تصدير:
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "إِنَّ
لِرَبِّكُم في أيَّامِ دَهْرِكُم لَنَفَحَاتٍ، أَلاَ فَتَعَرَّضُوا لَهَا، ولا
تُعْرِضُوا عَنها"[1].
الأهداف:
بيان خصوصيات الأيام وتجليات ذلك فيها وخصوصاً عبر النفحات الرحمانية
وبيان كيفية التعرض للنفحات وخصوصاً شهر رجب.
المحاور:
1- مقدمة أم خصوصيات
2- سر الخصوصيات وتجلياتها:
3- حتى لا نكون معرضين
4- خاتمة: اغتنم نفحات رجب
مقدمة: للأيام خصوصيات:
إن إختلاف الناس من حيث كونهم جماعات أو أفراداً يجعل فيهم الكثير من
الإختلافات من حيث الثقافة والعادات والقيم والسلوك وغير ذلك، فربما يرتفع تقدير
أمر ما أو صفة ما أو خلق ما عند أفراد أو شعوب باختلاف الشعوب من حيث ما ذكرنا أو
من جهة ما لهذه الأمور من آثار في الحياة على الفرد أو على الجماعة، والثابت المؤكد
أن لدى كل شعب وأمة كما أنه لدى الأفراد خصوصيات لأيام معينة، ولذا فإن لها مراسم
خاصة في ذكريات مناسباتها كأيام الإنتصارات العظيمة وأيام الإستقلال مثلا و هذه
الإحتفالات والمراسم تكرسها وتحفظها في ذاكرة الفرد والجماعة لأمور تربوية وثقافية
وهذا ما يراد جعله ممتداً في الأجيال القادمة، وقد ذكر القرآن لنا أنه تعالى أمر
نبياً من أنبيائه هو موسى(عليه السلام) بالتذكير بأيام مخصوصة فقال جل من قائل:
{..وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ..}[2]
وذكر تعالى كذلك في القرآن كيف – جعل- النبي عيسى(عليه السلام) يوم إنزال المائدة
السماوية يوم عيدٍ لتتذكر ذلك الأجيال وتستفيد من معاني الحادثة المعجزة في النواحي
الإيمانية والعقائدية فقال تعالى: {قَالَ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ
لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ}[3].
ولم يشذ الإسلام عن تلك السنة الإلهية المتمظهرة بشرياً فجعل مواسم وجعل للمواسم
مراسم ولنتدبر ذلك في جعل شهر نزول القرآن شهراً للصيام.
سر الخصوصيات وتجلياتها:
إن الله تعالى عندما أراد أن يبين السبب العام للخلق قال :{وَمَا
خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[4]
وبعطف هذه الآية على قوله تعالى :{هُوَ الَّذِي بَعَثَ
فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ
مُّبِينٍ}[5].
وكذلك قوله تعالى:{قد أفلح من زكاها*وَقَدْ خَابَ مَن
دَسَّاهَا}[6] يتبين أن الهدف من خلق الإنسان هو تزكية نفسه وتربيتها
وتنميتها ولا يكون ذلك إلا بتهذيبها لتسير وفق المنهج المرسوم لها، وذلك بإتباع
شرعه والإقتداء برسله وأوليائه، ولذا فإن من مهام النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)
الأساسية العمل على تربية النفوس لتترقى في مدارج الكمال، فكان من تجليات ذلك أن
جعل الله لبعض الأيام ذات الخصوصيات مراسم وذكريات تؤدي إلى تنمية الوعي والثقافية
وتساهم في التربية النفسية والروحية وتساهم في تكامل الأفراد والجماعات، فكان في
الإسلام خصوصيات لأيام وأزمنة وأمكنة.
فمن الأزمنة كان يوم المبعث في السابع والعشرين من شهر رجب الأصب وكان الخامس عشر
من شهر شعبان يوم ولادة مخلص البشرية ومهدي هذه الأمة. وكان شهر رمضان شهر نزول
القرآن وكان في خصوصية الشهر خصوصية ليلة فيه هي ليلة القدر، وكانت خصوصية أشهر
النور الثلاثة رجب وشعبان وشهر رمضان وكان للأيام البيض فيها خصوصية، كما أنه على
طول العام هناك خصوصية لليلة الجمعة ويومها.
ولما كان للأيام تلك المنزلة وذلك المقام فإن هذه الخصوصية للأزمنة تتجلى من خلال
مباركتها وبيان بركتها والمقصود أن يرشد إليها ويجعل هذه الأيام أيام سعد للإنسان
فرداً وجماعةً فالله بارك يوم الجمعة بمضاعفة الثواب على العمل في ليلتها ويومها
وبارك شهر رمضان بمضاعفة الثواب وقبول العمل وغفران الذنوب كما جاء في خطبة النبي
محمد (صلى الله عليه وآله): "... وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي،
وساعاته أفضل الساعات".[7] " وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب... الخ".[8]
وكذلك في باقي أشهر النور رجب وشعبان، وهذه البركات والعطايا والمواهب والمنح
الإلهية سمتها الروايات بالنفحات الإلهية كما جاء عن رسول الله (صلى الله عليه
وآله): "إِنَّ لِرَبِّكُم في أيَّامِ دَهْرِكُم
لَنَفَحَاتٍ، أَلاَ فَتَعَرَّضُوا لَهَا، ولا تُعْرِضُوا عَنها"[9] وفي
رواية: "إن لله في أيام دهركم نفحات ألا فترصدوا لها".[10]
إذن ليتكامل الناس يحتاجون إلى يد العناية واللطف الربوبية فاهتداء الإنسان وتكامله
موقوف على التفضل الإلهي الذي عنه قال تعالى:
{...وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ
أَحَدٍ أَبَدًا}.[11]
التزكية تحتاج إلى التعرض للنفحات:
فإذا كان الله بلطفه ورحمته يتكرم على عباده بزيادة مَدَد منه، على عقل
الإنسان، وقلب الإنسان وروح الإنسان ومشاعر الإنسان، فيعقل – ما لم يكن يعقله،
ويعلم ما كان يجهله ويبصر ما كان عنه عمياً ويشعر ويحس ويذكر ما كان عنه غافلاً
–ذلك أن النفحة التي هي لطف تدبيري من مقام ربوبية الله تعالى تنزل مطر رحمة على
العباد لمعونتهم على أنفسهم في مجاهدتها لينتصروا على شياطينهم ليقهروهم في الحرب
معهم، النفحات معونة إلهية تتيح للإنسان التزود بما ينفعه من الزاد إلى يوم لقاء
الله تعالى والتحلي بالصفات والأخلاق التي تدنيه من الله وتقربه من دار محبته
تعالى، وتصبّره على مكابدة مشاق الرحلة إلى الله الموصوفة منه تعالى:
{يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ
كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ}.[12]
النفحة يد العناية والعون الإلهي تمتد لإنتشالنا من وحول المعصية لنغسل ذنوبنا بماء
الغفران، ويد الرب الحنونة التي تنتشلنا من غيابات جب الغفلة إلى رحاب أنوار ذكره
تعالى وطاعته وعبادته.
حتى لا نكون معرضين (عن النفحات):
لكن لئن كانت النفحات العامة مطراً فإن شرط الإفادة من المطر هو قدرة
العبد وعمله على الإفادة منه وعدم الإعراض عنه ويكون عدم الإعراض بما يلي:
فأولاً: علينا الإهتمام بمواسم العبادة وتعظيمها وشكر المولى عليها
بالإلتزام بمراسمها من طاعات وعبادات وإحياء مناسبات.
ثانياً: ترصدها وترقبها: بمعنى الإلتفات إلهيا من حيث معرفة أزمنتها وذلك
بالإستهلال وسؤال أهل المعرفة عن الأوقات الشريفة.
ثالثاً: انعكاس الإقبال على النفحات عملياً بالعبادة والخشوع والبكاء
والدعاء وكذلك من خلال التورع عن ما حرم الله والإبتعاد عما يسخطه خشية الحرمان.
رابعاً: الإعداد لهذه الأيام من خلال تفريغ الوقت والجهد للتعبد بها
والإلتزام ببرامجها العبادية والتعاون على الإحياء بشكل جماعي وارتياد المساجد
خصوصياً حيث تقام تلك الإحياءات. وأهم من تفريغ الوقت تفريغ القلب وجعل مصب
الاهتمام كيفية الإفادة من النفحات الرحمانية.
خامساً: عدم التفريط بهذه العطايا والتمسك بما تم تحصيله من هذه المنح
الإلهية المقبلة إلينا على شكل نسائم تهب من معدن الرحمة لتصل إلينا وعلينا أن
نستتم هذه الإستفادة بالظهور بمظهر اللائقين بها وقد علَّمنا أئمتنا أن يدعو من
يوفق منا لصلاة الليل بعد ركعتي الشفع بالقول: "إِلهِي
تَعَرَّضَ لَكَ فِي هذا اللَّيْلِ المُتَعَرِّضُونَ وَقَصَدَكَ القاصِدُونَ
وَأَمَّلَ فَضْلَكَ وَمَعْرُوفَكَ الطَّالِبُونَ وَلَكَ فِي هذا اللَّيْلِ نَفَحاتٌ
وَجَوائِزُ وَعَطايا وَمَواهِبُ تَمُنُّ بِها عَلى مَنْ تَشأُ مِنْ عِبادِكَ
وَتَمْنَعُها مَنْ لَمْ تَسْبِقْ لَهُ العِنايَةُ مِنْكَ ، وَها أَنا ذا عُبَيْدُكَ
الفَقِيرُ إِلَيْكَ المُؤَمِّلُ فَضْلَكَ وَمَعْرُوفَكَ ، فَإِنْ كُنْتَ يا مَوْلاي
تَفَضَّلْتَ فِي هذِهِ الليلة عَلى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ وَعُدْتَ عَلَيْهِ
بِعائِدَةٍ مِنْ عَطْفِكَ فَصَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ واَّلِ مُحَمَّدٍ الطَيِّبِينَ
الطَّاهِرِينَ الخَيِّرِينَ الفاضِلِينَ ، وَجُدْ عَلَيَّ بِطَوْلِكَ وَمَعْرُوفِكَ
يا رَبَّ العالَمينَ..."[13]
نعم أظهر الإشتياق للنفحات الإلهية وشد حيازيم الجد واغتنم هذه الفرص كي لا تكون
غصصاً.
خاتمة: اغتنم نفحات رجب:
لا شك أن شهر رجب المرجب من الأيام المخصوصة والتي فيها النفحات الإلهية
والمواهب الرحمانية فقد ورد فيه عن النبي (صلى الله عليه وآله): "إن رجب شهر الله
العظيم لا يقاربه شهر من الشهور حرمة وفضلاً،.. ألا إن رجب شهر الله، وشعبان شهري،
ورمضان شهر أمتي. ألا فمن صام من رجب يوماً استوجب رضوان الله الأكبر، وابتعد عنه
غضب الله، وأغلق عنه باب من أبواب النار".[14]
وفي رواية عن الرسول (صلى الله عليه وآله) فيه: "رجب شهر الاستغفار لأمتي أكثروا
فيه الاستغفار ، فإنه غفور رحيم ، وشعبان شهري . استكثروا في رجب من قول أستغفر
الله ، وسلوا الله الإقالة والتوبة فيما مضى والعصمة فيما بقي من آجالكم ، وسمي شهر
رجب شهر الله الأصب لأن الرحمة على أمتي تصب صبا فيه.،...".[15]
وقد ورد الكثير من الأعمال في رجب من التزمها لا شك أنه يكون من المتعرضين لنفحات
الله فيه ومن غير المعرضين عن نفحات شهر رجب وقد علمنا أئمتنا تعقيباً يستدر عطف
المولى ليجعلنا من المتعرضين المستفيدين من نفحات شهر رجب وهو : "روِيَ عَنْ
مُحَمَّدٍ السَّجَّادِ [16] ـ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ ـ أنهُ قَالَ : قُلْتُ لِأَبِي
عَبْدِ اللَّهِ [17] (عليه السَّلام) : جُعِلْتُ فِدَاكَ ، هَذَا رَجَبٌ،
عَلِّمْنِي فِيهِ دُعَاءً يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهِ .
قَالَ : فَقَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السَّلام ) :
"اكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، وَقُلْ
فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ صَبَاحاً وَمَسَاءً، وَفِي أَعْقَابِ صَلَوَاتِكَ فِي
يَوْمِكَ وَلَيْلَتِكَ: "يَا مَنْ أَرْجُوهُ لِكُلِّ خَيْرٍ، وَآمَنُ سَخَطَهُ
عِنْدَ كُلِّ شَرٍّ، يَا مَنْ يُعْطِي الْكَثِيرَ بِالْقَلِيلِ، يَا مَنْ يُعْطِي
مَنْ سَأَلَهُ، يَا مَنْ يُعْطِي مَنْ لَمْ يَسْأَلْهُ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ
تُحَنُّناً مِنْهُ وَرَحْمَةً، أَعْطِنِي بِمَسْأَلَتِي إِيَّاكَ جَمِيعَ خَيْرِ
الدُّنْيَا، وَجَمِيعَ خَيْرِ الْآخِرَةِ، وَاصْرِفْ عَنِّي بِمَسْأَلَتِي إِيَّاكَ
جَمِيعَ شَرِّ الدُّنْيَا وَشَرِّ الْآخِرَةِ ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَنْقُوصٍ مَا
أَعْطَيْتَ ، وَزِدْنِي مِنْ فَضْلِكَ يَا كَرِيمُ " .
قَالَ: ثُمَّ مَدَّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السَّلام ) يَدَهُ الْيُسْرَى
فَقَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ، وَدَعَا بِهَذَا الدُّعَاءِ، وَهُوَ يَلُوذُ
بِسَبَّابَتِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ :
"يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، يَا ذَا النَّعْمَاءِ وَالْجُودِ، يَا ذَا
الْمَنِّ وَالطَّوْلِ، حَرِّمْ شَيْبَتِي عَلَى النَّارِ" [18].
[1] المراقبات(أعمال
السنة)- ميرزا جواد آغا الملكي التبريزي، ص:4.
[2] سورة إبراهيم، الآية:5.
[3] سورة المائدة، الآية:114.
[4] سورة الذاريات، الآية:56.
[5] سورة الجمعة، الآية:2.
[6] سورة الشمس، الآيتان:9-10.
[7] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 10، ص 313.
[8] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 10، ص 313.
[9] المراقبات(أعمال السنة)- ميرزا جواد آغا الملكي التبريزي، ص:4.
[10] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج74،
ص166.
[11] سورة النور، الآية:21.
[12] سورة الإنشقاق، الآية:6.
[13] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج84، ص266.
[14] مفاتيح الجنان، الشيخ عباس القمي.
[15] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج94، ص:39.
[16] هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ ذَكْوَانَ ، يُعْرَفُ بِالسَّجَّادِ ، قَالُوا سَجَدَ وَ
بَكَى فِي سُجُودِهِ حَتَّى عَمِيَ ، انظر : بحار الأنوار : 95 / 390 .
[17] أي الإمام جعفر بن محمد الصَّادق ( عليه السَّلام ) ، سادس أئمة أهل البيت (
عليهم السلام ) .
[18] بحار الأنوار ( الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار ( عليهم السلام ) ) : 95 /
390 ، للعلامة الشيخ محمد باقر المجلسي ، المولود بإصفهان سنة : 1037 ، و المتوفى
بها سنة : 1110 هجرية ، طبعة مؤسسة الوفاء ، بيروت / لبنان ، سنة : 1414 هجرية