* تصدير:
قال الله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ
وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا
وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ*إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ
وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾[1]
* محاور الموضوع:
1- اختلاف التوصيف القرآني للأهل والمال.
2- لماذا يكون الأهل فتنة أو عدواً؟
3- سبيل النجاة من الفتنة واتقاء العداوة.
4- الأزواج والأولاد قرة أعين؟
5- خاتمة.
* مقدمة: اختلاف التوصيف القرآني للأهل والمال:
لقد اختلفت تعابير القرآن الكريم في توصيف الأهل والأولاد والأموال. فمن كونهم
﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...﴾[2] إلى
﴿يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ
فَاحْذَرُوهُمْ..﴾[3] إلى
﴿.. إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ
وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾[4] وفي كل ذلك توصيف ثم تحذير ثم يأمرنا المولى
تعالى قائلاً:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ
نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ...﴾[5].
وليعقب قائلاً عن التواني واللامبالاة اتجاههم بالقول:
﴿... إِنَّ الْخَاسِرِينَ
الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ...﴾[6]
وليقدم نموذج أهل البصيرة في التعامل مع نعمة الأهل والولد في وصفه للمتقين إذ يورد
دعائهم مادحاً لهم ومثنياً عليهم بالقول:
﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ
لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا
لِلْمُتَّقِينَ إِمَامً﴾[7]
فيا ترى ما سر هذا الإختلاف في التعابير القرآنية حول للأهل والولد والمال؟ ولماذا
تارة يكونون فتنة، وأخرى عدو، وثالثة حسرة يوم القيامة ومتى يصيرون قرة للعين؟
ولإيجاد أجوبة هذه الأسئلة المحيرة نشرع بالبحث عن معانيها وما هي مرادات المولى من
ذلك.
* لماذا يكون الأهل فتنة أو عدو؟
لا بد من الإشارة أولاً أن الله تعالى لم يقل إن كل الأزواج والأولاد عدو بل
قال:
﴿.. إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ ..﴾ فأدخل حرف
الجر "من" على
﴿أزواجكم وأولادكم﴾ وهي للتبعيض ومعنى ذلك أن بعض الأولاد والأزواج
يكونون عدواً والمراد والله أعلم أنه كون بعض الأزواج والأولاد ربما يصبحون أعداءً
فالواجب الحذر من كل زوج وولد لأن الخطر فيها عظيم، وهو الحرف عن الإيمان ومقتضيات
الإيمان من أعمال صالحة ولعل تصدير الخطاب الإلهي ف ي هذه الآية بقوله تعالى:
﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا...﴾ يلفت إلى أن خطرهم وعداوتهم من جهة الإيمان، ففي
تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام) في قوله
تعالى:"
﴿...إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ
فَاحْذَرُوهُمْ...﴾، وذلك أن الرجل إذا أراد الهجرة تعلق به ابنه وامرأته وقالوا:
ننشدك الله أن تذهب عنا فنضيع بعدك، فمنهم من يطيع أهله فيقيم، فحذرهم الله ابناءهم
ونساءهم ونهاهم عن طاعتهم، ومنهم من يمضي ويذرهم ويقول:أما والله لئن لم تهاجروا
معي ثم جمع الله بيني وبينكم في دار الهجرة لا أنفعكم بشيء أبداً. فلما جمع الله
بينه وبينهم أمر الله أن يتوق بحسن وصله فقال:
﴿... وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا
وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾[8]".[9]
ومن هنا يظهر معنى كون الأولاد والأموال فتنة، لكونهما زينة الحياة تنجذب إليهما
النفس انجذاباً فتتفتن وتلهو بهما عما يهمها من أمر الآخرة وطاعة الله تعالى إذ إن
الفتنة ما يبتلى به الإنسان ويمتحن قال في الأمثل: "وتظهر هذه العداوة أحياناً
بمظهر الصداقة وتقديم الخدمة، وحيناً آخر تظهر بسوء النية وخبث المقصد.
وعلى كل حال فإن الإنسان يصبح على مفترق طريقين، فطريق الله وطريق الأهل
والأزواج"[10]، وفي موضع آخر في تفسير الآية قال: "... إن هناك مظاهر عديدة لهذه
العداوة فأحياناً يتعلقون بثيابكم ليحرموكم خير الهجرة، وأخرى ينتظرون موتكم
ليسيطروا على أموالكم وثروتكم".[11]
ويمكن أن يكون ذلك بالوقوف بوجه فعلكم الخير والتصدق بإشعاركم بأن ذلك فيه مضرة
عليكم ويعاونون شح النفس والشيطان وجنوده بتخويفكم من الفقر إن كان البر في النفقة
في سبيل الله، أو بإثارة عواطف الزوجية والأبوة إن كان الموضوع يتعلق بالجهاد في
سبيل الله حيث يضغطون على عواطفكم بأن ذلك قد يؤدي إلى ترمل الزوجات وتيتم الأولاد.
* سبيل النجاة من الفتنة واتقاء العداوة؟
والجواب هو أنه ينبغي على الإنسان أن يفهم أنه لئن كان الأولاد وسيلة من وسائل
الإمتحان وكذلك المال والأزواج فعلى الإنسان أن يحذر من مغبة الوقوع في الحب المفرط
للأموال والأولاد والأزواج، وعليه أن يكون متوازناً في العاطفة والحب ولا يضعف أمام
من وما يحب، وعليه أن يرتب أولوياته ويجعل رأس القائمة، قائمة أولوياته الله تعالى
وأولياءه وشريعته ودينه، وأن يجعل لآخرته الأولوية، بل أن يجعل دنياه وما أنعم الله
عليه به منها في خدمة آخرته ودينه، لكن ليلتفت أن لا يؤدي ذلك إلى الخشونة والعنف
في معاملة الأهل، وأن لا يفضي ذلك إلى إهمالهم، فإن "من شقي به أهله هو أشقى الناس
على الإطلاق"[12].على حد تعبير الرواية.
ولذا قال تعالى في ذيل الآية: "
﴿...وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ فالعفو بمعنى صرف النظر عن العقوبة في الصفح
مرتبة أعلى ويراد به ترك أي توبيخ ولوم والغفران الذي يعني ستر الذنب وتناسيه،
وبهذا فإن الآية في نفس الوقت الذي تدعو الإنسان إلى الحزم وعدم التسليم في مقابل
الزوجة والأولاد فيما لودعوه إلى سلوك خاطئ تدعوه كذلك إلى بذل العفو والمحبة في
جميع المراحل..."
وعليه فإن العفو والصفح والمغفرة لا يمكن أن تعني الإنقياد إلى الأزواج والأولاد
إذا ما أرادوا ما فيه الضلال والإنحراف أو الصّد وقطع طريق المعروف.
وكذلك لا يعني ذلك أن تقابل كل مواقف وطلبات الأولاد والأزواج بالرفض والمعاندة
والإتهام بل علينا أن نزين ذلك بموازين الشرع والعقل.
يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): "لا يقولن أحدكم: اللهم إني أعوذ بك من الفتنة
لأنه ليس من أحد إلا وهو مشتمل على فتنة، ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلات الفتن،
فإن الله سبحانه يقول:
﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ
فِتْنَةٌ...[13]﴾.[14]
* الأولاد والأزواج قرة أعين؟
عندما وصف المولى تعالى في كتابه الكريم علاقة بعضنا بنعمه تعالى بأنه قد تنتج
أعداءً، وأمرنا بالحذر من ذلك. دعانا في نفس الوقت إلى بذل العفو والرحمة والمحبة
﴿...وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً...[15] ﴾، وطلب ذلك في جميع المراحل
ليكون من أساليب التربية السليمة ولأجل تعميق جذور التدين والإيمان في العائلة،
وذلك ليكون التعامل داخل لعائلة خصوصاً من جهة الأب وهو رب العائلة بداعي الحب
والمودة والرحمة، فإذا اعتاد أهل البيت على خلوص نية الأب وصفاء قلبه فهموا بل
تيقنوا أن كل ما يصدر، عنه لا يكون إلا من قلب شفيق حنون رؤوف عطوف، رحوم يريد لهم
الخير ويحب لهم الخير ويجهد لإمدادهم بكل ما هو خير.
وفي قوله تعالى:
﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا
وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامً﴾[16] ما
يوضح ذلك إذ إن الدعاء يعبر عن مكنون نفس هؤلاء الذين وسمهم تعالى بعباد الرحمان
ليذكر أن من صفاتهم وأعمالهم هذا الدعاء لأهليهم وهي أن يوفقهم ليكون لهم في
أزواجهم وأولادهم ما تقر بهم أعينهم.
ومعنى ذلك كما ينقل عن مفردات الراغب: " وقرت عينه تقر سرت، قال تعالى:
﴿كَيْ
تَقَرَّ عَيْنُهَ﴾[17]، وقيل لمن يسر به قرة عين،.. قيل أصله من القِرّ أي البرد
فقرت عينه. قِيلَ معناه بردت فصحت، وقيل بل لأن للسرور دمعة باردة قارة، وللحزن
دمعة حارة، ولذلك يقال فيمن يدعى عليه: أسخن الله عينه، وقيل: هو من القرار.
والمعنى أعطاه الله ما تسكن به عينه فلا يطمح إلى غيره".[18]
وكيف كان، فالمراد أن يكون الأزواج والذراري مجلبة للسرور والرضا من خلال طاعة الله
والإعانة للآباء على الطاعة والمؤازرة في ملمات الزمن وقد ذكر المولى هذه الصفة،
وهي الثانية عشرة من صفات عباد الرحمان، وتعني أنه لعباد الرحمن توجهاً خاصاً إلى
تربية أبنائهم وعوائلهم، وتحملهم مسؤولية ذلك ودعاؤهم دليل حبهم ورغبتهم بل تشوّقهم
ليكون أولادهم وأزواجهم مصدر سعادة وطمأنينة، ولا يخفى أنه ليس معنى دعائهم هو
اكتفاؤهم به بل إن دعاءهم يرمز إلى عملهم بجد واجتهاد لأجل ذلك الهدف فمؤمنون
يتمتعون بما أوردت سورة الفرقان من صفاتهم لا يمكن أن يقصروا في بذل وعمل كل ما
يحقق أمانيهم ويرفدوا دعاءهم بذلك البذل وذاك العمل، ومن جهة أخرى فإن مقتضى سبق
هذه الصفة، وهي دعاؤهم بكون أزواجهم وذريتهم قرة أعين لهم ولغيرهم بأحد عشر صفة (من
صفات عباد الرحمان أن تكون تلك الصفات من عدم التكبر والتواضع إلى صلاة الليل إلى
الخوف من النار، إلى عدم الإسراف إلى توحيده تعالى بالدعاء، وإلى كونهم لا يقتلون
النفس المحرمة والعفاف وعدم شهادة الزور والوعي والبصيرة).
هي أن قرة أعينهم بكون أزواجهم وذراريهم على صفات ملائمة لما وصفهم الله بها.
وثمة افادة أخرى هي أنهم يريدونهم قرة أعين على العموم وهذا ما يدل عليه تذكير أعين
مع جمعها أضف إلى اتباعها بدعائهم
﴿ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامً﴾[19]،
لتكون عوائلهم قدوة للمتقين.
* خاتمة
أيها العزيز إذا أردت أن يكون زوجك وأبناؤك مصدر سعادتك وراحة لنفسك وطمأنينة لقلبك
وذخراً لآخرتك فاسع أن لا تكون مفرطاً في حبك لهم أسيراً لتلك العاطفة، بل متوازناً
في مشاعرك محكماً للأولويات على وفق دينك وانتبه أن يكون تعاملك بود ورحمة وشفقة،
فلا تكن مفرِّطاً غير عابئ بحالهم أو مصيرهم، ولا تكن مفرِطاً تنسى نفسك وآخرتك
وتفني دنياك بل حتى آخرتك لأجل سعادة من تُحب.
[1] سورة التغابن، الآيات: 14-15.
[2] سورة الكهف، الآية:46.
[3] سورة التغابن، الآية:14.
[4] سورة التغابن، الآية:15.
[5] سورة التحريم، الآية:6.
[6] سورة الزمر، الآية:15
[7] سورة الفرقان، الآية:74.
[8] سورة التغابن، الآية:14.
[9] تفسير الميزان، السيد الطباطبائي-ج19،ص309.
[10] الأمثل، في تفسير كتاب الله المنزل(الشيخ ناصر مكارم الشيرازي)،ج18، ص392.
[11] الأمثل، في تفسير كتاب الله المنزل(الشيخ ناصر مكارم الشيرازي)،ج18، ص392.
[12] في ظلال نهج البلاغة، محمد جواد مغنية، ج3،ص523.
[13] سورة الأنفال، الآية:28.
[14] وسائل الشيعة( آل البيت)، الحر العاملي،97،ص137.
[15] سورة الروم، الآية:21.
[16] سورة الفرقان، الآية:74.
[17] سورة القصص، الآية:13.
[18] المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني،ص398.
[19] الفرقان / آية 74.