معنى الجدال: يرى الشيخ الطوسيّ رحمه الله في تفسيره "التبيان" أنّ "حقيقة المجادلة
المقابلة بما يفتل الخصم من مذهبه بالحجّة أو شبهه، وهو من الجدل لشدّة الفتل،
ويقال للصقر أجدل لأنّه أشدّ الطير".ويرى الراغب الأصفهانيّ: "الجدال المفاوضة على
سبيل المنازعة والمغالبة، وأصله من جدلت الحبل أي أحكمت فتله.. فكأنّ المتجادلين
يفتل كلّ واحد الآخر عن رأيه".
ويقول الطريحيّ: "وهو الّلدّ في الخصام وهي مقابلة الحجّة بالحجّة".
الجدال في القرآن
ورد ذكر الجدال في القرآن الكريم في ثلاثين موضعاً ضمن عدّة سياقات وعدّة استعمالات
ومعانٍ، منها:تارة ينهى الله تعالى عنه في مواضع محدّدة: ﴿فَلاَ رَفَثَ وَلاَ
فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ .وتارة يريد به الجدال بالباطل لدحض
الحقّ:﴿وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ
الْحَقَّ﴾.﴿مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُو﴾ . وتارة
أخرى يشير إلى اتّهام الكفّار للأنبياء عليهم السلام به: ﴿قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ
جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ﴾ ومرة يستعمله في الدفاع عن النفس:﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ
تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ
يُظْلَمُونَ﴾﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ
الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ
الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾
ويشير إليه كصفة عامّة للإنسان: ﴿وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلً﴾.
ويستعمله بمعنى المحاورة والمراجعة ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ
سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى
اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾.
ويظهر من هذه الآيات القرآنية المباركة أنّ للفظ "الجدال" معاني متعدِّدة، ويشمل
كلّ أنواع الحديث والكلام الحاصل بين طرفين، سواء كان إيجابياً أم سلبياً. وهذا
يقودنا إلى تقسيم الجدال إلى قسمين أساسين.
1- الجدال الإيجابيّ
إنّ البحث والكلام والاستدلال والمناقشة لأقوال الآخرين ، إذا كان لإحقاق الحقّ
وإبانة الطريق وإرشاد الجاهل، فهو عمل مطلوب يستحقّ التقدير, وقد يندرج أحياناً في
الواجبات, فالقرآن لم يعارض أبداً البحث والنقاش الاستدلالي والموضوعيّ الّذي
يستهدف إظهار الحقّ، بل حثّ على ذلك في العديد من الآيات القرآنية. وفي مواقف
معيّنة طالب القرآن الكريم المعارضين بالإتيان بالدليل والبرهان فقال: ﴿قُلْ
هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾. وفي المواقف الّتي كانت تتطلّب
إظهار البرهان والدليل ذكر القرآن أدلّة مختلفة.
نماذج من الجدال الإيجابيّ
لقد قدّم الأنبياء عليهم السلام نماذج رائعة في الجدال الإيجابيّ الّذي يهدف إلى
الدعوة إلى الله، ويمتزج بالعاطفة والحبّ والرأفة، منها ما ورد في آخر سورة "يس"
حين جاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يمسك بيده عظماً
وسأله كما ورد في القرآن الكريم: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ
مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ *قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا
أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ *الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ
الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم
بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا
أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ ، فذكر القرآن الكريم عدداً من الأدلّة على
لسان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المعاد وقدرة الخالق على إحياء
الموتى.ومنها ما في كلام إبراهيم عليه السلام وأدلّته القاطعة أمام النمرود:﴿
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ
الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا
أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ
الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾.
2- الجدال السلبيّ
وفي المقابل نجد أنّ أغلب الإشارات القرآنية حول المجادلة تشير إلى النوع السلبيّ
منها، حيث كان الكفّار يواجهون أنبياءهم ويطمسون الهداية عبر الجدال بالباطل
والتمسّك بالآراء الفاسدة الموروثة أو المبتناة على الحجج الواهية.
إنّ السخرية والاستهزاء والتهديد والافتراء والإنكار الّذي لا يقوم على دليل، هي
مجموعة من الأساليب الّتي يعتمدها المضلّون إزاء الأنبياء عليهم السلام ودعواتهم
الكريمة.وقد ذمّ القرآن الكريم هذا الجدال في كثير من الآيات.
ويذكر القرآن الكريم نماذج من مجادلات أهل الباطل لإثبات دعاواهم الباطلة من خلال
استخدام المغالطات الكلامية والحجج الواهية لإبطال الحق:إنكارهم البعث وإحياء
الموتى متذرّعين بحجج واهية، قال تعالى: ﴿وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا
وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدً﴾.﴿أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ
إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ
هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ﴾.
كون الأنبياء من البشر:﴿مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا
تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ *وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا
مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ﴾ .لذلك رفضوا الاستجابة للأنبياء
وكذّبوهم ووصلوا إلى النتيجة التالية: إِنْ هُوَ ﴿إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى
اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ﴾. وغيرها من المجادلات الّتي
نقلها القرآن الكريم، وردّ عليها بأبلغ بيان.
3- أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة
ما المراد من الحكمة؟
الحكمة تعني: العلم والمنطق والاستدلال، فأوّل خطوة على طريق الدعوة إلى الحقّ هي
التمكّن من الاستدلال وفق المنطق السليم. والهدف هو تحريك العقول، والنفوذ إلى داخل
فكر الناس. قال الله تعالى: ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا
كَثِيرً﴾.وفسّر الإمام الكاظم عليه السلام الحكمة في آية: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا
لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ﴾ لهشام بن الحكم بالفهم والعقل.
وعرّفها الراغب بقوله: "الحكمة إصابة الحقّ بالعلم والعقل. فالحكمة من الله تعالى
معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الإحكام، ومن الإنسان معرفة الموجودات وفعل
الخيرات...".
ما المراد من الموعظة الحسنة؟
الموعظة هي الخطوة الثانية في طريق الدعوة إلى الله تعالى،بالاستفادة من عمليّة
تحريك الوجدان الإنسانيّ، وذلك لما للموعظة الحسنة من أثر فاعل على عاطفة الإنسان
وأحاسيسه، ومعناها:"النصح والتذكير بالعواقب. وقال ابن سيده:هو تذكيرك للإنسان بما
يليّن قلبه من ثواب وعقاب".عن أمير المؤمنين عليه السلام: "المواعظ صقال النفوس،
وجلاء القلوب".
ما المراد بالمجادلة بالّتي هي أحسن؟قال الشيخ الطوسي: الجدال بالّتي هي أحسن: "فتل
الخصم عن مذهبه بطريق الحجاج" .أو هو أن يجادلهم على ما قد يحتملونه، كما جاء في
الحديث: " أُمرنا معاشر الأنبياء أن نكلّم الناس على قدر عقولهم".ويرى العلّامة
الطباطبائيّ: أنّه "الحجّة الّتي تُستعمل لفتل الخصم عمّا يصرّ عليه وينازع فيه من
غير أن يريد به ظهور الحقّ، بالمواخذة عليه من طريق ما يتسلّمه هو والناس أو
يتسلّمه هو وحده في قوله أو حجّته" .
الفرق بين الحكمة والموعظة
الحكمة يراد بها التعليم والإرشاد والنصيحة، أمّا الموعظة فيراد بها التذكير وإلفات
نظر من يعرف ويعلم ولكنّه في غفلة أو تغافل أو تجاهل ما يعرف.الحكمة يراد بها
مكافحة الجهل، والموعظة يراد بها مكافحة الغفلة والتغافل.
فالحكمة فكرة وتعقّل، أما الموعظة فهي لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى
السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ.الحكمة تزيد الإنسان وجداناً ذهنياً، أمّا الموعظة فهي
توقظ الذهن للاستفادة من الوجدان.الحكمة مصباح وسراج، أمّا الموعظة فهي إلفات النظر
إلى ذلك الضياء.
الحكمة للفكرة، والموعظة للتفكّر.الحكمة ترجمان العقل، والموعظة ترجمان الروح
والأحاسيس والعواطف
من أين نأخذ الحكمة والموعظة؟
يُفرّق بين الحكمة والموعظة الحسنة أيضاً: بأنّ لشخصيّة الواعظ - الّذي تتوفّر فيه
صفات خاصّة كالتديّن والإخلاص - في الموعظة دوراً بارزاً، أمّا الحكمة فهي "ضالّة
المؤمن يأخذها حيث وجدها"ولو من فم فاسق أو فاجر أو غادر أو خاسر أو كافر!الحكمة
جوهرة يأخذها المؤمن أينما وجدها ولو في فم كلب أو سبع! ففي الحكمة لا مانع من
اختلاف الأرواح بين الناطق بها والسامع.أمّا في الموعظة فلا بدّ من ارتباط بينهما
واتّصال، وحينئذ يكون كما قيل: "ما خرج من القلب دخل في القلب، وما خرج من اللسان
لم يتجاوز الآذان".