الهدف:
التعرّف على أهمية التدبير المعيشي وضرورة الرشد في الإنفاق.
المحاور:
- مفهوم التدبّير وأهميته
- التدبير عنوان الرقي والكمال
- التدبير مقرون بالعلم
- النبي يوسف والتدبير الاقتصادي
- ضرورة الرشد في الإنفاق
تصدير:
روي عن الإمام عليّ (عليه السلام)، قوله: "حُسن التَّدبيرِ يُنمِي قليلَ المالِ،
وسوءُ التَّدبيرِ يُفنِي كثيرَهُ"[1].
مفهوم التدبير:
التدبير هو: التفكير بعاقبة الأمور، وإمعان النظر، والتحسّب لما سيكون. وأن يُدبِّر
الإنسان أمره، هو: أن ينظر إلى ما تَؤول إليه عاقبته وآخرته. والتَّدَبُّر: التفكر
في الأمر[2].وكما يقول السيد الطبطبائي:والتدبير هو الإتيان بالشيء عقيب الشيء،
ويُراد به: ترتيب الأشياء المتعدّدة المختلفة، ونظمها، بوضع كلّ شيءٍ في موضعه
الخاصّ به، بحيث يلحق بكلٍّ منها ما يُقصَد به من الغرض والفائدة...[3].
أهميّة التدبير:
لا يختلف اثنان في أنّ تدبير شؤون الحياة يُعدّ من الأمور الهامّة لكلّ إنسانٍ؛ لأن
تنظيم شؤون الحياة حسب تعاليم ديننا الإسلاميّ من شأنه أن يفتح لنا باب السّعادة
على مصراعيه. وبحسب عقيدتنا فإنّ الشريعة الإسلاميّة تكفّلت بوضع برنامج شامل
ومتكامل يهدي الإنسان إلى السعادة المنشودة في الدّنيا والآخرة، لأنّها تتناول جميع
جوانب الحياة المادّيّة والمعنويّة، للفرد والمجتمع على حدٍّ سواء. روي عن الإمام
جعفر الصادق (عليه السلام)قوله: "لا يَصلُحُ المؤمنُ إلا على ثَلاثِ خِصالٍ:
التَّفقُّهِ في الدِّينِ، وحُسنِ التَّقديرِ في المعيشةِ، والصَّبرِ على
النّائبَةِ"[4].
وروي أنّ رجلاً قال للإمام جعفر الصادق (عليه السلام): بلغني أنّ الاقتصاد والتدبير
في المعيشة نصف الكسب! فقال (عليه السلام): "لا، بَل هُو الكسبُ كلُّهُ، ومِن
الدِّينِ التَّدبيرُ في المعيشةِ"[5].
التدبير عنوان الرقي والكمال:
إنّ التدبير والتحسّب لعواقب الأمور، والتخطيط الصحيح، ونظم شؤون الحياة، تعدُّ
الأركان الأساسيّة للرقيّ، وبلوغ الكمال المنشود، عن الإمام جعفر الصادق (عليه
السلام): "الكَمالُ كُلُّ الكَمالِ: التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ، وَالصَّبرُ عَلَى
النّائبَةِ، وَتَقديرُ المعيشةِ"[6]. فمن خلال التدبير واتّباع النهج الصحيح في
الأمور الاقتصاديّة، يمكن الوصول إلى الكمال.
التدبير مقرون بالعلم:
ويكون التّدبير - دائماً - متناغماً مع العلم، والمعرفة، والخبرة، والعقل،روي عن
رسول الله قال: "يا ابن مسعود، إذا عملتَ عمَلاً فاعملْ بعلمٍ وعقلٍ، وإيّاكَ وأنْ
تعملَ عملاً بغيرِ تدبّرٍ وعلمٍ، فإنّه جلَّ جلالهُ يقولُ: وَلا تَكُونُوا
كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثَاً"[7]. وقد أكّد الإمام
عليّ (عليه السلام) على أنّ التدبير سبيلٌ للرقيّ الاقتصاديّ، حين قال: "حُسنُ
التَّدبيرِ يُنمِي قليلَ المالِ"[8].
ويُعدّ تدبير شؤون الحياة بطبيعته جزءاً من الدين، عن الإمام جعفر الصادق (عليه
السلام): "مِن الدِّينِ التَّدبيرُ في المعِيشَةِ"[9].لذا، فإنّ حسن التدبير كان
صفة لازمة للمؤمنين بحيث يمتازون بها عن غيرهم، لأنّهم لا يستهلكون أموالهم عبثاً،
ولا يبذّرونها، بل يراعون الاعتدال في إنفاقها، ويخشون فيها غضب الله تعالى، في ما
لو أفرطوا أو فرّطوا في إنفاقها، بخروجهم عن الحدود التي أجازها الله تعالى لهم في
الإنفاق.
النبي يوسف والتدبير الاقتصادي:
نستلهم من قصّة النبيّ يوسف (عليه السلام) أنّه وضع برنامجاًاقتصاديّاً، لإدارة مصر
لأكثر من عقدٍ، وتمكّن من القيام باستثماراتٍ ضخمةٍ في هذه البلاد. وهذه
الاستثمارات قد بُرمِجَت في إطار خطّةٍ طويلة الأمد، وفي ثلاثة محاور، هي:
توفير عناصر الإنتاج، وإنشاء ثروةٍ ماليّةٍ واستثمارها، وبناء مخازن للموادّ
الغذائيّة، بغية حفظها لسنوات الجدب. قال الله تعالى:
﴿قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ
سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا
تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا
قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن
بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾[10].
فالنبيّ يوسف (عليه السلام) عندما تولّى إدارة الشؤون الاقتصاديّة في مصر، أشرف على
الأموال والمحاصيل في السنوات السبع ذات النعمة الوفيرة إشرافاً دقيقاً، فتمكّن من
ادّخار أكبر قدرٍ ممكنٍ من المحاصيل الزراعيّة لسنوات الجدب. وحسب ما أشارت إليه
بعض الروايات، فإنّه (عليه السلام) تجاوز محنة سنوات الجدب، وجنّب الناس القحط
والمجاعة، من خلال حسن تدبيره في القضاء على الاستثمار الطبقيّ في المجتمع، وإزالة
الفواصل بين فئات المجتمع المصريّ،والإشراف بدقّةٍ على إنفاق الأموال في سنوات
الخير السبعة، تمكّن من ادّخار مقادير عظيمةٍ من المحاصيل الزراعيّة لسنوات الجفاف
والجدب.
وقصّة النبيّ يوسف (عليه السلام) في القرآن الكريم خير دليلٍ على أهمّيّة الادّخار،
وذلك عندما فسّر رؤيا فرعون مصر في البقرات السبع العجاف بسنوات الجفاف، والجدب،
ومن ثمّ اقترح عليه توفير القمح، لتجاوز هذه المحنة. جاء في كتاب الله العزيز:
﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ
يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ
لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ * قَالَ تَزْرَعُونَ
سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ.﴾
ضرورة الرشد في الإنفاق:
تحدّثت الآيات والرّوايات عن تقدير الرزق كثيراً، وهي في الواقع بمثابة الكابح
للحريصين وعبّاد الدنيا الذين يَلجون كلّ بابٍ، ويرتكبون أنواع الظلم والجنايات،
ويتصوّرون أنّهم إذا لم يفعلوا ذلك لم يؤمّنوا حياتهم! غافلين عن أنّ الآيات
والروايات تحذّر هذا النمط من الناس ألاّ يمدّوا أيديهم وأرجلهم عبثاً، وألاّ
يطلبوا الرزق من طُرقٍ غير مشروعةٍ ولا معقولةٍ، بل يكفي لهم أن يسعوا لتحصيل الرزق
عن طريقٍ مشروعٍ، والله سبحانه يضمن لهم الرزق، فالله تعالى لم يُهمِلهم حتّى في
ظلمة الرحم[11].
ولا بدّ من تربية النفس والمجتمع على الرشد في الإنفاق من خلال:
وجوب اجتناب الإسراف:
السّرف هو تجاوز الحدّ في كلّ فعلٍ يفعله الإنسان، وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر" .
نستلهم من آيات القرآن الكريم أنّ الإسراف يقابل التقتير، حيث قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يُقَتُرُوا وَكانَ بَيْنَ
ذلِكَ قَوامَ﴾ الفرقان: 67.تعاليمنا الدينيّة على أنّ الإسراف من الأعمال الذميمة
جدّاً، حيث نهى القرآن الكريم نهياً شديداً عنه، فالله تعالى عدّه من السُّنَن
الفرعونيّة:
﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسَىإِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ
مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي
الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾، يونس: 83. وتوعّد المسرفين بعذابٍ
أليمٍ:
﴿لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي
الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللهِ وَأَنَّ
الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ غافر: 43..
أسباب حرمة الإسراف:
يُعدّ الإسراف خروجاً عن مستوى التوازن، أي عن حكم العقل والإذعان لأهواء النفس.
فهو إهدارٌ للنعمة التي أكرم الله تعالى بها عباده، لإمرار معاشهم. ونتيجة هذا
الإهدار هي البعد عن رحمة الله تعالى ورضوانه.
يقول العلامة الشهيد مرتضى المطهّري رحمه الله: "إنّ الإسراف، والتبذير، وأيّ
استخدامٍ غير مشروعٍ للأموال، ممنوعٌ. والمنع هنا ليس ناشئاً من حرمة هذا العمل
فحسب، بل لأنّه - أيضاً - يُعدّ تصرّفاً في الثروة العامّة من دون إذنٍ. فهذا
المال، وإن كان خاصّاً، فهو متعلّقٌ بالمجتمع - أيضاً -"[12].
روي عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): "إنَّ القصدَ أمرٌ يُحبُّهُ اللهُ عزَّ
وجلَّ، وإنَّ السَّرفَ أمرٌ يُبغضُهُ اللهُ عزَّ وجلَّ حتّى طرحَكَ النَّواةَ،
فإنِّها تَصلحُ لشيءٍ وحتّى صبَّكَ فَضلَ شَرابِكَ".
وجوب اجتناب التّبذير:
التبذير: التفريق، وأصله إلقاء البذر وطرحه، فاستعير لكلِّ مُضيِّعٍ لماله، فتبذير
البذر: تضييعٌ في الظاهر لمن لم يعرف مآل ما يلقيه.
والتبذير يخصّ الحالات التي يصرف فيها الإِنسان أمواله بشكلٍ غير منطقيٍّ وفاسدٍ.
وبتعبيرٍ آخر: إنّ التبذير هو هدرالمال في غير موقعه، ولو كان قليلاً، بينما إذا
صُرِفَ في محلِّه، فلا يُعدّ تبذيراً، ولو كان كثيراً. والتبذير - دائماً - ما
يتلازم مع إتلاف المال، لأنّ إنفاق المال في أغراضٍ غير عقلائيّةٍ هو إهدارٌ
للثروة.
لذا، فإنّ إهدار المال وإنفاقه عبثاً يُعدّ من الأفعال المحرّمة دينيّاً، سواءٌ
أكانت هذه العبثيّة من الناحيّة الكمّيّة أم من الناحية النوعيّة، إذ يجدر بالإنسان
أن يأخذ بعين الاعتبار الجوانب النوعيّة لمؤونته التي يقتنيها، ومدى كفاية المصادر
الإنتاجيّة والخدماتيّة التي يعتمد عليها في معيشته، أي عليه أن يسخّر كلّ مصدرٍ
إنتاجيٍّ أو خدماتي، بطريقةٍ يمكنه معها بلوغ أقصى درجات الاستثمار، لكي يستغلّ
طاقته الكامنة بشكلٍ أمثل.
والقرآن الكريم بدوره عدّ المبذّرين إخوانَ الشياطين، حيث قال تعالى:
﴿إِنَّ
الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ
كَفُورً﴾.الإسراء: 27.
أمّا كون المبذّرين إخوان الشياطين، فذلك لأنّهم كفروا بنعم الله، حيث وضعوها في
غير مواضعها تماماً، كما فعل الشيطان مع نِعم الله تعالى، ثمّ إنّ استخدام (إخوان)
تعني أنّ أعمالهم متطابقةٌ ومتناسقةٌ مع أعمال الشيطان، كالأخَوين اللَّذَين تكون
أعمالهما متشابهةً.
[1] ميزان الحكمة، الريشهري، ج2، ص 1385.
[2]ابن منظور: لسان العرب، ج4، ص273
[3]الطباطبائي، محمد حسين: الميزان في تفسير القرآن، ، ج11، ص289-290).
[4]تحف العقول عن آل الرسول ، ص359.
[5]الأمالي، الطوسي، محمد بن الحسن، ص670
[6]كافي، الكليني، ج 1، ص 33.
[7]ميزان الحكمة، الريشهري، ج3، ص 2130.
[8]ميزان الحكمة، الريشهري، ج2، ص 1385.
[9]الأمالي،الطوسي،محمدبنالحسن،ص670
[10]سورة يوسف، 49 – 49.
[11]الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، م.س، ج6، ص468
[12]مطهّري، إطلالة على النظام الاقتصادي في الإسلام ، ص55-56..