الوعي والبصيرة في الجهاد
الهدف:
بيان أهمّية امتلاك المجاهد للوعي والبصيرة.
محاور الموضوع:
- أهمية الوعي والبصيرة
- الإيمان بالله تعالى سرّ القوة والثبات
- النظرة الصحيحة إلى الموت والشهادة
- عدم الخوف من قوّة العدوّ
- معرفة حقيقة النصر
التصدير:
يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): (إنّ الله كتبَ القتل على قومٍ والموت على آخرين...
فطوبَى للمجاهدين في سبيلِه والمقتولين في طاعتِه)[1].
أهمية الوعي والبصيرة:
من وجهة نظر الإسلام يجب على المجاهد المسلم إضافة إلى التأهيل والخبرة العسكرية
والصفات المعنوية والأخلاقية اللازمة، أن يتمتّع ببصيرة صائبة تمكّنه من اتخاذ
القرارات الصائبة، والتعامل مع أمور الجهاد والحياة بحكمة وروية. عن أمير المؤمنين
علي(عليه السلام) في خطبة يبيّن فيها حال المجاهدين الأوائل زمن رسول الله(ص): (حملوا
بصائرهم على أسيافهم ودانوا لربّهم بأمر واعظهم)[2]. وفيما يلي أهم مظاهر البصيرة
والوعي المطلوبة عند المجاهدين:
الإيمان بالله تعالى سرّ القوة والثبات:
إنّ المجاهدَ الذي ينظر إلى هذا العالم بعين مخلوقٍ يعترف ويُقرّ بوجود الخالقٍ، لا
يربط ظهور العالم بلطفه وفيضه فحسب، بل يعتبر أن ديمومة الوجود والحياة مرتبطة به
تعالى في امتداد الزمن لحظة بلحظة أيضاً، لأنه الخالق ولا يوجد منبع للقدرة والكمال
في العالم سواه، ولا معتمَد غيرُهُ، وهو الذي وصفَ نفسه بأنّه ناصرُ المؤمنين
والمجاهدين في سبيله، وفي آنٍ هو عدوُّ الظالمين ...إلخ.
وبناءً على هذه العقيدة لا يسعى هذا المجاهد وراء الأهداف المادية الرخيصة، ولا
يحول شيء من مغريات الدنيا دون عشق الوصال إلى المحبوب، وتكون تطلّعاته دوماً
منحصرة في سبيل الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ
وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ
أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيف﴾[3].
ومثل هذا المجاهد قد رضي بقضاء الله وقدره لأنه أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين،
وأمله الوحيد في مصاعب الحرب وشدائدها هو الله الذي كتب على نفسه الرحمة، وعليه
يتوكّل وهو نعم المولى ونعم النصير، فلا يستمدّ العون من غيره، ويعتقد أنّ كل ما
يظهر في ساحة الوجود ليس سوى إرادة المولى تبارك وتعالى: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا
إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ﴾[4]، وهذا هو معنى التوحيد العملي في حياة الإنسان المؤمن المجاهد.
وعليه فإنّ بصيرة هؤلاء المجاهدين قد أوصلتهم إلى مرحلة لا يُبتلون معها بالغرور
والعجب والمفاسد الأخلاقية، لأنّهم يرون كلَّ الأسباب والمسبّبات في العالم تحت نظر
الحقّ وسلطته، ويعتقدون بأنّ جميع الأمور هي بيد الله تعالى، وأنّهم ليسوا سوى
وسائط قبلها الله برحمته، فإن هزموا العدوّ في الحرب، كانوا مجرّد عباد منفّذين
لإرادته: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ
رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً
حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[5].
النظرة الصحيحة إلى الموت والشهادة:
إنّ المجاهد المؤمن الذي ينظر إلى هذا العالم وعالم الآخرة على ضوء العقيدة
الإلهية، ويرى أنّ الموت ما هو إلاّ جسر العبور من الدار المحدودة الفانية إلى دار
رحمة الله الخالدة، فهو ليس فقط لا يخشى الموت، وإنّما يسرع إلى استقباله إذا ما
تتطلّب الواجب منه ذلك.
إنّ المجاهدين المؤمنين بخطّ الشهادة قد أعدّوا أنفسهم لأي نوع من أنواع الموت الذي
قُدِّرَ لهم، وعلى رضاً من أنفسهم، وعشقهم أن يكون خروجهم من هذا العالم عن طريق
الشهادة، وأن تختم حياتهم في هذا العالم بهذا الشرف العظيم. والإمام علي(عليه
السلام) نفسه كان يَعدُّ الأيام شوقاً إلى هذه الأمنية، حيث يقول: (إنّ أكرمَ
الموتِ القتلُ، والذي نفسُ ابن أبي طالب بيده لألفُ ضربة بالسيف أهونُ عليَّ من
ميتة على الفراش في غير طاعة الله)[6].
وفي آخر عهده لمالك الأشتر، يتمنّى من الله لنفسهِ ولصاحبه الوفيّ أن يرزقهما
الشهادة في سبيله، فيقول: (وأنا أسأل الله بسعة رحمته، وعظيم قُدرته على إعطاء كل
رغبة... وأن يختمَ لي ولك بالسعادة والشهادة)[7].
وإنّ التسابق إلى الشهادة بين جُندِ صدر الإسلام المضحّين، وكذلك بين أصحاب الإمام
الحسين(عليه السلام)، ومجاهدي الإسلام خلال الحرب المفروضة على الجمهورية الإسلامية
المباركة، كان ناشئاً من إدراك هذه الحقيقة، التي استلهموها من آيات القرآن الكريم
وسيرة المعصومين (عليه السلام)، حيث كانوا يعلمون أنَّ الشَّهادة هي أفضلُ أنواع
الموت بين يدي الله تبارك وتعالى.
إنّ أفضل صورة على الإطلاق تبيّن حقيقة نظرة المؤمن إلى الشَّهادة، هو حديث السيدة
زينب الكبرى(عليه السلام) في مجلس ابن زياد لعنه الله، عندما سألها قائلاً: كيف
رأيتِ فعلَ الله بأخيك وأهل بيتك؟ فأجابته: (ما رأيت إلاّ جميلاً)[8].
ومعنى كلمتها المباركة هو: أنّ شهادة جميع الشهداء في كربلاء، وسبيَ النساء
والأطفال، وكل مشاهد المأساة هي جميعاً من وجهة نظر السيدة زينب’، أمورٌ جميلة
لأنها من أروع آيات التضحية والفداء والإيثار على أعتاب الرضا الإلهي، ويجب على كل
مؤمن تصادفُه أن يستقبلها ويتقبّلها بصدر واسع، ويراها حسنة وجميلة.
عدم الخوف من قوّة العدوّ:
إن قوّة العدوّ المادية وعديده وعدّته من العوامل التي قد تقود أحياناً إلى الرهبة
والخوف، والمؤدّي أحياناً إلى الهزيمة والفشل، وهذا ما يحاول العدو تحقيقه والوصول
إليه في دعايته الإعلامية وحربه النفسية ضد المجاهدين.
ولكن عندما نعود إلى تاريخ الإسلام نجد بأنّ النبي(ص) والمسلمين الأوائل نجد بأنّهم
قد غيّروا المعادلة المذكورة، بوعيهم وبصيرتهم وصبرهم وتحمّلهم، فلو رجعنا إلى عديد
جيش الإسلام الأول في معاركه، فسنجد أن التوازن العددي مفقود: ففي معركة بدر كان
عدد جيش المسلمين 313 رجلاً مقابل 950 مشرك على سبيل المثال، ولكن الأمر كان ﴿يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ
عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ
يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُو﴾[9]. وفي معركة الخندق كان المشركون
على بعض التقديرات أكثر من عشرة آلاف مقاتل، والمسلمين لم يتجاوز عددهم ثلاثة
آلاف[10]. لكن المسلمون الأوائل لم يهابوا كثرة الأعداء ولم يخشوا قوّتهم على
الإطلاق، بل زادهم الأمر بأساً وتوكّلاً على الله:﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ
إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً
وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾[11].
معرفة حقيقة النصر:
في قوله تعالى ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ
وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ﴾[12]، دلالة واضحة على أن تحقّق النصر الإلهي شرطه الأول
والأساسي هو نصرة دين الله من خلال العمل الصالح والطاعة والالتزام بالتكاليف
الشرعية التي يحددها الله أو وليّه في الأرض بجد وإخلاص وتفانٍ، والنتيجة ﴿إِنْ
يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ﴾[13].
إنّ المجاهدَ المؤمنَ يرى أن المبدأ الأساسي والأصل الحاكم في المسيرة الجهادية هو
الطاعة والعبودية لله سبحانه التي تتجلّى من خلال ثقافة وروحية أداء التكليف
الشرعي، سواء وصل إلى النتيجة الظاهرية لجهاده أم لا. لأن النصر الحقيقي يكمن في
الالتزام بالتكليف الشرعي وبلوغ رضا الله جلّ شأنه ، وعلى أي حال كان، لأنَّه
امتحان لله لنا في عبوديتنا الخالصة له من دون أي شائبة حتى ولو كانت على نحو
الاغترار بالنصر المادي على العدو. وفي المقابل، لو قصّر المجاهد في أداء تكليفه
وبلوغ رضا الله سبحانه، فإنّه يعتبرُ نفسه مهزوماً حتى لو تمكّن من الانتصار على
العدوّ في الظاهر.
وعليه، لا معنى للهزيمة بالنسبة للمجاهد، المطمئنّ إلى وعد الله بالنصر وبعلوّ شأنه
وأصحابه بفضل من الله وقوةّ. كما أشار القرآن المجيد إلى هذا الوعد بقوله تعالى:
﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم
مُّؤْمِنِينَ﴾[14]، وهذا العلوّ متحقّق حتماً في كلا الحالين – النصر أو الشهادة –
والغلبة دوماً هي للمؤمنين على الكافرين ما دامت الطريق تعبّد بمرضاة الله وألطافه.
[1] بحار الأنوار، ج32، ص203.
[2] نهج البلاغة، خطبة 150.
[3] النساء، 76.
[4] التوبة، 51.
[5] الأنفال، 17.
[6] نهج البلاغة، الخطبة 122.
[7] م.ن، الرسالة 53.
[8] بحار الأنوار، ج45، ص116.
[9] الأنفال، 65.
[10] بحار الأنوار، ج20، ص228.
[11] آل عمران، 137.
[12] محمد،7.
[13] آل عمران،160.
[14] آل عمران، 139.