كلمة الإمام الخامنئي خلال لقاء المشاركين في الدورة الأربعين لمسابقات «القرآن الكريم» الدوليّة في جمهوريّة إيران الإسلاميّة، بتاريخ 2024/02/22م
بسم الله الرّحمن الرّحيم[1]
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا، أبي القاسم المصطفى محمد، وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، [ولا] سيّما بقية الله في الأرضين.
كان لقاء اليوم رائعاً جدّاً وعذباً ومستطاباً. بحمد الله، قدّم القراء الموقرون والتّالون من بلدنا والدول الشقيقة برنامجاً [جيّداً] واستفدنا. نأمل أن تنتشر الرغبة في «الاستضاءة» من القرآن ويزداد التوجّه نحو فهم معارفه يوماً بعد يوم بين شعبنا وشعوب العالم الإسلامي والأمة الإسلامية قاطبة، فنحن بحاجة إلى هذا.
أود أن أتحدث بجملة عن قضية «الاستضاءة» من القرآن. إنّ هذا القرآن الذي تتلونه هو كتاب هداية؛ ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾[2]، وكلّنا بحاجة إلى الهداية. وهو كتاب ذِكر، و«الذِّكر» يعني إزالة الغفلة، فنحن غالباً ما نصاب بالغفلة، وكثيراً ما ينسى البشر معارفهم ويصابون بها. القرآن كتاب ذِكر، وهو المضاد للغفلة ومزيلها؛ قال [الله المتعالي]: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾[3]. القرآن كتاب إنذار: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ﴾[4]؛ نحن بحاجة إلى الإنذار، أن يحذّرونا من الأخطار التي تهدد البشر كلهم، سواء في هذه النشأة، أو النشأة التالية التي هي الحياة الحقيقية. إنه كتاب العلاج لآلام البشر، سواء أكانت الآلام المعنوية والروحية والفكرية لأفراد البشر، أم آلام المجتمعات البشرية، والحروب وأنواع الظلم والجور. القرآن هو العلاج لها كلّها؛ ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾[5]. القرآن كتاب حكمة: ﴿يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)﴾[6]. «الحكمة» تعني بيان حقائق الحياة التي يحتاجها الإنسان. القرآن كتاب تبيين ورفع للإبهامات وأنواع الجهالة، ولقد تكررت: ﴿تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾[7] في القرآن. وهو: كتاب مجيد، كتاب كريم، كتاب نور، كتاب برهان... هذا هو القرآن. هذه أوصافه في القرآن نفسه. القرآن عينه يعرّف لنا ذاته ويصف نفسه.
في كلام أمير المؤمنين – عليه الصلاة السلام - وهو التلميذ المتميز للقرآن وللنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله سلم) تعابيرُ سامية في نهج البلاغة عن القرآن. «ربيع القلوب»؛ مثلما في الربيع يحيا العالم، وتحيا الأرض، يحيي القرآن القلوب وينقذها من الإحباط والاكتئاب والانحدار. «ربيع القلوب... شفاء الصدور»[8]، «فيه علم ما يأتي، ...ودواء دائكم، ونظم ما بينكم»[9]، هذه تعبيرات نهج البلاغة عن القرآن، أي إن المعارف التي لا تنضب والتي يحتاجها الإنسان متوافرة في القرآن، المعارف التي يحتاجها البشر أفراداً أو مجتمعاً بشرياً. عبارة «علمُ ما يأتي» هذه التي قرأناها في نهج البلاغة تعني أنه يحقق احتياجات البشرية كافة. «علمُ ما يأتي» أي المستقبل كله. في جميع العصور التي يعيشها البشر على هذه الكرة الأرضية، يؤمّن القرآن احتياجات البشر فيها كلها ويُلبّيها. هذا معنى «علمُ ما يأتي». إنه علاج الآلام، أي الآلام الكبرى للمجتمعات البشرية. «ونظم ما بينكم»: النظام الاجتماعي، العلاقات الإنسانية، علاقات المجتمعات... هذه كلها في القرآن. فلنتعرّف إليه.
للأسف، كان ولا يزال هناك بعض الأشخاص في العالم الإسلامي يتصورون ويعتقدون أن القرآن للقلوب فقط، ولزوايا المعابد، وأن البشر بحاجة إليه من أجل احتياجاتهم وعلاقتهم الشخصية مع الله. إنهم لا يقبلون الإسلام الذي يلبّي احتياجات المجتمعات، ولا يقبلون الإسلام السياسي، ولا الإسلام الذي يبني نظاماً اجتماعياً. هذه هي النقطة المقابلة تماماً لما يُبيّنه القرآن نفسه، والنقطة المقابلة لما يذكره أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصف القرآن.
حسناً، هذه معارف قرآنية. كيف نحصل عليها؟ بالأُنس بالقرآن، والتدبّر فيه، وبالرجوع إلى أولئك الذين نزل القرآن في بيتهم، [أي] أهل بيت رسول الله، عليهم الصلاة والسلام. يمكن تحصيل هذه المعارف بهذه [الأمور] والاستفادة منها وبناء الحياة على أساسها. إنّ تلاوتكم - هذا العمل الرائج بين محبي القرآن في البلاد الإسلامية، وصارت رائجة في بلادنا أيضاً، بحمد الله - من أكثر الخطوات المؤثرة من أجل الأنس بالقرآن وفهم معارفه. تكمن القيمة السامية لتلاوة القرآن في أنها تحثّ مخاطبكم على التدبّر في آيات القرآن ومفاهيمه، وتوضّح له معارفه. طبعاً الشرط لذلك أن يكون الهدف من هذه التلاوة إبراز القرآن، وليس استعراض النفْس، وقلت هذا لقرائنا الأعزاء أيضاً[10]. هذه الفنون في التلاوة - الصوت الحسن، واللحن الجيد، وفنون التلاوة، والوقف والوصل، والرفع والخفض - كلها يجب أن تكون في الخدمة لتفهيم معارف القرآن. نظّموا [الأداء] والوقف والوصل والتكرار والتلاوة بأسلوب يغرس معارف القرآن في القلوب. هذا ما نحتاجه اليوم. للأسف، كثيرون في العالم الإسلامي ليس لديهم أنسٌ بالقرآن. إن هذه الشكوى من الرسول المكرّم (صلى الله عليه وآله) إلى الله المتعالي: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورً﴾[11] موجودة اليوم في مناطق كثيرة من العالم الإسلامي، وهي حقيقة مُرّة.
قضيّة غزّة أعظم قضيّة في العالم الإسلامي اليوم. هل نلاحظ تطبيق قادة ومسؤولي الدول الإسلاميّة تعاليم القرآن والمعارف القرآنيّة بخصوص غزّة؟ يخاطبنا القرآن: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾[12]. هل يجري العمل بهذه الآية في ما يرتبط بغزّة؟ لماذا لا يعلن قادة الدول الإسلامية علانية معارضتهم وقطع علاقتهم ومساعدتهم ودعمهم الكافر المقاتل الخبيث الصهيوني؟ يقول القرآن: ﴿لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾[13] فهل يجري العمل بهذا في عالمنا اليوم؟ يقول القرآن: ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾[14] فهل يبدون هذه الشدّة مقابل الكيان الصهيوني الخبيث؟ هذه الآلام الكُبرى للعالم الإسلامي اليوم. سوف يسائل الله المتعالي، ويؤاخذ أفراد الشعوب المسلمة كلّهم: لماذا لم يمارسوا الضغوط على حكوماتهم، ويؤاخذ الحكومات المسلمة: لماذا لم يطبّقوا [أمر القرآن]؟ ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ... أَنْ تَوَلَّوْهُمْ﴾[15]. هذه كلّها معارف قرآنيّة. إنها ما ينبغي لنا أن نُسلّط الضوء عليها في هذه التلاوات ويذكّر بعضنا بعضاً بها، وأن نتشارك هذه المسؤوليّات، وأن نتواصى بالحق. لا بد أن تكون هذه نتيجة مجالس تلاوتنا وما يصدر عنها.
طبعاً لهذا الموضوع جانبٌ آخر أيضاً: تطبّق قوى المقاومة في غزّة وفلسطين [تعاليم] القرآن اليوم. إنّهم يعملون بتعاليمه، فالمقاومة داخل غزّة تصمد مقابل العدوّ؛ ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾[16]؛ سوف ينصرهم الله المتعالي أيضاً، إن شاء الله. لا ريب في أنّ العالم الإسلامي في حداد من أجل غزّة اليوم. إنّ الذين لم يشتمّوا رائحة الإنسانية اضطهدوا أهالي غزة! من المتيقّن أنّ أعظم مسؤوليّة هي دعم ذاك الشعب المظلوم، والمقاومة الشجاعة والمضحّية، وقوى المقاومة في غزّة وفلسطين وجميع من يساعدونهم من أكناف العالم الإسلامي وأطرافه. نعم، شعب فلسطين مظلوم. ليس العالم الإسلامي فقط، بل جميع الأحرار من غير المسلمين أيضاً هم في حداد اليوم على أهالي غزّة المظلومين، لكن هؤلاء الناس أنفسهم يشيدون بالمقاومة الفلسطينية ويثنون عليها.
يحذونا الأمل، وأملنا في لطف الله ونصرته لا ينضب. يقول [الله المتعالي] في هذه الآية الشريفة: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾. يقول في آية أخرى: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾[17]. هذا تأكيدٌ إلهي. سوف تشمل النصرة الإلهيّة - إن شاء الله - الشعب الفلسطيني، وسيشهد العالم الإسلامي - بلطف الله - زوال الغدّة السرطانيّة الصهيونية بأمّ العين. نحن نرتقب ذلك اليوم، وسوف يأتي، إن شاء الله. حتماً سيأتي! وهذا يجعل المسؤولية أثقل على عاتقنا جميعاً، وبخاصة مسؤولية قادة الدول الإسلامية، فينبغي سعي الجميع. إنّ أهمّ خطوة اليوم هي وقف دعم الكيان الصهيوني الغاصب، ومساندة أهالي غزة والشعب الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية ودعمهم بأي طريقة ممكنة. نأمل أن يوفقنا الله المتعالي جميعاً في هذا الدرب، إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[1] في بداية هذا اللقاء، تلا عدد من القراء آيات من الذكر الحكيم، وقدّم تقريراً حجة الإسلام والمسلمين السيد مهدي خاموشي (ممثل الولي الفقيه ورئيس مؤسسة الأوقاف والأمور الخيرية).
[2] سورة الإسراء، الآية 9.
[3] سورة القمر، الآية 17.
[4] سورة الأنعام، الآية 19.
[5] سورة الإسراء، الآية 82.
[6] سورة يس، الآيتان 1 - 2.
[7] سورة الشعراء، الآية 2.
[8] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص164، الخطبة 110.
[9] المصدر نفسه، ص223، الخطبة 158.
[10] كلمته في محفل الأنس بالقرآن الكريم، بتاريخ 03/04/2022م.
[11] سورة الفرقان، الآية 30.
[12] سورة آل عمران، الآية 28.
[13] سورة الممتحنة، الآية 1.
[14] سورة الفتح، الآية 29.
[15] سورة الممتحنة، الآية 9.
[16] سورة الحج، الآية 39.
[17] سورة الحج، الآية 40.