تصدير:
قال الله تعالى:
﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ
إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.[1]
الهدف:
بيان عوامل التزلزل وما هي الأمور الضامنة للثبات؟
المحاور:
1- الثبات مطلب إلهي.
2- عوامل التزلزل:
حب الدنيا والركون إليها.
الخوف من الموت.
3- تهيب الأخطار.
خاتمة: الضامن للثبات طاعة الولي الشرعي.
مقدمة: الثبات مطلب إلهي:
قال الله تعالى:
﴿وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا
نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى
لِلْمُؤْمِنِينَ﴾.[2]
هذه الآية في سورة قال فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "شيبتني سورة
هود"[3] وقيل إن سبب قوله هذا هو أمر الله له الوارد فيها
﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا
أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.
حيث شق على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر الله له بالإستقامة، ومعناها
عدم التزلزل والتلون والتردد.
وسورة هود كما هو معروف تعرض عدداً من أخبار الأنبياء (عليهم السلام) والتي أتت في
سياق تثبيت فؤاد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقلوب المؤمنين، ولتأتي السورة
متناغمة مع الأمر بالإستقامة إذ قدمت كما ذكرت الآية ما يعين على إيجاد الإستقامة
والثبات ويقاوم التزلزل وأوجزته بأنه حق وبأنه تذكير بالسنن, ما يحمل من تجارب
النبوات والمؤمنين ليقدمها موعظة حيث يقص الله على نبيه في هذه السورة قصص
الأنبياء(عليهم السلام) وما واجهوه وكيف كانت مقاومتهم في مواجهة المعاندين وما آلت
إليه عاقبة ثباتهم ومقاومتهم من نصر على صعيدي الدنيا والآخرة ليقوي الله بذلك قلب
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقلوب المؤمنين الذين يناصرونه ويقاومون تحت
قيادته (صلى الله عليه وآله وسلم). وبالتالي بعد أن سلّى الله قلبه وقوى إرادته
بذكر قصص الأنبياء(عليهم السلام)، جاء الأمر الإلهي
﴿...وَاسْتَقِمْ كَمَا
أُمِرْتَ...﴾[4] أي استقم في كلا طريقي التبليغ والإرشاد وكذلك في طريق المواجهة
سواء كانت عسكرية أو ثقافية أو إقتصادية أو أمنية أو غير ذلك.
ومعنى الاستقامة، أن يؤدي ومن معه من المؤمنين ما جاء به من الأهداف وفي السلوك
إليها، أي في الوظائف الإلهية ولذا عبر عن هذا بقوله:
﴿... كَمَا أُمِرْتَ...﴾ والتي
معناها وفق الشريعة الإلهية وعلى ضوء المبادئ الإلهية، وجاء التحذير الإلهي بعدم
الإنحراف بالتذكير المشعر بالتهديد أن ذلك تحت رقابة الله تعالى فقال:
﴿... وَلاَ
تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.[5]
فالاستقامة والثبات على المبادئ والأهداف والاستقامة في طريق تحقيقها مطلب إلهي
ولكونه شاقاً وحساساً ودقيقاً كان أثر هذا الأمر الإلهي ما ذكرته الرواية عنه(صلى
الله عليه وآله وسلم) حيث قال لأصحابه حين قيل له: أسرع إليك الشيب يا رسول الله
قال (صلى الله عليه وآله): "شيبتني سورة هود والواقعة".[6]
وفي رواية أخرى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال حين نزلت هذه الآية: "شمروا
شمروا... فما رُئي ضاحكاً..."[7]
وذلك أنه كما ذكر بعض أرباب التفسير :"الاستقامة التي معناها طلب القيام، أي أوجد
حالة في نفسك بحيث لا تجد طريقاً للضعف فيك،...".[8].
عوامل التزلزل:
بناءً على ما ذكرنا آنفاً فإن الآيات بل السورة كلها جاءت لتقول للمؤمنين
ولقائدهم النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) إنَّ تحمل مسؤولية القيام لله، في
مواجهة الأخطار وفي الحركة باتجاه الأهداف النبيلة والسامية المرفوق بأنواع من
المشاق والمتاعب والبلاءات والنجاحات والإخفاقات وما تتركه في النفوس من ندب وجروح
وآلام، وكذلك الإنتصارات كما الهزائم، ينبغي أن لا تخرج أقدام السائرين على خطى
الأنبياء(عليهم السلام) عن جادة الحق والذي ينحرف عنها إنما يكون نتيجة خفة وزنه
أمام رياح وساوس الشياطين وجموح الأنفس عند النصر والنجاح لتتجاوز الحدود وتطغى أو
لتسقط تحت ضغط الهزائم والفشل.
والآن تعالى لنبسط الحديث بإيجاز حول بعض أسباب وعوامل التزلزل، حيث نذكر منها:
1- حب الدنيا والركون إليها:
فعندما يتعلق قلب الإنسان بالدنيا، وتكون الدنيا ونعيمها ومتعها ولذائذها هواه
وقبلة قلبه ويتحول هذا إلى عشق للدنيا فستتحول الدنيا وشهواتها إلى إله خفي يتحكم
بالعواطف والمشاعر فيعظم الخوف إن تعرضت دنيا عاشقها للخطر وينتشر الفرح والحبور إن
أتت الظروف بما يلائم الحصول عليها والتمكن منها.
ولذا جاء قول سيد الشهداء(عليه السلام) عن أحوال الأمة عشية اقترافها جريمتها
التاريخية بحقه والثلة الأطهار من أهله وصحبه: "الناس عبيد الدنيا والدين لعق على
ألسنتهم يحوطونه ما درت معايشهم، فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون".[9]
نعم دنيا المسلمين قتلت سيد الشهداء، وليس فقط دنيا يزيد، وابن زياد وابن سعد وشمر
بن ذي الجوشن؛ فدنيا هؤلاء جعلتهم قادة الجيوش الزاحفة على معسكر سيد الشهداء،
ودنيا غيرهم جعلتهم جنوداً في هذا الجيش ودنيا آخرين أورثتهم خذلان الحق
وأصحابه.كما ان دنيا عبيد الله بن العباس نقلته ومن معه من جيش الامام الحسن السبط
عليه السلام الى جيش معاوية.
2- الخوف من الموت:
قال الله تعالى عن مؤثرية خوف الموت وإيجابه التزلزل عند البعض:
﴿... يَقُولُونَ
هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ
يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا
مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ
لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ
وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ
وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾.[10]
فالبعض تعبث بمخيلته وعبرها بعواطفه فكرة منشؤها حب البقاء الزائف والخوف من الموت
وتضغط على أعصابه وعلى قواه العقلية فتسلبه الحكمة وتعمي بصيرته عن رؤية الحق بل عن
العمل وفق مقتضى الحق الذي يؤمن به, فالموت والحياة بيد الله والحرص على الحياة
بالهروب من مواجهة الباطل في ساحات الشرف إلى ما يظنه الإنسان مأمناً من الموت محض
خيال ووهم لأن للموت أسباباً كثيرة غير ما يتعرض له المجاهدون في ساحات الوغي. ولعل
مضمون الرواية يوضح ذلك إذ تقول: "رب فار من أجله عثر به".
وكذلك الحكمة المروية شعراً:
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد
وإذا راجعنا التاريخ سنجد أن كثراً ممن خذلوا الحق ولم ينصروه خوفاً من الموت ومن
الذين نصروا الباطل وتحزبوا له لم يلبثوا بعد ذلك إلا قليلاً ولنا في نماذج جند
وقادة جيش ابن زياد أمثلة كثيرة.حيث كانت منايا اكثرهم بعد فترة وجيزةعلى يد الثوار
الذين حملوا شعار الثأر للامام الحسين عليه السلام وأبرز هؤلاء المختار الثقفي.
3- التهيب من الأخطار:
إن تهيب اقتحام الأخطار التي تحتمل من المواجهة والدعوة إلى الحق والعدل قد
تؤدي إلى التردد وضعف الإرادة من جهة وسرعة السقوط والتسليم بالواقع المنحرف وضمور
الطموح والتوجه نحو التغيير وكذلك تؤدي إلى المساومة على المبادئ والحقوق واستعجال
النتائج والقبول بأدناها. فخوف الإنسان من مخاطر المواجهة وشعوره بالوحدة والغربة
والوحشة تضرب الثقة بالقدرة على النجاح وتحقيق الإنتصارات، وكثيراً ما ينعكس ذلك
تثبيطاً للعزائم وضعفاً في المعنويات وشللاً في ميادين العمل والجهاد، ولا أقل من
إيجاب ذلك كله فقدان الفعالية، بل قعود العاملين والمجاهدين عن مواصلة عملهم
وجهادهم. وقد يؤدي كل ذلك إلى استعجال النتائج ولو أدى ذلك إلى التنازل عن القيم
والمبادئ، والمساومة وعدم الثبات عليها.
ولذا حذر المولى تعالى من ذلك مخاطباً الأمة عبر نبيه(صلى الله عليه وآله):
﴿وَإِن
كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا
غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ
كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيل﴾[11].
ولا يقل خطر النجاح الموجب لقبول المساومة عن خطر تهيب تحمل المشاق مكابدة الأخطار.
خاتمة: الضامن للثبات الطاعة للولي الشرعي:
إن من أصعب الأمور وأشدها وأكثرها دقة في ميادين العمل والجهاد، هو المحافظة
على المبادئ والقيم والأهداف النبيلة والمحافظة على كون السير إليها لتحقيقها على
وفق الشرع الحنيف وعدم التزلزل والإنحراف عن المبادئ والقيم والأهداف العظمى
والمقدسة وعدم الإعوجاج في السلوك والسير والعمل لتحقيقها.
فالإستقامة التي هي الثبات بعينه تعني الموازنة بين الانضباط الشرعي والمحافظة على
الروح العملية والفعالية أي كون الأعمال مثمرة ومنتجة في الجوانب الإيجابية.مع عدم
غياب الاهداف العظمى عن نظر العاملين وآمال المجاهدين
ولا شك أن الضامن الأكيد والوحيد في التاريخ وما بنت عليه الآيات والسور الحاثة على
الثبات هو الإنقياد للقيادة الشرعية التي تتمثل بالأنبياء(عليهم السلام) والأولياء
بمعنى آخر بالأولياء الشرعيين المتمثلة في زماننا بالولي الفقيه مهما كانت التكاليف
والمعاناة لأن ذلك ضمان الهداية والتسديد الإلهي. قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ
جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ
الْمُحْسِنِينَ﴾.[12]
[1] سورة هود،
الآية:112.
[2] سورة هود، الآية:120.
[3] تفسير الميزان- السيد الطباطبائي- ج11، ص:50.
[4] سورة الشورى: الآية:15.
[5] سورة هود، الآية:12.
[6] الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل- الشيخ ناصر مكارم الشيرازي-ج6، ص:456.
[7] الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل- الشيخ ناصر مكارم الشيرازي-ج7، ص:80.
[8] راجع الأمثل(الشيرازي)ج7، ص:80. [8]
[9] بحار الأنوار، العلامة المجلسي-ج44، ص383.
[10] سورة آل عمران، الآية:154.
[11] سورة الإسراء، الآيات:73-74
[12] سورة العنكبوت،الآية:69.