تصدير:
﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينً﴾[1]
الأهداف:
بيان عدم حصر دلالات الغدير بالأبعاد التاريخية وبيان أبعادها الأخرى دينياً
وإنسانياً.
مقدمة: الغدير حدث إنساني:
كثيراً ما يتم التعاطي مع حادثة الغدير ويوم تنصيب الإمام علي (عليه السلام) ولياً
وخليفة بعده وإماماً على أنها واقعة تاريخية خصوصاً من غير الشيعة؛ ولكن تلك
الواقعة التي أرّخ لها في الثامن عشر من ذي الحجة من السنة العاشرة للهجرة لها
أبعاد ودلالات ومغازي تتجاوز مجرد الحدث التاريخي، وإن لم نكن لنذكر هذا البعد
منها.
إضافة إلى انه لايفترض أن يتم التعامل معها على أساس مذهبي، لا من الشيعة ولا من
غيرهم، فإن اتخذ الشيعة هذا اليوم عيداً له رسومه وشعائره، فإن ذلك لا يعني أن
الغدير حادثة لا تخص غير الشيعة.
بل ندعي فيما سيلي أن حادثة الغدير بأبعادها ودلالاتها ومغازيها ذات آفاق إنسانية
وليس فقط إسلامية ودينية.
وهي تتصل بالتخطيط الإلهي للبشرية في سيرها نحو تكاملها المادي والمعنوي.
من مغازي وأبعاد الغدير:
والحقيقة أنه ثمة أبعاد كثيرة لحادثة الغدير غير البعد التاريخي نقتصر على ذكر
البعض منها، من هذا البعض:
1-تأمين استمرار الهداية النبوية للبشرية:
لما كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) خاتم النبيين وأرسل للناس جميعهم إلى يوم
القيامة، وكان عمر النبي وكما قدر الله له كما باقي الناس، كان لا بد من إجراء يبقي
النبي(صلى الله عليه وآله) آثراً وإن فقد شخصاً. فلضمان استمرار الهداية النبوية
لا بد من وسيلة فكانت الإمامة، ولذا فقد ورد تطبيقاً لهذا الأمر تارة في حق
علي(عليه السلام):" وعلي منى انا من علي"[2] وأخرى في إبنه الإمام الحسين(عليه
السلام):" أنا من حسين وحسين مني.."[3].
فبعلي(عليه السلام) بقي محمد(صلى الله عليه وآله)، وبالحسن(عليه السلام) بقي
محمد(صلى الله عليه وآله)، وبالحسين(عليه السلام) بقي محمد(صلى الله عليه وآله)،
وبالحجة(عجل الله فرجه الشريف) سيبقى إلى قيام الساعة.
2- بيان المسلك والمنهاج بعده(صلى الله عليه وآله):
في دعاء الندبة نقرأ: " فلما انقضت أيامه أقام وليه علي بن أبي طالب صلواتك عليهما
وآلهما هادياً، إذ كان هو المنذر ولكل قوم هادٍ"[4].
فلو أن أيام النبي(صلى الله عليه وآله) انقضت ولم يرسل لأمته خارطة سيرها بعده
للحفاظ على انجازاته وللبناء عليها وتثميرها للوصول إلى أرقى الغايات، لظلت كل
انجازاته في مهب ما في نفوس الناس من عصيان وبقايا الوثنية والعادات القبلية، وكذلك
لأصبحت تلك الإنجازات مبتورة، مقطوعة الأثر والبركة في المستقبل، فما يؤمن لجهود
النبي الخاتم دوام الأثر ويجعلها تامة هو تنصيب الشخص المؤهل لذلك، ولذا فإن جهود
النبي ودينه كملت بالإمامة وتمت نعمة الدين بها:
﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ
دِينً﴾[5].
فجهود النبي(صلى الله عليه وآله) المضنية وتضحياته الكبار كانت لتكون بلا ثمار لولا
بيان الخارطة للطريق بعده.
3-بالإمامة تستمر التربية النبوية للبشرية:
إن مشكلة الأمة مع الغدير أنها لم تستوعب يومها أهمية هذا الحدث وأبعاده، ولو فهمت
الأمة يومها مغزى تنصيب الإمام علي(عليه السلام)، وفهمت أن من جملة المراد أن عليها
أن تتخذ علياً(عليه السلام) فيما يلي فترة النبي (صلى الله عليه وآله) إماماً، أي
قائداً وقدوةً كما جاء في رسالته لعثمان بن حنيف:" أي وإن لكل مأموم إماماً يقتدي
به ويستضيئ بنور علمه"[6] لكانت خضعت للتربية العلوية والإعداد العلوي الذي هو بناء
على التربية المحمدية والإعداد المحمدي، ومعنى ذلك تواصل التربية النبوية للبشرية
عبر علي(عليه السلام) وكذلك عبر الأئمة المعصومين(عليهم السلام) من بعده، ونحن ندعي
أن تماهي الأمة مع هذا التنصيب بهذا الفهم لم يكن فقط ليدفع الأمة الإسلامية في
معراج الكمال وإنما كان ليكون عام الأثر على البشرية جمعاء لتصل بذلك إلى المستويات
السامية لإنسانيتها سواء من حيث العلم، او الأخلاق، أو الإدارة أو من حيث الجوانب
الروحية، ولأدى ذلك بالطبع إلى تآكل بنيان الظلم، والجور، وانقشاع ظلمات الجهل
والجاهلية، ولساد الأمن والسلام بدل ما نعيشه من حروب وقتل ودمار.
نموذج مشرق للإسلام:
عندما يكون تنصيب علي (عليه السلام) إماماً بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)
أمراً الهياً بقوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ
إِلَيْكَ..﴾[7].
فإنه يدل بالضرورة على أن الإنسان يفتح آفاقه على المستقبل ولا يتجمد عند أمجاد
الماضي والحاضر، ومن جهة ثانية فإن تأمين وجود الإسلام النقي الإلهي في المستقبل
موقوف على تنصيب علي (عليه السلام) ولذا لم يكن التنصيب لشخص في تاريخه أي خدشة بل
كانت لشخص كان يفترض أن لا يقع أي جدال حول جدارته وهو النموذج الأسمى الذي صنعه
الله للإسلام والمسلمين على عينه وبيده في كنف رسول الله(صلى الله عليه وآله) فهو:
أول الناس إسلاماً، وهو بطل الإسلام،وصاحب الإنجازات الخارقة في ميادين الجهاد
والقتال والذي ضربة منه فقط يوم الخندق تعدل عمل الثقلين، وهو أشجع المسلمين، وهو
أفضل المسلمين وأفقههم وهو أخو الرسول(صلى الله عليه وآله)، أفضل المسلمين إسلاماً
وإيماناً، إمام المتقين وأشد المسلمين إخلاصاً وأعبدهم لله بعد الرسول(صلى الله
عليه وآله) شفيق ورفيق بالإسلام والمسلمين فذب عنهما مرة بالتصدق بالخاتم وهو راكع،
وأخرى بما جاء النصر الإلهي فيه في سورة الإنسان او هل أتى.
وعلي(عليه السلام) ذلك الحكيم باب مدينة العلم وباب مدينة الحكمة فلو أراد الإسلام
أن يقدم نموذجاً للبشرية لن يجد بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) أفضل وأكمل
وأحسن من علي(عليه السلام) في علمه، وعمله، وخلقه، وحكمته، وأخلاقه.
فكان للغدير التأكيد على أن يقدم الإسلام هذا النموذج للبشرية وللإنسانية.
فلا عجب أن يكون الدين المضيئ عند الله مقروناً بالولاية لعلي (عليه السلام)
[1] - سورة التوبة:شطر من الآية 3.
[2] - روضة الواعظين، النيسابوري، ص 110.
[3] - بحار الانوار، المجلسي، ج 43، ص 296.
[4] - مفاتيح الجنان، الشيخ عباس القمي.
[5] - المائدة، 4.
[6] - بحار الانوار، المجلسي، ج 40، ص 341.
[7] - المائدة، 67.