إنّ الهدف من خلق الإنسان هو الوصول إلى القرب الإلهي، وأمَّا هذا الهدف فلا يتحقّق
من دون التزكية وتهذيب النفس. أشار الله تعالى في الآيات الأولى من سورة الشمس إلى
ضرورة وأهمية تزكية وتهذيب النفس ثم بَيَّن بعد قسم مكرر وقاطع وتأكيد كبير[1] على
أن:
﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَ﴾[2].
ونحن نعلم أنّ القسم في القرآن الكريم كلما كان محكماً قاطعاً، فهو يشكل دليلاً على
أهمية المسألة وكونها مصيرية وأساسية، لذلك كان لتهذيب النفس موقع عالٍ في حياة
الإنسان فإذا أراد الإنسان الفلاح، يجب عليه أن يبادر إلى التزكية وإلا كان محروماً
من السعادة والفلاح.
من جهة أخرى التزكية غير ممكنة من دون أستاذ وبرنامج ووصايا عملية محددة. لذلك كان
وجود هذه الأمور ضرورياً.
يقول الإمام الخميني قدس سره: "التفتوا، لا تفرقوا بعد خمسين عاماً في جهنم بعد كد
اليمين وعرق الجبين، فكروا في تنظيم برنامج للتهذيب وتزكية النفس وإصلاح الأخلاق،
وعينوا أستاذاً محدداً الأخلاق"[3].
يعتبر آية الله القاضي رضوان الله عليه واحداً من كبار علماء الأخلاق حيث تُعَدّ
وصاياه الأخلاقية منارة لدروبنا التي نستفيد منها في الوصول إلى مراحل المعنويات
العالية.
يتحدث الإمام الخميني قدس سره حوله قائلاً: "كان القاضي جبلاً من العظمة ومقام
التوحيد"[4].
يقول العلامة الطباطبائي قدس سر ه: "إن كل ما لدينا في هذا الخصوص، هو من المرحوم
القاضي. إن كل ما تعلمناه في حياته واستفدناه من محضره، وأن الطريق الذي نسير به،
كل ذلك من المرحوم القاضي"[5].
يقول آية الله السيد هاشم الحداد: "منذ صدر الإسلام وحتى اليوم، لم يأتِ عارف
بجامعية المرحوم القاضي"[6].
وصيته الأخلاقية:
كان آية الله السيد علي القاضي يطلب من طلبته وتلامذة السير والسلوك كتابة رواية
عنوان البصري في سبيل تجاوز مرحلة النفس الأمّارة والأهواء النفسانية ومن ثم العمل
طبقها، أي أن أحد أهم وصاياه العمل طبق مضمون هذه الرواية. وفي هذا الاطار كان
يقول: يجب أن تحتفظ بها في جيبك وعليك أن تطالعها مرة أو مرتين في الأسبوع. إن هذه
الرواية هامة للغاية وهي تحتوي على مطالب جامعة تبين كيفية المعاشرة والخلوة وكيفية
ومقدار الطعام وكيفية تحصيل العلم وكيفية الحلم ومقدار التواضع وتَحّمل الشدائد
أمام الافتراءات. وفي النهاية تبين مقام العبودية والتسليم والرضا والوصول إلى أعلى
قمم العرفان والتوحيد. لذلك كان لا يقبل من تلامذته عدم الالتزام بمضمون هذه
الرواية[7].
ينقل عنوان البصري هذه الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام حيث سنحاول الاكتفاء
بجزء منها رعاية للاختصار، فنركز على الجزء المتعلق ببعض الوصايا. سأل عنوان البصري
الإمام الصادق عليه السلام عن حقيقة العبودية، فكان جواب الإمام عليه السلام:
"ثلاثة أشياء: أن لا يرى العبد لنفسه فيما خَوَّله الله ملكاً لأن العبيد لا يكون
لهم ملك، يرون المال مال الله يضعونه حيث أمرهم الله به ولا يدبر العبد لنفسه
تدبيراً وجُمْلَةُ اشتغاله فيما أمره تعالى به ونهاه عنه، فإذا لم يَرَ العبد لنفسه
فيما خَوَّله الله تعالى ملكاً هان عليه الانفاق فيما أمره الله تعالى أن ينفق فيه
وإذا فوض العبد تدبير نفسه على مدبره هان عليه مصائب الدنيا، وإذا اشتغل العبد بما
أمره الله تعالى ونهاه لا يتفرغ منهما إلى المراء والمباهاة مع الناس.
فإذا أكرم الله العبد بهذه الثلاثة هان عليه الدنيا وابليس والخلق ولا يطلب الدنيا
تكاثراً وتفاخراً ولا يطلب ما عند الناس عزاً وعلواً ولا يدع أيامه باطلاً. فهذا
أول درجة التقى. قال الله تبارك وتعالى:
﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا
لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ﴾[8]".
ثم إن عنوان البصري طلب من الإمام عليه السلام أن يوصيه.
قال عليه السلام: "أوصيك بتسعة أشياء فإنها وصيتي لمريدي الطريق إلى الله تعالى
والله أسأل أن يوفقك لاستعماله. ثلاثة منها في رياضة النفس وثلاثة منها في الحلم
وثلاثة منها في العلم فاحفظها وإياك والتهاون بها".
ثم إنّ عنواناً أفرغ قلبه للإمام عليه السلام الذي شرع قائلاً: "أما اللواتي في
الرياضة فإياك أن تأكل ما لا تشتهيه فإنه يورث الحماقة والبله ولا تأكل إلا عند
الجوع وإذا أكلت فكل حلالاً وسمّ الله واذكر حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:
"ما مَلأَ أدميٌّ وعاءً شراً من بطنه. فإن كان ولا بد فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث
لنفسه".
وأما اللواتي في الحلم فمن قال لك "إنْ قلت واحدة سمعت عشراً"، فقل: "إن قلت عشراً
لم تسمع واحدةً" ومن شتمك فقل له "إن كنت صادقاً فيما تقول فاسأل الله أن يغفر لي
وإن كنتَ كاذباً فيما تقول فالله أسأل أن يغفر لك" ومن وعدك بالخنى فَعُدْهُ
بالنصيحة والرعاء.
وأما اللواتي في العلم: "فاسأل العلماء ما جهلتَ وإياك أن تسألهم تعنتاً وتجربةً
وإياك أن تعمل برأيك شيئاً وخذ بالاحتياط في جميع ما تجد إليه سبيلاً واهرب من
الفتيا هربك من الأسد ولا تجعل رقبتك للناس جسراً.
قم عني يا أبا عبد الله فقد نصحت لك ولا تفسد عليَّ وردي فإني امرُؤٌ ضنينٌ بنفسي
والسلام على من اتبع الهدى"[9].
م. قهرمانيان
[1] في الآية الشريفة
أحد عشر قسماً وثلاثة عشر لا تأكيد.
[2] سورة الشمس، الآيتان 9 . 10.
[3] روح الله الموسوي الخميني، الجهاد الأكبر، طهران، انتشارات أمير كبير، 1360،
ص31.
[4] محمد حسين حسيني الطهراني، الروح المجرد، طهران، انتشارات حكمت، 1414هـ.ق، ص
285.
[5] صادق حسن زاده، قدوة العرفاء، قمك، انتشارات آل علي، الطبعة الخامسة، 1379،
ص71.
[6] الروح المجرد، ص174.
[7] محمد حسين حسيني الطهراني، الروح المجرد، انتشارات حكمت، 1414هـ.ق، ص175.
[8] سورة القصص، الآية: 83.
[9] محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج1، الباب 7، آداب طلب العلم وأحكامه، ص225 .
226.