كلمة الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في لقاء القائمين على مؤتمر تكريم شهداء محافظة خوزستان، بتاريخ 24/02/2024م.
بسم الله الرحمن الرحيم[1]
والحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيّدنا ونبيّنا، أبي القاسم المصطفى محمّد، وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، [ولا] سيّما بقيّة الله في الأرضين.
أرحّب بكم أشدّ التّرحيب، أيّها الإخوة الأعزّاء، والأخوات العزيزات، ومسؤولو المحافظة المحترمون، والعلماء العظام والكِرام. وأبارك لكم العيد السّعيد والكبير جدّاً بولادة حضرة بقيّة الله -أرواحنا فداه-، وإن شاء الله، سيكون تزامن هذا اللّقاء مع هذا اليوم التّاريخيّ العظيم والمهمّ للغاية، مدعاةَ البركة لمساعي جَمعِكم التي ذُكر بعضها، وشاهدنا ها هنا[2] نماذج مُنجَزة من النّشاطات الفنيّة وغير الفنيّة. وبحمد الله فقد ملأت ذكرى شهدائنا الأعزّاء أجواء حسينيّتنا؛ وهنا أكرّر ترحيبي بعائلات الشّهداء الأعزّاء على وجه الخصوص.
ذكرى الشّهداء؛ درس ومُحفّز وكذلك أداءٌ للحقِّ. وإنّ حقَّ الشّهداء على المجتمع والشّعب الإيرانيّ لهو حقٌّ عظيم جدّاً، فأقلُّ عملٍ يُمكن القيام به هو أن نُكِّرم هؤلاء العِظام في ذكراهم.
عملكم هذا؛ أي التّخطيط لإحياء ذكرى 24 ألفَ شهيد من محافظة خوزستان، -وهو رقم مهمٌّ وكبير جدًّا- عملٌ لائقٌ وفي أوانه.
سأتحدّث أوّلا بكلمة عن خوزستان. اضطلعت خوزستان في الدّفاع المقدّس - وإنّ هذه السّنوات الثّمانية، كانت امتحاناً عظيماً للشّعب الإيرانيّ - بدور المتراس الأماميّ، وهذا بمنتهى الأهميّة. وللحقِّ والإنصاف، فإنّ [خوزستان] كانت المتراس الأماميّ والمقاوم؛ خرّمشهر بنحوٍ، وآبادان بنحوٍ، ودزفول بنحوٍ، وأهواز بنحوٍ. وللحقِّ والإنصاف أيضًا فإنّ مقاومة مختلف المدن [من قبيل] شادكان، حميديّة، سوسنكرد، وسائر الأماكن التي قد شاهدنا بعضها عن قرب، وسمعنا عن بعضها الآخر، تُعدُّ ظاهرة قلّ نظيرها، وأحياناً لا مثيل لها في التّاريخ الذي نعرفه. ولنكون منصفين أيضاً فقد اضطلعت العشائر العربيّة، والعشائر البختياريّة، واللُّور، أو أهالي دزفول بدورٍ مهمّ تحت ذلك القصف العجيب؛ فدزفول بنحوٍ، وآبادان بنحوٍ، والأهواز بنحوٍ، وخرّمشهر كذلك؛ والتي كانت بطبيعة الحال مركز المقاومة وقلب مقاومة خوزستان. إنّ هذا البذل للمُهج خلّد اسم هذه المدن واسم خوزستان، وإنّ مواقف المقاومة هي التي حدّدت مصير هذا الامتحان العظيم للشّعب الإيرانيّ.
وقد ذكرنا سابقاً[3] أنّ صدّام توهّم [بما أنّ] شطراً من أهالي خوزستان هم عرب، سوف يستقبلون قوّاته في الأحضان، وحصل العكس؛ [ولم تفعل ذلك] العائلات العربيّة؛ سواء في المدن، أو القرى. ذهبنا في إحدى هذه العمليّات قرابة الظّهر إلى قرية؛ لنتوضّأ هناك ونُصلّي، لم يكن يسكن هناك أكثر من عائلتين أو ثلاث عائلات عربيّة، وكانوا يطلقون في هذه الصّحراء، وفي هذه المنطقة الخطرة، وبين قوّات العدوّ، شعاراتٍ لصالح الجمهوريّة الإسلاميّة، وقد رحّب بنا نساؤهم ورجالهم وأطفالهم عندما بادرنا للوضوء وإقامة الصّلاة. هكذا تصرَّفت خوزستان في هذه المنطقة. وغدا القادة البواسل؛ قادةُ الجيش القيّمون، الشّهيد جهان آرا، والشّهيد علي هاشمي، والشّهيد السّيّد حسين علم الهدى، كلٌّ بنحوٍ وبكلِّ أشكال النّشاطات، وبمقاومتهم، وصمودهم هناك، من الشّخصيّات الوطنيّة.
نقطة أخرى عن خوزستان قد عرضنا لها سابقاً أيضاً[4]، وهي أنّ خوزستان غدت مظهرًا لتلاحم الشّعب الإيرانيّ؛ أي إنّ الأرواح والقلوب والأجساد والإرادات تشابكت فيما بينها في خوزستان من جميع أنحاء البلاد من أجل الدّفاع عن إيران الإسلاميّة. بالطّبع كانت رقعة الحرب منتشرة من الشِّمال حتّى الجنوب، لكنّ الهدف الأساس للعدوّ، وميدان الحرب الأساس كان منطقة خوزستان هذه؛ نظرًا لحساسيّتها وأهميّتها. وهنا أثبت الشّعب الإيرانيّ وجوده، وصارت خوزستان مظهر بُروزِ وظهورِ مميِّزات الشّعب الإيرانيّ؛ وهذه هي العِبرة. فتشابك الأيادي، والقلوب فيما بينها، والنشاطات والمساعي والأفكار والإرادات، يترافق مع تلك النّتائج العظيمة للدّفاع المقدّس؛ وهذا درس يومنا، كما هو درس غدواتنا. ينبغي أن تكون الإرادات بعضها إلى جانب بعض في جميع القضايا المهمّة، وينبغي أن تُشدّ الأيادي بعضها على بعض، وينبغي أن تكون الأجساد والأرواح بعضها إلى جانب بعض؛ وهذا هو الهدف. إنّ جميع محافظات البلاد أرسلت خيرة شبابها إلى خوزستان، وفي خوزستان عرج شباب الشّعب الإيرانيّ البارزون.
طبعاً، قد وقعت هذه الأحداث في خوزستان على مدى سنوات الحرب وما قبلها وما بعدها وإلى اليوم. أودّ أن أقول: كما أنّ خوزستان هي مصدر الثّروات الطّبيعيّة - فخوزستان مصدر الإنتاج الزّراعيّ، ومصدر استخراج النّفط، ومصدر الإنتاج الصّناعيّ - فهي وبسبب هذا التّاريخ المهمّ جدّاً مصدر الإنتاج الثّقافيّ، ومصدر إنتاج ما لا يُنسى من الدّروس الثّقافيّة ودروس الهُويّة للشّعب الإيرانيّ.
وقعت في كلٍّ من هذه المناطق التي شاهدنا بعضها عن قُرب، وسمعنا ببعضها الآخر - من شماليّ خوزستان، ومن منطقة دشت عبّاس، وإلى خرّمشهر وما بعد خرّمشهر - أحداث من شأنها أن تكون أساساً لمئات الأفلام الوثائقيّة، ومئات الأفلام، ومئات المسلسلات، ومئات الكتب الجديرة بالقراءة، وينبغي لهذه أن تُسجَّل في التّاريخ. وقد ذكر الأصدقاء هناك[5]، و أشاروا هنا إلى أنّه أُعدّت أربعة أفلام، وهذا جيّد جدّاً، [لكن] ينبغي إعداد أربعمائة فيلم، وهو أمر مقدور وممكن. فمهما تعمّقتم في أحداث خوزستان، عندما يطّلع المرء على التّفاصيل، يشعر بمكان ما أنّ حركةً ثقافيّةً كُبرى مفقودةٌ ها هنا، وأنّه ينبغي أن تُنجَز وتتحقّق. هذه الأحداث التي وقعت في خوزستان، وهذه العمليّات الكُبرى - عمليّات الفتح المبين، وبيت المقدس، وخيبر، وسائر العمليّات العظيمة التي حصلت - يمكن لكلٍّ منها؛ من خلف كواليسها ومن صُلبها، وصولاً إلى نتائجها أن تكون أساساً لأعمال ثقافيّة وفنيّة كُبرى. هذه نقطة.
يوجد أيضاً نقطة أساسيّة ومهمّة أخرى، وهي أنّ ما حصل في خوزستان، كان مزيجاً من العزيمة الشّعبيّة والإيمان الإسلامّي؛ أي إنّ الإيمان الإسلاميّ كان ركيزة إرادات النّاس، وبسالتهم، وتضحية الآباء والأمّهات والزّوجات - وهذه كلّها تبلورت في خوزستان - أي إنّ ذلك الشّيء الذي جعل أحداث خوزستان البارزة بوصفها أنموذجاً لكلِّ البلاد، كان هو التّوليف بين الإسلام والنّاس، التوليف بين الإيمان الإسلاميّ والإرادة الشّعبيّة والعزيمة الشّعبيّة. وبمشاهدة المرء لهذه الحقيقة، يتعرَّف إلى النّظرة الدّقيقة لإمامنا العظيم في اختيار مصطلح «الجمهوريّة الإسلاميَّة»؛ فالإمام كان يعرف النّاس كما كان يعرف الإسلام، وكان يعرف بشكلٍّ واضح جماهير الشّعب الإيرانيّ أيضاً.
نحن لم نرَ بين العظماء - سواء في عصرنا نحن، أو في العصور القريبة منّا - شخصاً مثل إمامنا العظيم؛ شعر بصورة دقيقة بثّقة الشّعب ومعرفته، وعلم بهما وشخّصهما. فمنذ تلك الأيام الأولى للثّورة، كان الإمام العظيم يشير إلى الشّعب الإيراني. ففي عام 1341 [1962م] والذي كان بداية النّهضة، كان الإمام يشير بيده نحو صحاري جنوبيّ قم، وكان يقول: لو طلبنا من الشّعب الإيرانيّ أن يملأ صحراء قم هذه[6]، فسيفعل؛ لأنّه كان يعرفهم جيّدًا. وفي ذلك اليوم نفسه كان هناك أشخاصٌ يقولون: «لا يمكن الوثوق بهؤلاء النّاس»، [في حين] أنّ الإمام كان يثق بالنّاس، وهذا نابع من معرفته بهم ومعرفته بالإسلام؛ لقد عرف الإمام الإسلامَ من خلال رؤية شاملة وكاملة ومترقّية، وكان الإمام ينظر إلى الإسلام كمدرسة [فكريّة] من شأنها أن تصقل روح الإنسان وتُعليها، ومن شأنها أن تُربّي المجتمع الإنسانيّ، وترتقي به نحو الأفضل، وكان يرى الإسلام كافياً لإدارة المجتمعات الإنسانيّة، ولم يكن يرى الإسلام من أجل رفع الأذان في المآذن، والعبادة في المعابد والمساجد، وإعمار داخل قلوب الأفراد فحسب؛ [بل] كان يرى الإسلام مؤثّراً وفعّالاً في حقل السّياسة، وفي مضمار الإدارة وإدارة النّاس، وفي ساحة الإرشاد العامّ للبشريّة. كانت هذه هي رؤية الإمام: «الجمهوريّة الإسلاميّة».
انظروا، كم هذه الرّؤية دقيقة؛ ولهذا خلقت في خوزستان هذه المعجزات، ونظّمت في كلّ البلاد أيضاً هذه النّهضة العظيمة، نهضة نظام الجمهوريّة الإسلاميّة، وتقدّم الجمهوريّة الإسلاميّة، ومهّدت لها. وهذا مستمرّ؛ إذ استطاع هذا الفكر أن يرسّخ الجمهوريّة الإسلاميّة، هذا الفكر في الجمع بين «الجمهور» و«الإسلام». لقد رسّخ هذا الفكر الجمهوريّة الإسلاميّة وصانها وقوّاها يوماً بعد يوم. مشكلة أعداء الجمهوريّة الإسلاميّة أنّهم لا يعرفون النّاس ولا جماهير الشّعب ولا الإسلام. لقد تآمروا ضدّ الجمهوريّة الإسلاميّة والشّعب الإيرانيّ، وحاكوا الدّسائس، ووضعوا الخطط، وتوقّعوا أنّ الجمهوريّة الإسلاميّة لن تشهد ربيعها الأربعين[7]. هذا ما قاله الأمريكيّون. قالوا إنّ الجمهوريّة الإسلاميّة لن تشهد عامها الأربعين وكانوا واثقين أنّ هذه المخطّطات والمؤامرات ستكون مثمرة، لكن تقدّم الجمهوريّة الإسلاميّة والبلاد لم يتوقّف رغماً عن أنوفهم، ولم تخضع إيران الإسلاميّة لغطرستهم ولم تستسلم لمكرهم، وواصلت طريقها بشموخ. لقد تغلّبنا على عوائق كثيرة، وسوف يتغلّب الشّعب الإيرانيّ - بحول الله وقوّته - على كثير من العوائق الأخرى الآن أيضاً.
ننتقل الآن للحديث عن غزّة. إنّ العالم الإسلاميّ هو في عزاء حقيقيّ بكلّ ما للكلمة من معنى؛ من أجل غزّة. ويعلم الجميع المآسي التي تقع اليوم فيها على يد الكيان الصّهيوني الغاصب الخبيث، هذا الكلب المسعور. وقد أثبتت هذه الأحداث مسألتين: إحداها قوّة الإيمان الإسلاميّ. فهذه المقاومة التي قامت بها قوى المقاومة داخل غزّة، وجعلت العدوّ آيساً من القضاء عليها، كانت نابعة من قوّة الإسلام. والصّبر الذي يُبديه أهالي غزّة المظلومون إزاء هذا القصف وهذه الضّغوطات، نابعٌ من الإيمان الإسلاميّ. إذاً، فقد برز الإيمان الإسلاميّ ها هنا؛ وحصل بحيث أنّه - بناء على الأخبار التي بثُّوها، ولا بد أنّكم قد سمعتموها - توجّه الشّباب في الدّول الغربيّة، وفي أمريكا نفسها، وفي أوروبا نفسها، نحو القرآن ليرَوا ما سرّ هذا القرآن الذي يدفع النّاس المعتقدين به للصّمود على هذا الشّكل في وجه تلك المشكلات المرعبة والمهولة. لقد أثبت الإسلام نفسه.
الأمر الثّاني هو أنّ الحضارة الغربيّة بانت على حقيقتها. وهي التي لا تنفكّ تتشدّق - برياءٍ ونفاقٍ وبقول الأكاذيب - عندما تتحدّث عن الإنسانيّة، وحقوق الإنسان والبشريّة وأمور من هذا القبيل. تُعارض إعدام مجرمٍ - افترضوا أنّ شخصاً ما ارتكب جريمة، وقتل عدّة أشخاص، ويريدون الاقتصاص منه، وإعدامه، فيرتفع صريخهم أنْ «يا سادة، [إيّاكم] والإعدام، [إيّاكم] والإعدام» - ويُعدَم على مدى ثلاثة أو أربعة أشهر ثلاثون ألفَ إنسان على يد الكِيان الصّهيونيّ، ويُغمض هؤلاء أعينهم، وكأنّه لم يحصل شيء! وبعضهم - ليس كلّهم - يتساءلون لماذا تتصرّف «إسرائيل» هكذا، ولماذا ترتكب المجازر؟
يقولون ذلك بألسنتهم، لكنّهم يدعمونها فعليّا، ويقدّمون لها الأسلحة، والسّلع التي تحتاجها. وتكرّر أمريكا بمنتهى الوقاحة استخدام «الفيتو» ضدّ قرار وقف قصف النّاس! هنا كشفت الحضارة الغربيّة عن حقيقتها. هذه هي الحضارة الغربيّة! هذا هو باطن الثّقافة والحضارة الغربيّة، وهذه الظّواهر المنمّقة للسياسيّين الغربيّين؛ في الظّاهر ابتسامة، وفي الباطن كلب مسعور وذئب متعطّش للدّماء. هذه هي الحضارة الغربيّة واللّيبراليّة الدّيموقراطيّة للغرب. إنّهم ليسوا ليبراليّين، وليسوا ديموقراطيّين. إنّهم يكذبون ويمضون قدماً في مشروعهم عبر النّفاق.
نأمل أن يدرك النّاس في العالم الحقائق أكثر فأكثر - إن شاء الله - في خضمّ هذه الأحداث المتنوّعة، وأن يتعرّفوا إلى الإسلام على نحو أفضل وعلى الغرب بدقّة. ونحن واثقون أنّ هذه الحضارة الغربيّة والحِمل المعوج لن يصلا إلى مقصدهما، ولن يستمرّا ولن يدوما، كما أنّ الثقافة الحقّة والمنطق الصّحيح للإسلام سيتغلّبان على ذلك كلّه، ولن يكون ذلك اليوم بعيداً، إن شاء الله.
والسلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته.
[1] قدّم حجّة الإسلام والمسلمين السيّد عبد النّبي موسوي فرد (ممثّل الولي الفقيه في محافظة خوزستان وإمام جمعة أهواز) والعميد في الحرس الثوري حسن شاهواربور (قائد لواء حضرة وليّ العصر في خوزستان وأمين المؤتمر) تقارير في بداية هذا اللقاء.
[2] تفقّد الإمام الخامنئي المعرض الذي كان القائمون على هذا المؤتمر قد نظّموه في حسينيّة الإمام الخميني (قدّس سرّه).
[3] كلمته في لقاء مختلف فئات أهالي كرمان وخوزستان، بتاريخ 23/12/2023م.
[4] نفس المصدر.
[5] المعرض المجاور للحسينيّة.
[6] صحيفة الإمام، ج1، ص87؛ كلمة في جمع من طلاب الحوزات والتجّار، بتاريخ 05/11/1962م.
[7] في إشارة إلى كلمة جون بولتون (مستشار الأمن القومي السابق للرئيس الأمريكي) في اجتماع جماعة «منافقي خلق» الإرهابية في باريس بتاريخ تموز/يوليو 2017م.