرحلة البحثية التي تعطينا بعضاً من مفاتيح الفهم، إلا أنها غير كافية، لأن النص، كما يكشف عن ملامح وسمات، فهو يخفي جوانب أخرى، قد تكون الأكثر تعبيراً عن الحقيقة.

من هذه الملاحظة لمعرفة النص في منطوقه ومفهومه وأبعاده الخفية، يمكن تصور الصعوبة التي تواجه الباحث- القارئ، فرحلته ليست نزهة، وليس من السهل استعجال الأمور وإطلاق أحكام متسرعة.
والمعرفة لا تقتصر على النص الجامد المسجى أمامنا، فهو جسم ميت لا يقوى على النطق شأنه شأن اليد المبتورة أو الرجل المبتورة التي، إن لم يجر وصلها بالجسم الحي وفتح الأوعية الدموية وربط الأجهزة العصبية، لن تكون لها حياة إطلاقاً، وعملية الوصل هذه ليست عملية سهلة يمكن لأي أحدٍ أن يقوم بها وإنما تتطلب خبرة واسعة ومعرفة دقيقة بتقنيات الزرع والوصل.

هذه المقارنة تفتح نافذة على النص وكيفية نفخ الروح فيه، لكن قبل الدخول في هذه الكيفية يجدر بنا التوقف ملياً عند النص وكيفية التعامل معه باعتباره علاقة أو إشارة توحي بشيء ما، ولا يغرب عن بالنا صعوبة فكفكة العلامات (Signs) أو الإشارات ولتقريب الفكرة ينبغي التفكير بالأمور التالية:

أولاً: أنواع النص
في سياق الكلام عن النص التاريخي- خصوصاً- والنص المعرفي عموماً، لا بُدّ من التمييز بين أنواع النصوص المختلفة، لأن هذا يساعدنا في معرفة الفروقات الحاصلة موضوعياً بين نصٍ وآخر.
‌أ- النص الأدبي
‌ب- النص التاريخي
‌ج- النص القرآني
‌د- نص المعصوم (عليه السلام)
‌هـ- النص الفلسفي

وقبل القيام بعملية تشريحية لكل نصٍ على حدة، لا بُدّ من الوقوف على حال أو أحوال صاحب النص من الناحيتين الزمانية والمكانية، وذلك لتفحص الخلفيات والمرامي التي حملت صاحب النص على فعل القول من جهة وفعل الإخفاء والصمت والمواربة من جهة ثانية، وهذا يقودنا إلى الحديث عن النص وصاحب النص.

ثانياً: العلاقة بين النص وصاحب النص
لا يعبِّر النص في التحليل الاجتماعي عن حقيقة وجوهر قائله أو كاتبه بالضرورة، وإنما هو ترجمة لإستراتيجية القول، أي الأهداف والمصالح التي يرمي صاحب النص إلى تحقيقها، وهذه كما أنها قد تطابق حقيقة قائلها، فإنها قد تخالفها تماماً، ولنا في الكتّاب والصحفيين والمحللين والمثقفين الذين نتابعهم في وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية عبرة، فهؤلاء، عندما يتناولون مجتمعين حدثاً تاريخياً واحداً، فإنهم لا يقدمون تحليلاً متقارباً وإنما مجموعة من النصوص والمقاربات القولية المختلفة، والتي قد تصل في بعض الأحيان إلى حدود التناقض، مع العلم أن المعطيات الموضوعة بين أيديهم هي عينها، مع ذلك فإننا نواجه تبايناً في الفهم والتحليل.

وإذا كان الاختلاف بيّنا أمامنا، على الرغم من وجود إمكانيات الاتصال والتواصل، ودفقٍ غير مسبوق للمعلومات، فإن الاختلاف الذي نلمسه في قراءتنا للنصوص القديمة هي أكثر معقولية. فالمؤرخون في الماضي، لم يكونوا بالكثافة التي نعاينها اليوم، كما أن المعلومات لم تكن بالوفرة الحاصلة، في عصرنا، فضلاً عن غياب وسائل الاتصال ونقل المعلومات، وغالباً ما كان المؤرخ متأخراً في الزمن عقوداً وربما قروناً، فضلاً عن بعده الجغرافي، الأمر الذي كان يحتّم عليه الاستعانة بالرواة والشهود وأحياناً بأكثر من طبقة من الرواة وكذلك الشهود، كأن يروي عن راوٍ عن راوٍ وربما أكثر، أو عن شاهدٍ لم يظفر من الحدث إلا بقسط قليل من المعطيات وهكذا...

وللقراءة والتحليل والفهم مؤثرات عدة يجب أخذها بعين الاعتبار لدى قراءتنا للنص، وهذه المؤثرات غالباً ما تشوّش الحقيقة وتحرفها عن مقاصدها وواقعها، ويمكننا في هذا المقام تصنيفها إلى عناصر مختلفة نوجزها بالتالي:
أ- المؤثر الايديولوجي
ب- المؤثر المعرفي
ج- المغالطة
د- الوهم

هذه بعض المؤثرات التي قد تحرف الباحث أو القارئ للنص عن الحقيقة، وهي في معظم الأحيان تكون حاضرة إما في كتابة النص أو في تناوله وفهمه. أما إحتمال التجرّد من هذه المؤثرات منها والتحرر من سطوتها فهو ضعيف ويكاد يكون استثناءاً، فالقاعدة، في المقام، هي الانحياز وعدم الموضوعية والنادر هو الاقتراب من الحقيقة والواقع.

وسنتناول كل مؤثر على حِدة لنلمس بالمحسوس كيف أن الإنسان مخلوق أيديولوجي بامتياز.

أ- المؤثر الإيديولوجي
لا ينحصر مفهوم "الإيديولوجية" بالأفكار والمعتقدات، وإنما يشمل أيضاً المصالح والغايات والفرد عندما يكتب نصاً أو يقرأ آخر لا يكون مستقلاً في الفهم فالبعد الإيديولوجي يضفي على النص بعداً آخر، ويوجّه دلالاته وفق إيحاءات المصالح والغايات إما عن وعي وسابق تصور أو من غير وعي. والمؤثر الإيديولوجي لا يرى الحقيقة مجردة وعارية، وإنما يلبسها ثوباً بمقاس ذلك المؤثر، فهو يصنع لنفسه حقيقة خاصة به، وبذلك يكون لكل حقيقته وفهمه ومقاربته، وغالباً ما يجهد المؤدلج إلى لوي عنق الحقيقة وحرفها إلى الوجهة التي يريدها.

ويمكننا في هذا الإطار مقارنة نصين سياسيين أو إعلاميين من صحيفتين لبنانيتين واحدة معروفة الانتماء للمعارضة وأخرى تنتمي إلى الموالاة، فالانطباع الذي سنخرج به بعد قراءة النصين اللذين يتناولان موضوعاً واحداً، أن ثمة انحيازاً مسبقاً من الكاتبين باتجاه الرؤية السياسية التي يلتزمان بها، وقد لا يكون المحرّض على حرف الحقيقة الموقف المسبق فحسب وإنما الالتزام الوظيفي أو الراتب أو محاباة المسؤول، وربما الرغبة في تبوّأ منصب معين أو تحسين الحال المعيشي وغيرها من الدوافع والحوافز. ولذلك اشترط الفيلسوف "نيتشه" على الإنسان كي يكون حراً أن يتجرد من كل ما يقيده أو يكرهه؛ كالمال والسلطة والجنس، بمعنى ألا نخلق واقع الفقر ثم نطلب من الفقير أن يكون نزيهاً أو نخضعه لسلطة مستبدة ثم نأمره بالسلوك السوي، أو نكبته جنسياً ثم نطالبه بالعِفّة وهكذا...

وقد أفرد القرآن الكريم مساحة واسعة للميادين الثلاثة المفصلية، المال والسلطة والجنس، وقد كثّف القرآن من الخطاب الذي يحض على عدم الضعف أمام إغراء المال (الذي جمع مالاً وعدّده، يحسب أن ماله أخلده)1 أو بهارج السلطة (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فسادا)2 ، أو غواية الجنس (زُيِّن للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة...)3. فهذه الميادين الثلاثة (المال والسلطة والجنس) قادرة بما تستبطن من قوة قهرية مؤثرة، على حرف السواد الأعظم من الناس عن الحقيقة.

أحياناً، قد يلعب البُعد الوطني والقومي دوراً في حرف الحقيقة والابتعاد عن الموضوعية، فالمؤرخ أو الكاتب قد يبرز حدثاً أو يخفي آخر، وقد يفسّر نصاً أو يؤوّل آخر تبعاً لقرب أو بُعد الحدث أو النص من مصالح البلد الذي ينتمي إليه المؤرخ أو الكاتب، وكذلك الأمر بالنسبة للبُعد القومي، كما هو حال التعامل مع النصوص أو الأحداث التي لها علاقة بالصراع العربي الإسرائيلي أو تلك التي تمس مصالح العالم الإسلامي من قبل المجتمعات الغربية. وهنا تحسن الإشارة إلى أن أحد المثقفين الكبار في العالم العربي أظهر انحيازاً فاضحاً للإسهامات المغاربية في التاريخ الإسلامي مقابل إسهام المشرقيين، مع أن تقدم هذا المثقف في السن والتجربة والتفكير كان يُرجى منها أن توفر له قسطاً، لا بأس به، من الموضوعية وهو الذي لم يحصل.

ب- المؤثر المعرفي
ثمة علاقة جدلية (متبادلة) بين النص وقائله، فكلما كان القارئ واسع المعرفة، عميق الغور، متعدد العلوم، كلما اقترب أكثر من معنى النص، بناءً على ما سبق وقررناه من أن النص جزء من جسم انفصل عنه أو فصل عنه بمجرد كتابته وتجريده وتحويله إلى لغة صامته.

فالعارف بسنن وقوانين التاريخ، ودينامية حركة المجتمع، وقواعد الصراع على السلطة، وحركة تطور العلوم، والخريطة الجغرافية التي تحتضن مكان الحدث، والأفكار والمعتقدات التي ينتمي إليها المجتمع، فضلاً عن النضج في تجربة الحياة، والانخراط في المجتمع على مسافة من لعبة السلطة... وغيرها من مظاهر المعرفة، هذا العارف لا يتساوى في فهم النص وسبر أبعاده مع الآخر الذي لا يوازيه في الخبرة والمعرفة، والمسألة في المحصلة نسبية بمعنى التدرج في الفهم تبعاً للتدرج في المعرفة.

فالكلمات لها دلالات، ودلالاتها متحركة، فما كان يدل على معنى بمرحلة معينة، لا يبعد أن يدل على معنى آخر بمرحلة ثانية، وهذا الإدراك لحركة المعنى لا يتأتي لأي كان.

والأشياء التي تراها بالعين، ليست متساوية بنظر ووعي الناس جميعاً، فالشجرة التي نراها أو نتسلق إليها أو نقطف ثمارها، هي بنظر الفلاح لا تعدو كونها من نوع خاص، لها شروط خاصة للنمو والحياة، لكنها بنظر الإنسان العادي مجرد شجرة، إلا أنها ليست كذلك بنظر المهندس الزراعي أو العالم الطبيعي المختص. إذاً الشجرة الواحدة تتفاوت النظرة والفهم حولها من شخص لآخر، كذلك الخالق (عز وجل) فكلنا يؤمن بإله واحد غير أن إدراكنا للإله يتفاوت، ونحن لسنا في سلم المعرفة على درجة نفسها من الإمام علي(ع) (على سبيل المثال) الذي قول: "والله لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً".

ج- المغالطة:
بعض الباحثين قد تصل فيهم الموضوعية إلى حدود الشفافية إلا أنهم قد يقعون ضحية مغالطات النص أو أخطاء منهجية معتبرة، وهذا السقوط قد ينتج عن سذاجة في تلقي الخبر، فيأخذه القارئ دون نقاش أو تمحيص ويعمل به فتكون المحصلة قراءة مضطربة للنص وكتابة مشوشة للتاريخ.

ويمكن تقريب المقصود من خلال مثال معاصر، فأحد الباحثين تناول موضوع "نهضة" إحدى الدول العربية وأخذ يعدد المنشآت الاقتصادية والإنتاجية دون أن يلتفت إلى الأرقام التي وصل إليها وإذ به يتجاوز أضعاف عدد سكان ذلك البلد فضلاً عن أضعاف اليد العاملة الأجنبية التي تعمل في ذلك البلد، هذا الشطط في الكتابة يدفعنا إلى توخي الدقة وتمحيص كل شيء فلا يجوز أن نعتمد على هذا المصدر ونتكئ على معطياته المغلوطة، لأن ذلك سيفاقم من الأخطاء، وسيوسّع من هامش الخلل إلى حدود يصعب فيما بعد رتقه.

وأحياناً قد يقع الباحث في هوة الأرقام المصنّعة فيستند إليها دون تأمل، وينقلها للقارئ الذي قد لا يلتفت إلى فجواتها، ومثالنا في ذلك التظاهرات التي جرت في السنوات الأخيرة في لبنان والتي كان كل طرف يبالغ في أرقام المشاركين حتى تعدّت عدد السكان المقيمين، مع العلم أن الساحات التي تجمعت فيها الحشود لا تتسع لمثل تلك الأرقام، وهذه المعطيات عندما تنقلها الصحف ووسائل الإعلام تتحول مع الزمن إلى وثيقة تاريخية سيلجأ إليها الباحثون في المستقبل ويرتبون عليها النتائج الخاطئة لأن مقوماتها كانت غير صحيحة من البداية، أمام هذا الواقع كيف يمكن للباحث أن يدقق في المعطيات؟ وهل يجوز له استسهال الأمر وبالتالي نقل الرواية دون تدقيق أو تمحيص؟ الجواب: لا، فهو مطالب بخطوات نقدية قوامها كل ما يعرفه عن المكان وسعته والسكان وإمكانيات مشاركتهم جميعاً فضلاً عن البُعد السياسي الذي حاول كل طرف أن يخدمه من خلال المبالغة والمغالطة، فإذا كانت الأمور بمثل هذا الوضوح في أيامنا، فما بالك بما كان ينقله المؤرخون عن الحروب وعدد المشاركين فيها ومن ثم عدد القتلى والأسرى والجرحى؟

هذه المبالغات عادة تكون مقصودة لأنها تخدم الأغراض التي يسعى إليها أصحابها، لكن الأمور لا تجري على النسق نفسه في كل شيء، فأحياناً تنقل صورة الواقع من غير قصد وهذا ما نسميه الوهم.

د- الوهم:
ينشأ الوهم من حالات عديدة، يفترض بالباحث أخذها بعين الاعتبار، كي لا ينتقل الوهم من جيل إلى جيل، من تلك الحالات أن يثق الباحث بمن ينقل عنه النص فيتبنى كل ما جاء في الرواية أو النص، مع العلم أن الثقة بصاحب النص لا يعني عدم وقوعه في الخطأ فهو، مهما علا كعبه ليس معصوماً عن الخطأ.

ومنها أن لا يلتفت الواحد مِنّا إلى المبالغات المتضمنة أو المعطى الاجتماعي والديموغرافي والديني وذلك كالأخطاء اللغوية التي تغيّر المعنى فيتوهم الناقل أن الخطأ هو صورة صحيحة، كرواية نقلها البعض عن المدينة المنورة بأن فيها مسيحيين مع العلم أن المدينة لم تكن، في عهد رسول الله (ص)، تضمّ في ربوعها سوى اليهود والمسلمين، وهكذا...

هذه المؤثرات المختلفة قد تسهم في تغاير القراءة وبالتالي التفاوت في التحليل والرؤية، وهذا ما يزيد من القناعة بأن القراءة التاريخية ليست سوى وجهة نظر، وهي في أفضل الأحوال، قد تقرّبنا من الحقيقة، لكنها لا يمكن أن ترتقي إلى مستوى الحقيقة في أي صورة من الصور، خلافاً، لما بتوهمه المؤرخون، أحياناً، أو القرّاء. وما تجدر ملاحظته أن مسيرة المقاربات والتحليلات لا تتوقف، ولا ينبغي لها أن تتوقف، طالما أن الناس في تطور.

الفروق بين النصوص:

ذكرنا سابقاً أن النص ليس على مقعدٍ واحد أو مستوى واحد لجهة الصدقية ونقل الحقيقة والواقع، وإذا كانت كذلك، فإن التعامل معها يتفاوت من نص لآخر، ولهذا الاعتبار يجدر بنا الحديث عن كل نوع على حدة، لتمتاز الفروق، وبالتالي كيفيات التعامل معها:
1- النص الأدبي: ليس ثمة نص مهما كان طابعه خارج حسابات واهتمامات الباحث، فكل مادة تقع بين يدي الباحث يمكن الإفادة منها بحدود طبيعتها، فالنص الأدبي لا يصدر من فراغ وإنما يكتبه صاحبه ليعبّر عن مشاعر وأحاسيس فاضت بها نفس الأديب في لحظة تاريخية معينة، وأحياناً في مناسبة سياسية ما، إلا أن أسلوب التعامل معه (النص) وكيفية أخذ المعلومة تختلف عن النصوص الأخرى، فالنص الأدبي في الغالب، ينبض بالمشاعر الخاصة ويظلله خيال في حدود معينة وتسكنه انفعالات ذاتية، لا يصح إهمالها وتجاوزها، ولأنه كذلك، فهو مبللٌ بالقرائن الكثيرة التي تستدعي من الباحث التجفيف والتنقية والتعرية من المشاعر ليكون صالحاً للتحليل وبالتالي مناسباً للبحث، وما يميز النص الأدبي عن غيره أنه يعضد المادة العلمية ويساعدها أكثر من كونه مادة أساسية اللهم إلا إذا كانت المادة العلمية قليلة المؤنة، فيمكن حينئذٍ الانطلاق من إيحاءات النص الأدبي إلى فضاءات الرواية التاريخية المتكاملة. والنص الأدبي، الذي لم يكتب ليكون وثيقة تاريخية في الأساس وإنما لأغراض أخرى، عصيٌّ على الفهم وبالتالي يتطلب الكثير من الجهد لكشف الحقيقة الغائرة في أعماقه خلافاً للنصوص الأخرى.
وكثيرة المحطات التي استعان بها الباحثون بأبيات من الشعر لتأكيد وجود شخصية ما أو مكان أو لمعرفة دلالة لفظ إلى آخر ما يمكن الإفادة منه في الشعر خصوصاً والأدب عامة.

2- النص التاريخي: وهو النص الأساس الذي نستند إليه في كتابة أبحاثنا التاريخية، وهو ليس واحداً في مختلف المصادر أو الأزمان فقد يصلنا بصيغة العنعنة (عن فلان عن فلان...) وهي صيغة الكلام غير المباشر، وقد يصلنا مباشراً دون المرور عبر الرواة، كأن يكون المؤرخ هو الراوي الوحيد. والتعامل مع النصين ليس واحداً؛ فالنص الذي يصلنا عبر سلسلة من الرواة نتعامل معه بحذر أشد من ذلك الذي يأتينا مباشراً، والسبب في ذلك واضح، فتعدد الرواة يفترض وجود مجموعة أفهام لمجموعة رجال هم مجموع النقلة للخبر، ولكل منهم أغراضه ومراميه وأفهامه، وبالتالي لا يتمتع بالصدقية عينها التي يتمتع بها النص المباشر الذي ينقله المؤرخ ومع ذلك لا يجوز التعامل مع النصين ببراءة الطفل فثمة دوافع كثيرة تكمن خلف نقل الخبر يحسن التأمل بها منها:
1- التعصب لشخص أو مجموعة.
2- العداوة لذلك الشخص أو تلك المجموعة.
3- الحيادية في النقل والموضوعية في إيصال الحقيقة.
4- النقل المجرد، لكن مع جرعة من المغالطات والأوهام، منشؤها عدم تحري الدقة عند نقل الخبر.

هذه الحالات ليست من نسج الخيال فهي تعكس واقع الناس وانفعالاتهم، فبعض الناس ينقلون خبراً بداعي التضليل وإخفاء الحقيقة، والبعض الآخر لإزالة شبهة وإعادة اعتبار، والبعض الثالث لتوهين موقفٍ والتشهير بصاحبه، وآخر قد يكون مختلقاً لخلق مناخات جديدة تساعد في صناعة حدث جديد، ولا حاجة لتأكيد هذا التنوع في الدوافع فالحياة السياسية التي نعيشها تسعفنا كثيراً في إثبات هذا الواقع.

لذلك يُعَدّ النص التاريخي من الوثائق التي لا تؤخذ أخذ المسلمات، فهي مادة للتأمل والتفكير والتمحيص، وهذا يفترض الكفاءة والمهارة والخبرة في زرع النص داخل التربة التي خرج منها ليُعلم اتساقه وتناغمه مع البيئة الاجتماعية والسياسية قبل الركون إليه والبناء عليه. وسيأتي لاحقاً في إطار الحديث عن المنهج الاجتماعي كيف يعاد تركيب المشهد التاريخي الذي انبثق منه النص موضوع التأمل.

والنص التاريخي، شأنه شأن الحياة التي نعيش فيها، تعتريه عوامل الإظهار والإخفاء والمبالغة والافتعال والتحريف، لأنه صادر عن إنسان اجتماعي تتحكم به الأهواء والميول والمصالح والخوف والحماسة والعصبيات، خصوصاً إذا كان النص يقارب موضوعات السلطة والحُكّام أو الأحزاب والقوى، كما هو حال التاريخين الحديث والمعاصر. وفي المحصلة، لا وجود لنص بشري خارج تلك المؤثرات لأنه محكوم بالحسابات الخاصة أو العامة، خلافاً للنص القرآني الذي لا يأتيه الباطل.

3- النص القرآني: ينفرد النص القرآني بآحادية الاتجاه، فهو لا يتصف بالكثير من المزايا، التي سبق ذكرها في النص التاريخي، لأن عوامل الميول والمصالح والانفعالات والخوف غير واردة، وإن كانت الظرفية والآنية قد تعرض عليه كما تعرض على النصوص التاريخية، لأن بعضاً من النصوص القرآنية محكومٌ بلحظات الصراع الحرجة، كما هو حال بعض الآيات التي تحكي فصول الصراع مع المشركين أو اليهود، والتي تقيدها مطلقات "ولا تعتدوا" و "قاتلوا الذين يقاتلونكم" و "إن الله لا يحب المعتدين"، فلا يجوز للباحث أن يقفز عن الآيات المطلقة ليحكم بوجوب قتال الكافرين والمشركين في كل حين، وإلا لوقع النص القرآني بالتناقض، فمن جهة يحرّم قتال الآخرين، ومن وجهة ثانية يوجب القتال، فالتعارض الظاهر لا يرفعه إلا الوعي التاريخي للحظة نزول آية معينة ومناسبة نزول أخرى.

لكن، إذا وقفنا على الظروف الخاصة ومناسبات النزول، لا يبقى أمامنا إلا التسليم بالمضمون والأخذ به كما هو، وتنتفي كل عوامل الإخفاء والمبالغة والميول والعصبيات لأن هذه كلها لا تصدر إلا من إنسان مسكون بالخوف والمصلحة، ولا يجوز قياس الخالق عز وجل على الإنسان وجعله خائفاً أو صاحب مصلحة آنية تنافي الحقيقة.

4- نص المعصوم عليه السلام: تختلف الآراء والرؤى حول نص المعصوم، فالبعض يعتبره مساوقا للنص القرآني وموازياً له، بمعنى إمكانية الاكتفاء به في حال عدم توفر دليل واضح وصريح من القرآن الكريم، لا بل يرفع من شأنه إلى مستوى تقييد الكتاب وربما نسخ آياته، فيما يذهب بعض آخر إلى عدم إمكان الموازاة بين النصين في المطلق، وإنما يتعامل معه باعتباره يعبّر عن موقف ظرفي يستجيب لواقعة بعينها، فيكون بذلك مقيداً لإطلاق الآية ومخصصاً لعمومها.

إلا أن تأييد أو مخالفة هذين الاتجاهين يفترض مسبقاً، التأمل في الحديث النبوي وحديث المعصوم وتاريخ تدوينه وسلسلة الرواة التي تناقلت متن الحديث، فكتب الصحاح والمصنفات التي تضمنت الأحاديث جاءت متأخرة زماناً عن زمن القول أو الفعل أو التقرير، وبالتالي ينبغي التأمل في الرواة وأغراضهم وأفهماهم، إذ لا يكفي أن يكون الناقل ثقة كي نسلّم بمضمون الحديث النبوي الشريف، فثمة احتمال لعدم الفهم أو للغفلة عن نقل ملابسات الواقعة التي تناولها الحديث، وهذا كُلّه يؤثر في التسليم أو عدم التسليم بالمعنى، فضلاً عن توافقه أو تعارضه مع المباني الكلية للقرآن الكريم.

انطلاقا من هذه المؤثرات، يتبين الفرق الذي يفترض بالمؤرخ خصوصاً والباحث عموماً، أن يأخذانه بالحسبان، فلا يُكتفى بقراءة منطوق الحديث والبناء عليه دون التفكير في البناء اللغوي للنص لجهة اتساقه مع البنية اللغوية العامة للأحاديث، كما أنه لا يجوز التسليم بالمضمون إن لم يكن مترافقاً مع البنية العقدية أو التشريعية الكاملة للقرآن الكريم، إضافة إلى ما تقدّم ينبغي التوقف عند المناسبة التي وجّه المعصوم عليه السلام فيها الخطاب وذلك لإلتقاط القرائن التي احتفت في الحديث، والقرائن لا تقتصر على الأحوال بل على الأزمان أيضاً، فالحديث الذي صدر عن المعصوم عليه السلام في مكة لا يعني الشيء ذاته فيما إذا كان قد قيل في المدينة أو غيرها، وهكذا...

في هذا الإطار نسجل الفروق التالية بين النص القرآني ونص المعصوم عليه السلام:
أ-نص المعصوم عليه السلام محتف بالإجمال بقرائن زمانية ومكانية، في المقابل لا تعرض بالضرورة على النص القرآني المقيدات الزمانية والمكانية؛ فقد تعرض وغالباً لا تعرض، لذلك قيل الأصل في النص القرآني الإطلاق (أي الدلالة المطلقة) والاستثناء التقييد، والعكس في حديث المعصوم عليه السلام هو الصحيح، أي أن الأصل هو التقييد (الزماني والمكاني) والاستثناء هو الإطلاق.
ب- القرآن الكريم قطعي الصدور، بمعنى المعرفة الأكيدة بصدوره عن الباري عز وجل، لأنه لا يأتيه الباطل، بينما يحتاج نص المعصوم عليه السلام إلى دراسة دقيقة في سلسلة الرواة وصدقهم فضلاً عن درايتهم وضبطهم للمعاني.
ج- لا بُدّ أن يخضع الحديث الواصل إلينا لدراسة اللغة التي ورد فيها النص، لأنه لا يجوز إغفال احتمال الوضع والزيادة والتعديل والتحريف، خلافاً للنص القرآني المجمع على صدوره، فنص المعصوم عليه السلام ظني الصدور فيما النص القرآني قطعي الصدور.
هذه بعض الملاحظات المنهجية التي يجب مراعاتها لدى التعامل مع النصوص الشرعية عند كتابة التاريخ الإسلامي وهي ليست سواء كما ظهر من المعالجة الآنفة.

5- النص الفلسفي: لا يخرج النص الفلسفي عن نسق النصوص البشرية، بصورة عامة، وإن كان مستوى تجريديته وبُعده عن القضايا المباشرة قد توهم بتطابق المنطوق مع المفهوم والظاهر والباطن وبالتالي انتفاء التورية والمجاز.

في الواقع، لا تخرج فلسفيةُ الخطاب النص، عن كونه خطاباً بشرياً يختزن القناعات والميول والتطلعات والمصالح ويعبّر عن مستوى من مستويات الوعي التاريخي في زمنه؛ وعليه لا يجوز التعاطي مع مضمونه على أنه يعبّر عن حقائق ثابتة، وقد اشتغل الكثيرون من الفلاسفة والمفكرين على نصوص فلسفية جدية كنظرية المعرفة الأفلاطونية وظاهرية الروح لهيغل وبيّنوا الخلفية الأيديولوجية التي توجّه الخطاب.

فقول أفلاطون بأن الفلاسفة، حصراً، هم القادرون على كشف الحقائق، يعكس رغبة خفية لدى هذا الفيلسوف في قيادة المجتمع لأنه، بنظره، الأكثر أهلية لذلك، وقول هيغل بأن للتاريخ روحاً تقوده إلى الدولة، وأن الدولة البروسية هي التعبير الفعلي والتجسيد الواقعي لتلك الروح، يدل على وجود خلفيات أيديولوجية في النص الفلسفي.

وعندما يخرج أحد المفكرين العرب على إحدى الشاشات العربية للقول بأنا لحركة الوهابية أهم من الثورة الفرنسية، ألا تكشف هذه المبالغة عن خلفية ما تتحكم بقاع تفكير هذا المفكر؟.
ما نريد قوله بعد هذا البيان، أن الباحث، كما كان مسكوناً بالحذر في قراءته للنصوص السياسية والأدبية، لا بُدّ أن يتعامل بالحذر نفسه في تعامله مع النص الفلسفي، وإن بدا الأخير أكثر رصانة وجدية قياساً على النصوص الأخرى.

مناهج البحث العلمي:
ثمة مستويات يجدر بالباحث الاشتغال بمقتضاهما ليتوصل إلى النتائج العلمية (العلمي، هنا، لا يعني الحقيقة) وهذان المستويان هما:
أ- طرق استخلاص النتائج (سبل الاستنتاج).
ب- الحقول البحثية التي تساعد في الاستنتاج (مناهج البحث)

يخلط الكثيرون ممن اشتغلوا في المناهج بين آليات التفكير المفضية إلى استخلاص النتائج وبين ميادين البحث التي تزود تلك الآليات بالمعطى الواقعي للأحداث التاريخية، فهناك عملٌ عقلي محض دائرته الوحيدة هي الذهن، وعملٌ بحثي مسرحه النصوص والمعطيات والوقائع التاريخية والاجتماعية، وكلا العملين يتكاملان في جهد متساوق لبلورة الموقف وبالتالي استخلاص النتيجة التي هي غاية البحث برمته، ولذلك آثرنا التمييز بين طرق الاستدلال (سبل الاستنتاج) وبين مناهج البحث ليكون المشتغل في حالة وعي تام لخطواته.

طرق استخلاص النتائج: هناك سبيلان، لا ثالث لهما، بإمكان الباحث اعتمادهما، أو تخيّر أحدهما للوصول إلى النتيجة المتوخاة:

1- الإستقراء: ويعني الانتقال من الخاص إلى العام أو من الجزئي إلى الكلي، بمعنى متابعة الوقائع المتشابهة في أكثر من مناسبة وملاحقة النتائج المترتبة على تلك النتائج، فإذا كانت كل الأحداث المتشابهة قد أفضت إلى خُلاصات متناظرة، فهذا يعني الحكم بوجود قاعدة كلية تكون هي محصلة ما توصلت إليه المتابعات التفصيلية، وهذا السبيل في الاستنتاج لا ينحصر بالبحث التاريخي وإنما تعتمده مختلف العلوم التطبيقية والنظرية؛ فقاعدة تبخّر الماء على درجة مئة، لم تثبت قبل معاينة أكثر من حالة غليان للماء في غير مكان وزمان، وكذلك تمدّد الحديد بفعل الحرارة، وكذلك الأمر نجده مطبقاً في الطب عندما يعاين الطبيب المختص أعراضاً متشابهة لإلتهابات القصبة الهوائية ليجد أن كل حالة كانت بسبب "فيروس" محدد، فتكون النتيجة أنه عندما يخترق الجسد هذا "الفيروس" المحدد فإن التهابات صدرية معينة ستقع حتماً وهكذا...

في البحث التاريخي، يمكننا مراقبة ظواهر في مجتمع ما أو مجتمعات عدة بدءاً بالعوامل المتضافرة في خلق الظروف مروراً بوقوع الحدث وانتهاءًا بالآثار المترتبة والتداعيات الناتجة، ثم دراسة ظواهر مشابهة في غير مكان، للحصول على خلاصة كلية مستنبطة من الجزئيات الكثيرة وكمثال على ذلك يمكننا دراسة تجربة المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان أثناء حرب تموز 2006 لجهة المناخات الدولية والإقليمية والمحلية والتي شكلت الإرادة لدى الاحتلال لاتخاذ قرار بالعدوان، ثم رؤية قيادة المقاومة وواقع الالتفاف الشعبي حولها والإعداد الميداني والتخطيط والإرادة التي أدّت مجتمعة إلى هزيمة الهجوم الإسرائيلي وبالتالي وقف كافة التداعيات التي أريد لها أن تتوسع في المنطقة وصولاً إلى ولادة "الشرق الأوسط الجديد"، وبما أن حدثاً تاريخياً واحداً لا يسمح ببلورة حكم عام بحتمية انتصار أي مقاومة تتوفر لها المناخات نفسها والقيادة المشابهة والالتفاف الجماهيري المماثل، فلا بدّ من البحث عن تجارب أخرى كالمقاومة الفيتنامية والجزائرية وأخيراً المقاومة في غزّة التي استطاعت أن تحقق إنجازاً مماثلاً لما حدث في تموز 2006 مع تشابه الظروف الدولية والإقليمية والمحلية والإرادة والإعداد والالتفاف الشعبي والصمود والصبر. فإذا كانت الدراسة المقارنة كافية لاستخلاص العبر ساعتئذٍ يصبح بوسع الباحث التاريخي أن يثبّت النتيجة ويعطي الحكم العلمي المناسب.
ما سقناه آنفاً، يمكن تطبيقه على جزئيات أخرى أضيق دائرة، كأن نختبر إرادة الصمود لشعب معين في أكثر من اختبار قاسٍ كوقفة سكان جنوب لبنان، بثبات، في محطات عدة، بالرغم من قسوة التجارب، كعدوان تموز 1993 وعناقيد الغضب نيسان 1996 والتحديات والمصاعب التي تلت تلك الأحداث وصولاً إلى عام 2000 والتي تشي بثبات، يصح البناء عليه، للرأي العام اللبناني عموماً والجنوبي خصوصاً.

انطلاقاً من هذا السبيل لاستخلاص العبِر والنتائج، يضحى الاستقراء طريقاً شبه آمنٍ في مجرى البحث التاريخي، وبالتالي يصبح بالإمكان سلوكه في عملية بناء قاعدة تاريخية أو مبدأ مجرّب أو سُنّة اجتماعية.

2- الاستنباط: وهو يعني الانتقال من الكلي إلى الجزئي، أي التحوّل من الفرضية إلى مرحلة البحث عن الشواهد. وهذا السبيل وإن كانت بدايته فرضية إلا أن طرق الإثبات تنحصر في عمليتي الوصف والاستقراء أيضاً وذلك لسرد الأدلة والقرائن الداعمة والمؤيدة لتلك الفرضية. فسقوط الاتحاد السوفياتي (مثلاً) قد تحمل الباحث على الافتراض بأن الملكية العامة لوسائل الإنتاج وانعدام الحوافز للأفراد سيؤديان إلى تحكم البيروقراطية وإلى ضعف الإنتاجية وتقادم المصانع وتدني الدخل وبالتالي الناتج الوطني وهذا كله سينعكس على القوة الشرائية للمواطنين وإلى الموت البطيء للاقتصاد. هذا الفرضية، كما هو حال أي فرضية علمية بحاجة إلى وقائع وأرقام وقياسات لمعدلات الدخل والتضخم والقوة الشرائية.. الخ، هذا الوصف بالدقة المطلوبة يسعف الباحث في تأكيد الفرضية، غير أنه لا يرقى إلى مستوى جعل هذه الفرضية قانوناً عاماً، ولكي تتحول إلى قاعدة كلية تحتاج إلى معاينات لأوضاع أخرى في دول مختلفة، فإن تشابهت العوارض في مختلف أشكالها فحينئذ يمكننا الجزم بأن مبدأ الملكية العامة لوسائل الانتاج المتصاحبة مع محدودية الدخل وبالتالي انعدام الحوافز ستفضي حتماً إلى تهالك الدولة ومؤسساتها الأمر الذي يسهّل سقوطها.
وقد حمل إلينا التاريخ الكثير من الاكتشافات والقوانين التي بدأت بفرضية كلية ثم دأب الباحثون على التدقيق في صوابيتها ودقتها من خلال المعاينات الجزئية؛ فقانون الجاذبية الذي انقدح به عقل نيوتن لم يرتقِ إلى مستوى العلمية والقوننة إلا بعد تجارب مختلفة وكذلك قانون أرخميدس وغيرهما من المكتشفين.
وما يجدر ذكره هنا، أن المنهج الوصفي الذي يتكئ عليه الباحثون والعلماء ليس منهجاً مستقلاً يقف في صف السبيلين السابقين أو المناهج التي سنتناولها بعد قليل وإنما هو منهج ضروري ولازم في مختلف المراحل التي سلف ذكرها أو التي سنذكرها لاحقاً، فالوصف للوقائع من مستلزمات البحث ولا تتقوّم نتيجة ما دون سرد الوقائع ووصف الحوادث بتفاصيلها.

مناهج البحث:

هناك عدد غير قليل من مناهج البحث التي يمكنها أن تتحول إلى حقول بحيثة مستقلة كالمنهج التاريخي والاجتماعي والفكري والنفسي والاقتصادي، إلا أن الأهم في هذه المناهج والتي يعوّل الباحثون عليه كثيراً ينحصر في المنهجين الأولين أي: المنهج التاريخي والمنهج الاجتماعي اللذين يستحقان التوضيح والبلورة فبدونهما لا يستقيم بحث علمي في حقل التاريخ بأي صورة من الصور.

1- المنهج التاريخي:
يعتبر المنهج التاريخي أحد الأسس التي تبنى عليه الأبحاث تاريخية كانت أم غير تاريخية، ولا نغالي إذا قلنا؛ أن المنهج، موضوع المعالجة، حاجة يتطلبها البحث الاجتماعي والفلسفي والفقهي والنفسي واللاهوتي (الكلامي) وغيرها من الحقول، فهو الذي يحدد الإطار التاريخي للحدث أو الواقعة وعندما نقول الإطار التاريخي نقصد الظروف السياسية والإجتماعية والإقتصادية والنفسية التي كانت تغلّف تلك اللحظة أو الحقبة التاريخيتين. أما الكيفية التي بها نسبر التاريخ للوصول إليها فهذا ما نرمي إلى بلورته والحديث عنه.

ليس التاريخ حقلاً منسبطاً يسهل الحرث فيه وإنما هو جبل شاهق يستبطن طبقات عديدة من الحقبات التاريخية، لكل حقبة سماتها الثقافية والاجتماعية وخصوصيتها السياسية والحضارية، إلا أنها متفاعلة مع ما قبلها ومؤثرة فيما بعدها. فالحقبة ليست مقطوعة الصلة عن الماضي أو مفصولة عن المستقبل لكنها في الوقت عينه ليست الحقبة الما قبل ولا المابعد، ماذا يعني هذا بالنسبة للباحث؟

ما يعنيه، الكلام السابق، هو أن المعالجة لحدث ما ينتمي حقبياً إلى طبقة معينة لا تتم على أرضية حقبة أخرى أو طبقة ثانية، وهذا يفترض الحفر في الجبل التاريخي واختراق الطبقات واحدة تلو الأخرى للوصول إلى الحقل المراد الاشتغال فيه حيث تتضارب المصالح والقوى والتنافس وتزدحم التعابير والمفردات وتظهر السمات الحضارية الخاصة بذلك الزمان. فالطبقة التاريخية هي بمثابة وحدة سياسية وثقافية وحضارية لها أعرافها وتقاليدها وتشريعاتها وآليات اشتغال السلطة وقواعد التنافس والصراع، وأي محاولة نقلٍ لأعرافنا وتقاليدنا وتشريعاتنا ومفرداتنا الحضارية والثقافية إلى تلك الطبقة المفصولة عنا تعد عملاً إسقاطياً لا يمت إلى الموضوعية والعلمية بصلة.

فمفردات الديمقراطية والحرية وتداول السلطة واقتصاد السوق والطبقة الوسطى وقوى الضغط وحقوق الإنسان وغيرها من المفردات التي تتداولها أدبيات السياسة والاقتصاد في العصر الحديث لم تكن معروفة البتة في العصور الإسلامية المختلفة، فكيف والحال هذا أن يحمل الباحث الأدوات المعرفية وأدبيات الحياة المعاصرة ويتجه بها في رحلة الخرق للطبقات التاريخية وصولاً إلى المرحلة المراد البحث فيها؟

فالعصور الوسطى سواءًا كانت في أوروبا أم في المشرق لم تكن تعرف انتقالاً للسلطة بواسطة الانتخابات ولا حتى بالشورى وإنما وفق نظام التوريث حيث يرث الابن أو الأخ أباه أو أخاه الحكم، وكان يقتصر دور الناس على الإذعان والقبول القسري، وكانت الأمور تجري دون اعتراضٍ يعتد به وإن حصل فلا يعدو الدائرة الضيقة التي تتم ضمنها عملية انتقال السلطة، وهذا يعني أنه لا وجود لرأي عام ضاغط ولا معارضة سلمية أو محاولة التأثير عبر الندوات والمسيرات والخطب وغيرها، فكيف يمكن تحليل الواقع التاريخي الوسيط بأدوات معرفية تنتمي لفضائنا السياسي والثقافي؟

وإذا كانت المناخات السياسية والاجتماعية مختلفة كثيراً فهي كذلك في الفكر والثقافة والدين وعلم الكلام، ولذلك نلمس تحجّر بعض الفئات التي تغرف من إناء العصور الوسطى قضايا إشكالية ومسائل كانت، يومذاك، موضوعات خلافية استنزفت الكثير من جهود السلف، فالفقه الذي احتاجه السلف لحل معضلاته في زمانه ليس، بالضرورة، أن يكون هو عينه الذي نحتاجه في أيامنا وكذلك علم الكلام الذي كان مشغولاً بقضايا الجبر والتخيير وخلق القرآن ومرتكب الكبيرة وغيرها لا يمكنه أن يستمر في معالجة تلك القضايا ويغض الطرف عن المسائل الشائكة والقضايا الحارة التي تؤرّق حياتنا المعاصرة، كمسائل تداول السلطة، وحقوق الأقليات والحريات العامة ومحاسبة المسؤول والمواطنة وتكافؤ الفرص وغيرها الكثير التي يحظر علينا معالجتها في مجتمعاتنا العربية والإسلامية.

في العقود الماضية خرج علينا الكثيرون ممن أسقطوا مفردات القرن العشرين على صدر الإسلام، وأطلقوا أحكاماً معيارية على تجارب مغايرة تماماً كوصف الإسلام بالإشتراكي أو أبي ذر الغفاري بالوصف عينه، أو تجربة السقيفة بالدبمقراطية إلى آخر ما تفتقت به عقول بعض الباحثين المشهورين في غير قطر عربي أو إسلامي.

إذاً يحاول المنهج التاريخي أن يشق طريقاً عبر الزمن إلى حيث نريد التقصي والبحث، وهو يسعفنا في مقاربة الواقع، المبحوث عنه، قدر الإمكان فيجردنا من خصوصياتنا، ما أمكن، ويُلْبسنا ثوب واقع آخر قدر المستطاع، وهذا لا يعني التجرد من همومنا وقضايانا وتحدياتنا، فالبحث التاريخي ليس بحثاً منزوع الأغراض والدوافع وهو، يظل مجبولاً بروح ثقافتنا ووعينا، إلا أنه ليس واقعنا الذي نعيش وإنما هو واقع آخر غريب عنّا ومختلف عن حالنا تماماً.

2- المنهج الاجتماعي:
إذا كان المنهج التاريخي يحفر عامودياً في التاريخ للوصول إلى حقل الدراسة المراد قراءته فإن المنهج الإجتماعي يرمي إلى التوسع في الحقل أفقياً، ولذلك كان متأخراً في الرتبة عن المنهج التاريخي، وإن كان المطلوب تفاعل المنهجين وتكاملهما. والجدير ذكره، هنا، أن المنهج الإجتماعي، الأنثروبولوجي، هو الأخصب لجهة الميادين التي يستهدفها، فهو يجول في الاقتصاد والثقافة والفنون والسياسة والأعراف والتقاليد والمفاهيم الضابطة لإيقاع نبض الناس في حقبة تاريخية محددة، فالتاريخ يسافر بنا في الزمن إلى المحطة المقصودة والاجتماع يدخلنا في الظروف والمناخ العام وكِلا المنهجين يتضافران في بلوة المشهد ورسم الصورة التقريبية التي وقع في داخلها الحدث، المزمع البحث فيه ومعالجته. وهذا السبيل في البحث يغاير، إلى حدود بعيدة، ما كان معتمداً في البحث التاريخي، حيث كان المؤرخ يحصر اهتمامه بالواقعة عينها دون أن يكلّف نفسه عناء التقصي والتوسع في علائق تلك الواقعة بالظروف المختلفة، وكما أشرنا سابقاً، لا يكفي أن نتزود بالروايات التاريخية المعزولة عن سياقاتها الاجتماعية والاقتصادية لنعالج حدثاً، ما، وإنما يستلزم البحث في زرع تلك الروايات والأخبار والوثائق والصور والنصوص في التربة التي أنتجتها وهذه التربة معقدة ومركّبة وهي خلاصة تفاعل الاجتماعي بالاقتصادي بالسلطوي وبالثقافي، وحين نربط الواقعة بمختلف خيوطها التي تشكل النسيج الحاضن عندها نكون قد هيّأنا المناخ العام والمعطيات المقبولة للبحث.

وإذا أخذنا الحرب الأميركية الأخيرة على العراق لا يكفينا لإنضاج القراءة العلمية أن ندوّن تصريحات الرئيس الأميركي جورج بوش والرئيس العراقي صدام حسين لنحيك سجادة البحث، فالأمر أشدّ تعقداً من ذلك؛ فالحرب لا تبلورها تصريحات وظروف خاصة وإنما تتفاعل جملة ظروف لإنضاجها؛ فثمة مشهد دولي وآخر إقليمي وثالث محلي وكلها تكاملت في عقول أصحاب القرار إلى حدود القناعة بنجاح العملية ووصولها إلى مبتغاها، فالمشهد العراقي الداخلي المتمثل بالفقر والتجويع والانقسام الحاد في الشمال والغرب والوسط والجنوب والاستبداد والقمع فضلاً عن التعب من الحروب المتتالية جاء، أي المشهد، ليتفاعل مع الإندفاعة الأميركية بعد أحداث 11 سبتمبر عام 2001 في نيويورك ويتضافر مع تأييد عربي مجاورٍ للعراق ترجمه وجود تسهيلات عسكرية غير مسبوقة، إضافة إلى لحظة خللٍ في موازين القوى الدولية بعد تواري روسيا عن الأنظار وانكفائها على نفسها وعجز أوروبي غير مسبوق؛ كُلّ ذلك حَفّز الأميركيين على خوض الحرب التي توفرت لها قناعة استراتيجية لدى صنّاع القرار الأميركي بضرورة الإمساك بالعراق وبالتالي تغيير موازين القوى في المنطقة. إذاً، لم تكن الحرب نتيجة توفر عاملٍ واحد أو عددٍ قليل من العوامل وإنما تقاطعت جملة من العوامل ولّدت قناعة لدى الأميركيين بوجود فرصة سانحة لتحقيق الأهداف.

كذلك حرب تموز في لبنان، فهي لم تكن حرباً خارج الحسابات الدقيقة لجهة واقع الانقسام اللبناني الذي وصل إلى الذروة عقب استشهاد رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، فضلاً عن التمحور العربي بين مؤيد للمقاومة في لبنان ورافض لها إلى جانب تفاقم الواقع الاقتصادي اللبناني وارتفاع منسوب المديونية التي تأخذه إسرائيل بعين الاعتبار، ويضاف إلى كل ما سبق التأييد الدولي المعلن والمضمر كل ذلك ساهم في إنضاج الموقف الإسرائيلي الرامي إلى القضاء على المقاومة. فلحظة الحدث وإن كانت في الزمن كأي لحظة لكنها بالمعنى السياسي تكون كثيفة لما تختزنه من عوامل ومؤثرات ذات طابع سياسي مشفوعاً بالاجتماعي والاقتصادي وأحياناً الجغرافي والاستراتيجي. فالمنهج الاجتماعي يرمي إلى متابعة القوى الفاعلة وتناقضاتها وتقاطعاتها وواقع الناس في الاقتصاد والسياسة، فكما أن المنهج التاريخي يسعفنا للوصول عبر الطبقات التاريخية إلى حيث نريد فإن المنهج الاجتماعي يرشدنا لالتقاط النبض والروح اللذين يضج بهما المجتمع في تلك الطبقة من جبل التاريخ.

ما تقدّم لا يعني أن هذين المنهجين يختصران كلّ المناهج فثمة العديد من طرق التفكير والبحث لا يجوز التغاضي عنها واستبعادها، فالباحث لا يمكنه بحال تجاهل الجغرافية و"الجيوبولتيك" في قراءة الأحداث التاريخية الكبيرة، فليس باحثاً جاداً من لا تلازمه الخرائط ومواقع الحروب وتأثيراتها، ذلك أن جُلّ الحروب التي جرت في التاريخ كانت محكومة لاعتبارات الجغرافية والإستراتيجية؛ فالحرب على العراق لا تفهم على حقيقتها إن لم نضئ على موقعها في الخليج وقربها من منابع النقط ومجاورتها لإيران وسورية، وكذلك "جورجية" بالنسبة لروسية، وللمرء أن يتساءل عن سِرّ عدم الاستقرار في الصومال على امتداد العقدين الماضيين وعن علاقة موقعها على مدخل البحر الأحمر الجنوبي في ذلك كُلّه، كذلك القضية الفلسطينية وسِرّ الدعم الدولي المؤثر للكيان الإسرائيلي الذي يجثم على بعقة تفصل أفريقيا عن آسيا والدول العربية المغربية عن دول المشرق العربي... الخ.

فالجغرافية في البحث التاريخي كالاجتماعي والاقتصادي بل قد تكون أحياناً أهم من ذينك العاملين السالفين.
وهناك مناهج أخرى، كالمنهج النفسي الذي بدأ يشق طريقه في البحث العلمي لأهميته ودوره في وقوع الحدث أو اجتنابه ولإمكانية كشفه عن ديناميات المجتمع وحوافزه وطاقاته الروحية والنفسية وحساسيته أو عدمها إزاء امتهان الكرامة الوطنية أو الدينية فكم من الحروب التي خاضتها شعوب كرد اعتبار لإهانة طالت أمة أو زعيماً؟ وبما أن المنهج لا يتسع لكل تلك الإطلالات المنهجية اكتفينا بما سبق على أمل المزيد.


1- الهمزة الأية2-3
2- القصص 83
3- آل عمران

12-05-2010 | 15-22 د | 8293 قراءة

الإسم
البريد
عنوان التعليق
التعليق
لوحة المفاتيح العربية
رمز التأكيد


 
صفحة البحــــث
سجـــــــل الزوار
القائمة البريـدية
خدمــــــــة RSS

 
 
شبكة المنبر :: المركز الإسلامي للتبليغ - لبنان Developed by Hadeel.net