بسم الله الرحمن الرحيم
الإعراض عن الدنيا سبيل الوفود إلى ضيافة الله في شهر رمضان
الهدف: تحقيق أقصى استفادة من شهر رمضان من
خلال سلوك سبيل الإعراض عن الدنيا المذمومة.
محاور الموضوع:
- المقدمة
- سر تميز شهر رمضان المبارك
- الاستعداد الخاص لاستقبال شهر رمضان بالإعراض عن الدنيا
- كيف نعرض عن الدنيا؟
- الخاتمة
تصدير: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
لجابر بن عبد الله: يا جابر! هذا شهر رمضان من صام نهاره وقام وردا من ليله وعف
بطنه وفرجه وكف لسانه خرج من ذنوبه كخروجه من الشهر، فقال جابر: يا رسول الله ما
أحسن هذا الحديث! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا جابر! وما أشد هذه
الشروط!
مقدمة:
يتميز شهر رمضان بميزة فريدة لا يضارعه فيها غيره من الشهور وهو أنه
يفرض حضورا خاصاً وتأثيراً على عامة المسلمين بغض النظر عن حجم استعدادهم وتحضّرهم
له.
فشهر رمضان يشبه زائراً كريماً ذي مقامٍ وهيبة ووقار بحيث إن أغلب من يتواجد بمحضره
يلتزم بآداب وأخلاقيات واحترام هذا الزائر.
ولذلك نجد أن العديد ممن هم بعيدون عن أجواء الالتزام الديني يتخلون عن بعض عاداتهم
السيئة تأدباً في محضر هذا الشهر العظيم. ونجدهم يجددون عهدهم بالصلاة وحضور المسجد
لما لهذا الشهر من تأثير معنوي عليهم. ومن هنا نعرف أيضاً كم ان الذين يصرون على
المعصية وعدم التوبة فيه أشقياء ومطرودون من الرحمة الإلهية: (فإن الشقي من حرم
غفران الله في هذا الشهر العظيم..)1.
سر تميز شهر رمضان المبارك:
إن سر تميز شهر رمضان يرجع إلى طبيعة هذا الشهر التي اصطفاها الله تعالى
لتكون منافرة ومخالفة لسياق وطبيعة الدنيا المذمومة وحقيقتها في الأمور الآتية:
1- ان الدنيا المذمومة هي ذلك العالم المظلم الممزوج بالشوائب والمعجون بالغرائز.
بينما شهر رمضان هو شهر الصيام والتسامي عن الشهوات والابتعاد عن الغرائز
والمعاصي المظلمة، من خلال كف البطن والفرج، وردع جميع الجوارح عما حرمه الله عز
وجل.
2- إن عالم الدنيا هو عالم الغفلة عن الحق وعن الآخرة، وهو عالم اللعب
واللهو: (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال
والأولاد)2، بينما شهر رمضان هو شهر اليقظة، فهو شهر الله: (إنه قد أقبل
إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة)3، وشهر استذكار الآخرة: (واذكروا
بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه)4.
3- إن الدار الدنيا هي دار الفناء والغدر والبلاء: (دار بالبلاء محفوفة،
وبالغدر معروفة، لا تدوم أحوالها، ولا تسلم نزالها)5، وشهر رمضان هو شهر
الباقيات الصالحات لأنه شهر الذكر والتسبيح والعبادة المرفوعة: (أنفاسكم فيه تسبيح..
وعملكم فيه مقبول)6، وهو شهر المنح والعطايا والنفحات الرحمانية: (هو
شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله).7
بناء على ما تقدم يتبين لنا لماذا يتميز شهر رمضان عن غيره وما سر تميزه، ولماذا
يعتبر بحد ذاته مساعداً للإنسان للتخلص من أسر وقيود عالم الدنيا المظلم. إن هذا
الشهر الكريم مثله مثل الرسل والانبياء والأوصياء عليه السلام ، ومثله مثل الكتب
السماوية وعلى رأسها القرآن العظيم عبارة عن عمود من نور اخترق الله الرحيم به عالم
الدنيا رأفة بالإنسان ليخرجه من الظلمات إلى النور.
الاستعداد الخاص لاستقبال شهر رمضان بالإعراض عن الدنيا:
رغم تميز شهر رمضان بما ذكرناه آنفاً، ولكن هذا لا يكفي ليكون العبد
لائقاً به، فكما هو معروف فإن المضيف – وهو الله عز وجل – مع كونه كريماً ومعطاءً
ولا يبخل على ضيفه بشيئ في شهره، ولكن الضيف إذا لم يكن مؤهلاً للضيافة فإنه لن
يستطيع الاستفادة من كل ما يقدمه المضيف له. وهذا الامر يشبّه بشخص يريد تلبية دعوة
مضيفه على طعام شهي ومن كل الأصناف، ولكن هذا الضيف يعاني من العديد من العلل
والأمراض مما يمنعه من تناول أغلب ما يقدمه له ضيفه.
من هنا، ينبغي على ضيوف الرحمن في شهر رمضان أن يكونوا لائقين ومستعدين لكرم وضيافة
الله في هذا الشهر. وأهم عنصر يجب أن يعملوا على تحقيقه هو الإعراض عن الدنيا.
فالإعراض عنها يجعل الصائم مسانخاً في الحقيقة والماهية لحقيقة وطبيعة شهر رمضان
المبارك. وبقدر إعراضه عن الدنيا بقدر ما يستطيع أن يغترف من هدايا وجوائز معنوية
في ليالي وأيام شهر الله. ولذلك نجد كيف أن أولياء الله ينتظرون شهر رمضان وبلهفة
وشوق من سنة إلى سنة، فما لا يكون متاحاً نيله في الأشهر الاخرى، ينالونه في شهر
رمضان وفي ليالي القدر لما يغدقه الرحمن عليهم بكرم غير محدود بحسب استعدادهم
وقابلياتهم.
كيف نعرض عن الدنيا؟
إن سبل الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة عديدة ولكننا نذكر أهمها
وأبرزها:
1- معرفة حقيقة الدنيا وصفاتها وعواقب التعلق بها:
من خلال ما وصفه لنا القرآن وبصّرنا به أنبياء الله ورسله عليه السلام ، فإن الذي
يعرف حقارة هذه الدنيا وضعتها ويدمن التأمل في ذلك في ليالي شهر رمضان وأسحاره
ويتعظ من عاقبة أهل الدنيا وما حل بهم، فإنه بالتأكيد سيبغضها وسيقل تعلق قلبه بها،
يقول تعالى: (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض
مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون
عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل
الآيات لقوم يتفكرون)8، وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن في كتاب
علي عليه السلام: (إنما مثل الدنيا كمثل الحية ما ألين مسها وفي جوفها السم الناقع،
يحذرها الرجل العاقل، ويهوى إليها الصبي الجاهل)9.
2- طلب التوفيق من الله عز وجل للتخلص من حب الدنيا:
فمناجاته تعالى في شهر رمضان هي أعظم فرصة لتحصيل ذلك: (وارفعوا إليه أيديكم
بالدعاء في أوقات صلواتكم، فإنها أفضل الساعات، ينظر الله عز وجل فيها بالرحمة إلى
عباده، يجيبهم إذا ناجوه، ويلبيهم إذا نادوه، ويعطيهم إذا سألوه، ويستجيب لهم إذا
دعوه)10.
3- تذكر الموت وإدمان التفكر في شؤون الآخرة:
عن أبي عبيدة الحذاء قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: حدثني بما أنتفع به فقال: (يا
أبا عبيدة أكثر ذكر الموت، فإنه لم يكثر إنسان ذكر الموت إلا زهد في الدنيا)11،
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم
القيامة وعطشه)12.
4- المخالفة العملية لتعلقات القلب الدنيوية:
وهذا ما يحتاج إلى مجاهدة يومية ومتابعة حثيثة بحيث يُمسك العبد بكل صفة دنيوية
مغروسة في نفسه كحب المال والجاه والسلطة ويعمل على مخالفتها، ولا يترك ذلك حتى يتم
التأكد من كونها اقتلعت كلياً من قلبه، وشهر رمضان فرصة للتأكيد على هذه المجاهدات،
والرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أعطانا برنامجاً عملياً لمن يريد القيام
ببعضها: (وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم، ووقروا كباركم، وارحموا صغاركم، وصلوا
أرحامكم، واحفظوا ألسنتكم، وغضوا عما لا يحل النظر إليه أبصاركم، وعما لا يحل
الاستماع إليه أسماعكم، وتحننوا على أيتام الناس يتحنن على أيتامكم)13.
5- معاشرة أهل الآخرة: عن أبي عبد الله عليه
السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (قالت الحواريون لعيسى: يا روح
الله! من نجالس؟ قال من يذكركم الله رؤيته، ويزيد في علمكم منطقه ويرغبكم في الآخرة
عمله)14. والله عز وجل قد أعاننا في شهره بأن غلّ لنا شياطين الجن: (والشياطين
مغلولة فاسألوا ربكم أن لا يسلطها عليكم)15، فلنعن أنفسنا بالابتعاد عن
شياطين الإنس ومعاشرتهم:. ومما ينبغي الإلفات إليه هنا أن الجلوس المطول أمام
التلفاز ومشاهدة البرامج الترفيهية ومحاورات أهل الدنيا والمسلسلات الفارغة يعتبر
من مصاديق مجالسة أهل الدنيا ومن أهم موجبات قسوة القلب، فعلينا وضع حدٍّ لهذه
الظاهرة المدمرة لقلبنا وروحنا.
6- قراءة القرآن وتدبره: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن
القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، قيل يا رسول الله وما جلاؤها؟ قال: قراءة القرآن،
وذكر الموت)16. وقال أمير المؤمنين عليه السلام: (واعلموا أن هذا القرآن
هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضل، والمحدث الذي لا يكذب، وما جالس هذا
القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة في هدى، أو نقصان في عمى)17.
وشهر رمضان أعظم فرصة لقراءة القرآن وتجديد الارتباط به: (ومن تلا فيه آية من
القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور)18.
7- قلة الأكل: مع أن شهر رمضان هو شهر الصيام
عن الطعام والشراب طوال النهار، وهذا ينبغي ان يكون مدعاة لترويض النفس وإشعارها
حلاوة الابتعاد عما يثقلها ويدنيها من الدنيا، إلا أن العديد للاسف يبطل مفعول هذه
الوصفة الرمضانية المؤثرة بالإنكباب على ملئ معدته عند حلول موعد الإفطار، جاء في
حديث المعراج: قال: يا رب ما ميراث الجوع؟ قال: الحكمة، وحفظ القلب، والتقرب إلي،
والحزن الدائم، وخفة المؤونة بين الناس، وقول الحق، ولا يبالي عاش بيسر أو بعسر)19.
خاتمة:
علينا في أيام وليالي هذا الشهر الكريم أن نشمر عن ذراع الجد ونتعبأ
للعمل بكد، وأن نكون حريصين على أن لا تفوتنا الاستفادة القصوى منه، وأن نعمل على
أن يكون شهر رمضان هذه السنة خير رمضان مر علينا.
وعلينا أن نحذر من أن نخرج منه بنفس مفلسة حتى من غفران الذنوب، فعن أبي عبد الله
عليه السلام قال: (من لم يغفر له في شهر رمضان لم يغفر له إلى قابل إلا أن يشهد
عرفة)20. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (فإن الشقي من حرم
غفران الله في هذا الشهر العظيم)21.
1- الأمالي - الشيخ
الصدوق - ص 154.
2- سورة الحديد، 20.
3- م. ن.
4- م. ن.
5- نهج البلاغة، الإمام علي (ع)، ح 2، ص 219.
6- الأمالي - الشيخ الصدوق - ص 154.
7- م. ن.
8- سورة يونس، 24.
9- أصول الكافي، الكليني، ج، 2، ص 136، ح 22.
10- م. ن.
11- أصول الكافي، الكليني، ج، 2، ص 131، ح 13.
12- الأمالي - الشيخ الصدوق - ص 154.
13- م. ن.
14- أصول الكافي، الكليني، ج، 1، ص 39، ح 3.
15- الأمالي - الشيخ الصدوق - ص 155.
16- مستدرك الوسائل، ميرزا حسين النوري الطبرسي، ج 2، ص 104.
17- نهج البلاغة، الإمام علي (ع)، ح 2، ص 91.
18- الأمالي - الشيخ الصدوق - ص 155.
19- ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج 1، ص 91.
20- أصول الكافي، الكليني، ج، 4، ص 66، ح 3.
21- الأمالي - الشيخ الصدوق - ص 154.