الإمام الحسن العسكريّ هو
الإمام الحادي عشر
للشيعة، ولد يوم الجمعة
الثامن من ربيع الثاني
عام 232 ه.ق1.
في المدينة المنورة2،
والده الإمام الهادي عليه
السلام ووالدته سيدة
فاضلة تقيّة قيل إنّ
اسمها: "حُديثة"،
"سليل" و"سوسن".
كانت من جملة النسوة
الفاضلات ويكفيها في ذلك
أنها أصبحت ملاذ الشيعة
في مرحلة الاختناق
والاضطراب بعد شهادة
الإمام الحسن العسكري3.
استمرّت إمامته مدّة ست
سنوات وعاصر ثلاثة من
الخلفاء العباسيين كان
كلّ واحد منهم أظلم من
الآخر وهم: المعتز بالله،
المهتدي بالله والمعتمد
بالله.
بدأت إمامته عام 254
وانتهت بشهادته في الثامن
من ربيع الأوّل عام 260
عن عمر 28 سنة في سامراء
وكان أحمد المعتمد،
الخليفة العباسي الخامس
عشر قد دسّ السمَّ له
ودفن في سامراء إلى جانب
مرقد والده4.
موقع الفكر والعمل في
الثقافة الإسلاميّة
إنّ الفكر هو أساس
والتقدّم البشريّ في
المجالات الماديّة
والمعنويّة. هذا من جهة
وفي الجهة الثانية يقف
العمل والسعي. وإذا تمكن
البشر في القرن العشرين
والواحد والعشرين من
التقدّم والتطوّر على
المستوى الصناعيّ
والتكنولوجيّ، فإنّ ذلك
كان بسبب الفكر والعمل
الذي تجلى في حركتهم.
كذلك فإنّ التقدّم
المعنويّ للأفراد
والمجتمعات متوقّف على
الاستفادة من العقل
والفكر والعمل وبذل
الجهود. كان الأنبياء
والأئمّة وعباد الله
الصالحون من أصحاب الفكر
والتعقّل. يقول الإمام
الصادق عليه السلام حول
منزلة أبي ذرّ: "كان
أكثر عبادة أبي ذرّ
رحمه الله التفكّر
والاعتبار"5.
وتحدّث القرآن الكريم عن
القيمة العالية
والحياتيّة للفكر والعمل
وقدّم أجمل وأبلغ الكلام
حول قيمة التعقّل والفكر
والدقّة والتفقّه. تكرّرت
في القرآن الكريم كلمة
"العلم" ومشتقاتها
التي تدلّ على العلم
والمعرفة والفكر أكثر من
ألف مرّة. وصرّحت 17 آية
بدعوة الإنسان إلى
التفكّر، وهناك أكثر من
10 آيات بدأت بعبارة
"انظروا". واستعملت
كلمة العقل ومشتقّاتها
أكثر من خمسين مرّة وجاء
الأمر في أربع آيات6
بالتدبر في القرآن وكان
لكلمة الفقه والتفقّه
وأمثالهما حضور بارز7.
وفيما
يتعلّق بالعمل فقد ذكر
لفظ "العمل"
ومشتقاته أكثر من 354
مرّة في القرآن الكريم.
وجاءت عبارة
﴿آمَنُوا
وَعَمِلُواْ
الصَّالِحَاتِ﴾
أكثر من 65 مرّة. ويشير
هذا الأمر إلى ضرورة
الإيمان الذي هو ثمرة
الفكر والمعرفة إلى جانب
العمل وبذل المجهود.
أشارت روايات المعصومين
عليهم السلام أيضاً إلى
آثار وفوائد الفكر
والتعقّل بما لا يتّسع
لذكره المجال في هذا
المقال حيث نكتفي بذكر
الروايات الواردة عن
الإمام العسكري عليه
السلام.
ألف ـ موقع الفكر
1ـ الله تعالى يتحدّث إلى
العلماء
تتوجّه الآيات الشريفة
لمخاطبة العلماء
بالالتفات إلى المقام
الرفيع للمعرفة والفكر في
القرآن؛ لأنّهم يمتلكون
القدرة على الدخول إلى
عمق كتاب الوجود
التكوينيّ والكتاب
السماويّ ومن ثَمّ هم
الذين يمكنهم الاستفادة
منهما لأجل سعادة الدنيا
والآخرة. وهنا نشير إلى
بعض الآيات الشريفة:
﴿إِنَّ
فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
وَالْفُلْكِ الَّتِي
تَجْرِي فِي الْبَحْرِ
بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ
وَمَا أَنزَلَ اللّهُ
مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء
فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ
بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ
فِيهَا مِن كُلِّ
دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ
الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ
الْمُسَخِّرِ بَيْنَ
السَّمَاء وَالأَرْضِ
لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ﴾8.
ونقرأ في آية أخرى:
﴿إِنَّ
فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
لآيَاتٍ لِّأُوْلِي
الألْبَابِ* الَّذِينَ
يَذْكُرُونَ اللّهَ
قِيَامًا وَقُعُودًا
وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ
وَيَتَفَكَّرُونَ فِي
خَلْقِ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا
خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً
سُبْحَانَكَ فَقِنَا
عَذَابَ النَّارِ﴾9.
وجاء في آية ثالثة:
﴿كَذَلِكَ
نُفَصِّلُ الآيَاتِ
لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾10.
يقول الإمام العسكريّ
عليه السلام: "إنّما
خاطب الله العاقل"11.
الواضح أنّ هذه العبارة
على رغم قصرها إلّا أنّها
بليغة وعميقة تبين أنّ
كلام الله وخطابه موجه
لأصحاب الفكر والعقل.
2ـ
العبادة مع التفكير
كثيرون الذين يعتقدون أنّ
العبادة منحصرة في الصلاة
الواجبة والمستحبّة
والصيام الواجب
والمستحبّ، من دون أن
يفكّروا في أسرارهما.
لذلك نرى الإمام العسكريّ
يؤكّد عليه السلام على
التفكير في العبادة
ويقول: "ليست العبادة
كثرة الصيام والصلاة
وإنما العبادة كثرة
التفكر في أمر الله"12.
3ـ علامة العلماء
إنّ أسلوب الكلام هو أحد
الأمور التي تدلّ على
العلماء. وتوضح كتاباتهم
وكلماتهم مقدار عقلهم
ومستواهم الفكريّ. يقول
الإمام العسكريّ في هذا
الخصوص: "قلب الأحمق
في فمه وفم الحكيم في
قلبه"13.
العاقل هو الذي يفكّر
بداية فيما يدور حول
جوانب كلامه، ويدرس نفعه
وضرره ثمّ بعد ذلك يتلفّظ
بما يريد. وأمّا غير
العاقل فيتحدث بداية ثمّ
يفكر في عواقب ما تلفّظ
به. فالعاقل قليل الخطأ
والجاهل أو المنحرف
قليلاً ما يصل إلى
الصواب.
والسبب في ذلك أنّ
الإنسان يضاء عقله وروحه
الإنسانيّان على أثر
الفكر فيتمكّن بتلك
النورانيّة الخاصّة من
التمييز بين الحقّ
والباطل والصحيح والخطأ.
أمّا الجاهل فيقبع في
ظلمات الجهل. يقول الإمام
العسكريّ عليه السلام:
"عليكم بالفكر فإنه حياة
قلب البصير ومفاتيح أبواب
الحكمة"14.
يقول الإمام عليّ عليه
السلام في هذا الخصوص:
"من فكَّر أبصر العواقب"15.
4ـ
عاقبة عدم التفكير
إنّ عالم الآخرة هو
التجسيد الواسع لعالم
الدنيا فتتجسّم كافّة
حقائق هذا العالم بما
يناسبها هناك. والذين لم
يستعملوا عقولهم ولم
يشاهدوا بعين البصيرة،
يحشرون يوم القيامة
عمياناً. يقول الإمام
العسكريّ عليه السلام:
"... فأتمَّ الله عليك يا
إسحاق وعلى من كان مثلك
ممّن قد رحمه الله
وبصَّره بصيرتك نعمته...
فاعلَمْ يقيناً يا إسحاق
أنه من خرج من هذه الدنيا
أعمى فهو في الآخرة أعمى
وأضلّ سبيلاً، يا إسحاق
ليس تعمى الأبصار ولكن
تعمى القلوب التي في
الصدور وذلك قول الله في
محكم كتابه حكاية عن
الظالم إذ يقول16:
"ربِّ لم حشرتني أعمى
وقد كنت بصيراً قال كذلك
أتتك آياتنا فنسيتها
وكذلك اليوم تنسى"17.
ب ـ موقع العمل إلى جانب
الفكر
تظهر القيمة الحقيقية
والعينية للفكر والتأمّل
والتدبر إذا كان ذلك
يؤدّي إلى العمل والسعي
وبذل المجهود وإلّا
فالفكر الخالي من العمل،
فاقد للقيمة الواقعية.
الفكر المطلوب والمؤثر هو
الذي ينتهي بالعمل
الصالح. يقول الإمام
الصادق عليه السلام:
"التفكر يدعو إلى البِرّ
والعمل به"18.
ونقرأ في الأحاديث
الإسلامية تعريف العقل:
"العقل ما عُبد به
الرحمان واكتُسب به
الجنان"19.
ويؤكّد الإمام الحسن
العسكريّ عليه السلام على
أهمية العمل إلى جانب
الفكر: "لا
يشغلك رزق مضمون عن عمل
مفروض"20.
ويبين الإمام عليه السلام
جزئيات العمل والسلوك
الحسن حيث يمكن أن يحصل
الأمر عبر طرق عدّة:
1 ـ توضيح الصفات
السلوكية للشيعة
يعرض الإمام عليه السلام
في هذا القسم بعض الأوصاف
العملية والسلوكية التي
تبيِّن علاقة الإنسان
بخالقه ومجتمعه وعائلته
ونفسه حيث يظهر من خلالها
أهمية العمل إلى جانب
الفكر. يقول مخاطباً
شيعته: "أوصيكم بتقوى
الله والورع في دينكم
والاجتهاد لله وصدق
الحديث وأداء الأمانة إلى
من ائتمنكم من بَرّ أو
فاجر وطول السجود وحسن
الجوار فبهذا جاء محمّد
صلى الله عليه وآله وسلم، صلُّوا في عشايرهم
واشهدوا جنائزهم وعودوا
مرضاهم، وأدّوا حقوقهم ،
فإنّ الرجل منكم إذا ورع
في دينه وصدق في حديثه
وأدَّى الأمانة وحسُنَ
خلقه مع الناس؛ قيل: هذا
شيعيّ فيسرّني ذلك"21.
ويقول الإمام عليه
السلام: "المؤمن بركةٌ
على المؤمن وحجّة على
الكافر"22.
2ـ تبيين من هو الأفضل
ومن هو الأسوأ
يقول الإمام العسكريّ
عليه السلام: "أورع
الناس من وقف عند الشبهة،
أعبد الناس من أقام
الفرائض، أزهد الناس من
ترك الحرام، أشدّ الناس
اجتهاداً من ترك الذنوب"23.
ويقول أيضاً: "بئس
العباد عبد يكون ذا وجهين
وذا لسانين، يطري أخاه
شاهداً ويأكله غائباً، إن
أُعطي حسده وإن ابتُلي
خانه"24.
3
ـ الثناء على بعض
السلوكيّات
يقول الإمام عليه السلام
مثنياً على بعض الأعمال:
"خصلتان ليس فوقهما
شيء! الإيمان بالله ونفع
الإخوان"25.
ويقول عليه السلام حول
التواضع: "التواضع
نعمة لا يحسد عليها"26.
ويقول في مكان آخر:
"من التواضع السلام على
كلّ من تمرّ به والجلوس
دون شرف المجلس"27.
4ـ ذمّ بعض الأعمال
عند تقييم الأعمال يجب
التمييز بين السلوك
اللائق من غير اللائق.
ومن هذا المنطلق نجد
الإمام العسكريّ عليه
السلام يتحدّث حول بعض
الأعمال اللّائقة ويظهر
تنفُّره وذمّه للأعمال
غير اللّائقة. يقول:
"ليس من الأدب إظهار
الفرح عند المحزون"28.
ويقول أيضاً: "ما أقبح
بالمؤمن أن تكون له رغبة
تُذلّه"29.
ومن أبرز السلوكيّات التي
توصل الإنسان إلى
القبائح، الغضب:
"الغضب مفتاح كلّ شرّ".
* من كتاب روضة المبلغين (3)، سلسلة روضة المبلغين، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- اعتبر المسعودي
وعلي بن عيسى الأربلي، أن ولادة الإمام عليه السلام كانت عام 231ق.
2- أصول الكافي، ج1، ص503؛ الارشاد، ص335.
3- الأنوار البهية، ص151.
4- الارشاد، ص354؛ بحار الأنوار، ج50، ص236.
5- بحار الأنوار، ج22، ص431.
6- سورة النحل، الآية: 44؛ سورة آل عمران، الآية: 191؛ سورة النحل، الآية: 69.
7- الاحصاءات الواردة بناءً على كتاب "المعجم المفهرس" لمحمد فؤاد عبد الباقي، دار
الحديث، القاهرة.
8- سورة البقرة، الآية: 164.
9- سورة آل عمران، الآيتان: 190 ـ 191.
10- سورة يونس، الآية: 24.
11- تحف العقول، ص516، الحديث 4.
12- تحف العقول، ص518، الحديث 13؛ وسائل الشيعة، ج11، ص153؛ أصول الكافي، ج2، ص55؛
بحار الأنوار، ج71، ص322.
13- تحف العقول، ص519، الحديث 21.
14- بحار الأنوار، ج8، ص115، والحكم الزاهرة، ج1، ص19.
15- المصدر نفسه، غرر الحكم، ص665.
16- تحف العقول، ص513 و514.
17- سورة طه، الآية: 126.
18- وسائل الشيعة، ج11، ص153؛ مجموعة ورام، ج2، ص327.
19- المصدر نفسه، ص161، وأصول الكافي، ج1، ص11.
20- تحف العقول، ص519، الحديث 22.
21- المصدر نفسه، ص518، الحديث 12؛ وسائل الشيعة، ج8، ص389، الحديث 2.
22- المصدر نفسه، ص519، الحديث 20.
23- المصدر نفسه، ص519، الحديث 18، الأنوار البهية، ص318.
24- تحف العقول، ص518، الحديث 14.
25- المصدر نفسه، ص520، الحديث 26.
26- المصدر نفسه، ص520، الحديث 31.
27- المصدر نفسه، ص517، الحديث 9.
28- المصدر نفسه، ص520، الحديث 28، ومنتهى الآمال، ج2، ص273، الحديث 6.
29- المصدر نفسه، ص520، الحديث 35.