الهدف: التعرّف على جوانب من الحياة العلميّة والعباديّة والسياسيّة للإمام الصّادق(ع).
المحاور:
1- السّيرة العطِرة للإمام الصّادق(ع).
2- الظّروف المحيطة بعصر الإمام الصّادق(ع).
3- جانب من الشخصيّة العلميّة للإمام(ع).
4- قبسٌ من عبادته ومكارم أخلاقه.
5- التّربية على مواجهة الظّالمين.
تصدير الموضوع: كتب المنصور إلى الإمام (عليه
السّلام) في إحدى المرَّات: لِم لا تغشانا كما يغشانا النّاس؟ فأجابه (عليه
السّلام): (لَيسَ لنا ما نخافك من أجله، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له، ولا
أنت في نعمة فَنُهنِّيك، ولا تَراها نقمة فَنُعزِّيك، فما نصنع عندك).
فكتب المنصور إليه (عليه
السّلام): تصحَبُنا لتنصَحَنا. فأجابه (ع): (مَنْ أرادَ الدُّنيا لا ينصحُك، ومَنْ
أرادَ الآخِرَة لا يَصحبُك) فقال المنصور: والله لقد مَيَّز عندي منازل من يريد
الدنيا مِمَّن يريد الآخرة، وإنّه ممَّن يريد الآخرة لا الدّنيا[1].
1- السّيرة العطرة للإمام الصّادق(ع)
ولِد الإمام جعفر بن محمّد الصّادق(عليه السّلام) يوم الاثنين في
السّابع عشر من شهر ربيع الأوّل في المدينة المنوّرة سنة 83هـ. كانت ولادته
المباركة في اليوم الذي ولد فيه رسول الله (ص)، وهو يوم عظيم البركة. أبوه الإمام
محمّد بن علي الباقر(ع) وأمّه الجليلة المكرّمة فاطمة، المكنّاة بأمّ فروة بنت
القاسم بن محمّد بن أبي بكر، التي رُوِي في حقّها عن الإمام الصّادق(ع) أنّه قال:
"كانت أمّي ممّن آمنت واتّقت وأحسنت، والله يُحبّ المحسنين"[2]. وكان يُقال للإمام
الصّادق(ع) ابن المكرّمة[3]. وبعد شهادة أبيه الإمام الباقر(ع) تسلّم الإمام
الإمامة بوصيّة من والده، واستمرّت إمامته 34 سنة تقريباً من سنة 114هـ حتّى شهادته
في سنة 148هـ.
لُقّب الإمام(ع) بعدّة ألقاب: الصّابر، الفاضل، الطّاهر، الصّادق، وهذا الأخير هو
أشهر ألقابه.
وأمّا كنيته فأبو عبد الله، وأبو إسماعيل، وأبو عبد الله أشهرهما.
وُلِد للإمام الصّادق(ع) عشرة أولاد من الذّكور والإناث، وهم: الإمام موسى
الكاظم(ع) أمّه أم ولد، وإسماعيل وعبد الله وأم فروة، أمّهم فاطمة بنت الحسين بن
علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(ع)، وإسحاق ومحمّد، والعبّاس وعلي وأسماء وفاطمة
أمّهم أم ولد[4].
وقبل شهادته المباركة أوصى ابنه الإمام موسى(ع) بالإمامة من بعده[5]. وكانت شهادته
في شهر شوّال سنة 148هـ مسمومًا على يد المنصور، وهو ابن خمسٍ وستّين سنة، ودُفن في
جوار آبائه الطّاهرين في البقيع في المدينة المنوّرة.
2- الظّروف المحيطة بعصر الإمام الصّادق(ع)
يُعَدّ عهد الإمام الصّادق (ع) عهد الانفراج الفكريّ لمدرسة أهل البيت
عليهم السّلام، طبعًا قياسًا بالعهود السّابقة الّتي مرّت بها الأمّة الإسلاميّة.
وأسباب هذا الانفراج كثيرة؛ أهمّها ضعف الحكم الأمويّ وانهياره سنة 132هـ، والبداية
الضّعيفة لدولة بني العبّاس، فكان من الطبيعيّ أن ينشغل الحكّام عن رموز أهل البيت
عليهم السّلام. لذلك كان الإمام (عليه السّلام) بعيدًا عن المواجهة السياسيّة
العلنيّة. لذا سُمّي هذا العصر بعصر انتشار علوم آل محمّد (صلّى الله عليه وآله
وسلم)، ممّا انعكس إيجابًا على الشّيعة، حيث كان فضلاء الشّيعة ورواتهم في تلك
السّنين، آمنين على أنفسهم مطمئنّين متجاهرين بولاء أهل البيت (ع)، معروفين بذلك
بين الناس، ولم يكن للأئمّة عليهم السّلام مُزاحِمٌ لنشر الأحكام، فكان يَحضُر
شيعتهم مجالسَهم العامّة والخاصّة للاستفادة من علومهم[6].
3.جانب من الشخصيّة العلميّة للإمام(ع)
أ. لقد بلغ الازدهار العلميّ والفكريّ غايته في عهد الإمام الصّادق
(عليه السّلام)، فازدهرت المدينة المنوّرة، وزخرت بطلّاب العلوم، ووفود الأقطار
الإسلاميّة، وانتظمت فيها حلقات الدّرس، وكان بيته (عليه السّلام)كجامعة إسلاميّة
يزدحم فيه رجال العلم، وحمَلَة الحديث من مختلف الطّبقات ينتهِلون من مَعين علمه.
ونقل النّاس عنه من العلوم، ما سارت به الرّكبان، وانتشر صيته في جميع البلدان[7].
ب. العلوم الجمّة: يذكر المؤرّخون من الموالين وغيرهم، أن قد نقل النّاس عن الإمام
الصّادق (ع) من العلوم، ما سارت به الرّكبان وانتشر صيته في جميع البلدان([8]).
وإلى هذا أشار الجاحظ - وهو شاهد من علماء القرن الثّالث: "جعفر بن محمّد الذي ملأ
الدّنيا علمُه وفقهُه"([9]). وقد عرّفه محمّد بن طلحة بقوله: هو من عظماء أهل
البيت(ع) وساداتهم، ذو علوم جمّة، وعبادة موفورة، وزهادة بيّنة..([10]) ولهذا فقد
أجمع علماء الإسلام، على اختلاف طوائفهم، على فضل الإمام الصّادق وعلمه([11]).
وقد كثُرت الكتابات حول شخصيّته العلميّة في الماضي والحاضر، وجُمعت في مؤلّفات
خاصّة([12])، وعُدَّ (عليه السّلام) من أكبر شخصيّات ذلك العصر في التّشريع
الشّيعي، وفي العصور المختلفة (في عصره وبعد عصره). قال الشّهرستاني واصفاً
الإمام(عليه السّلام) "وهو ذو علم غزير في الدّين وأدب كامل في الحكمة"([13]).
ووصفه أبو حنيفة بأنّه (عليه السّلام) أعلم الأمّة فقال: "ما رأيت أفقَهَ من جعفر
بن محمّد وإنّه أعلم الأمّة"([14]). ويروي أبو حنيفة بأنّ المنصور العباسي قال له:
بأنّ النّاس (ولَعوا بجعفر بن محمّد وهم يتوافدون عليه باستمرار، فاجمعْ له من
المسائل المستعصيّة، واسألْه عن جوابها، فإنْ هو عجز عن الإجابة عليها، سقط في أعين
النّاس، فجمعتُ له أربعين مسألة مما تصعُبُ الإجابة عليه" ثمّ التقى أبو حنيفة
الإمام الصّادق (عليه السّلام) بحضور المنصور..، فالتفت المنصور إلى أبي حنيفة
وقال: اعرض ما لديك من مسائل على أبي عبد الله، فألقيتُ عليه المسائل التي أعددتُها
الواحدة تلو الأخرى، وهو يجيب قائلًا: رأيكم في القضيّة الفلانيّة كذا، وأهل
المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا. وكان رأيه في قسم من المسائل يوافق رأينا، وفي
مسائل أخرى يوافق رأي أهل المدينة، وبعضها يختلف عن الجانبَين، حتّى أجاب عن أربعين
سؤالاً، وعند انتهاء الأسئلة قال أبو حنيفة مشيرًا إلى الإمام الصّادق(عليه
السّلام): إنّ أعلم النّاس أعلمُهم باختلاف النّاس([15]).
ج. آلاف الرّواة: بلغ رواة أبي عبد الله (عليه السّلام) أربعة آلاف أو ما يزيد،حيث
قال الشّيخ المفيد طاب ثراه في الإرشاد: فإنّ أصحاب الحديث، قد جمعوا أسماء الرّواة
عنه من الثّقات، على اختلافهم في الآراء والمقامات، فكانوا أربعة آلاف رجل([16]).
وذكر ابن شهرآشوب أنّ الجامع لهم ابن عقدة، وزاد غيره أنّ ابن عقدة ذكر لكلّ واحد
منهم رواية، وأشار إلى عددهم الطّبرسي في أعلام الورى، والمحقّق الحلّي في المعتبر،
وذكر أسماءهم الشّيخ الطّوسي في كتاب الرّجال.
4. قَبَس من عبادته ومكارم أخلاقه:
ممّا ورد في عفوه عن النّاس ما رُوِيَ أنّ رجلاً أتاه (ع) فقال: إنّ
فلاناً ابن عمّك، ذكرك فما ترك شيئاً من الوقيعة والشتيمة إلّا قاله فيك، فقال أبو
عبد الله(ع) للجارية: ايتيني بوضوء، فتوضّأ ودخل، فقلتُ في نفسي: يدعو عليه، فصلّى
ركعتين، فقال: "يا ربّ هو حقّي قد وهبته، وأنت أجود منّي وأكرم، فهَبْهُ لي ولا
تؤاخذه بي ولا تُقايسه"، ثمّ رقّ فلم يزلْ يدعو فجعلتُ أتعجّب[17].
وقد ورد في كثرة عبادته لله سبحانه وتعالى أنّه كان يُسبّح الله وهو راكع ستّين
تسبيحة، فقد روى أبّان بن تغلب قال: دخلتُ على أبي عبد الله(ع) وهو يُصلّي، فعددتُ
له في الرّكوع والسّجود ستّين تسبيحة[18].
ورُوي عن مالك بن أنس - فقيه أهل السنّة وإمامهم في ذلك العصر - أنّه قال: "وكان
جعفر بن محمّد لا يخلو من إحدى ثلاث خصال: إمّا صائمًا، وإمّا قائمًا، وإمّا
ذاكرًا، وكان من عظماء العبّاد، وأكابر الزهّاد الّذين يخشون الله عزّ وجلّ، وكان
كثير الحديث، طيّب المجالسة، كثير الفوائد، فإذا قال: "قال رسول الله" اخضرّ مرّة
واصفرّ أخرى حتّى يُنكره من يعرفه.
ولقد حججتُ معه سنةً، فلمّا استوت به راحلته عند الإحرام، كان كلّما همّ بالتّلبية
انقطع الصّوت في حلقه، وكاد يخرّ من راحلته، فقلتُ: قل يا بن رسول الله، فلا بدّ لك
من أن تقول، فقال الصّادق(ع): يا ابن أبي عامر، كيف أجسر أن أقول: لبّيك اللهم
لبّيك"، وأخشى أن يقول عزّ وجلّ لي: "لا لبّيك ولا سعدَيك"[19].
5.التّربية على مواجهة الظّالمين:
كان المنصور يراقب تحرّكات الإمام والشيعة في المدينة بدقّة، وكان له
جواسيس ينظرون من ثبُتَت شيعيّته فيضربون عنقه[20]، وكان الإمام الصّادق (عليه
السّلام) يمنع أصحابه من التّعاون والتّعامل مع الجهاز الحاكم.
وقد سأله أحد أصحابه يوماً: جُعِلت فداك -أصلحك الله- إنّه ربّما أصاب الرّجل منّا
الضّيق والشدّة، فيُدعى إلى بناء يبنيه أو نهر يَكريه أو المسناة يُصلحه، فما تقول
في ذلك؟
فقال (عليه السّلام): "ما أحبّ أن أعقد لهم عقدة أو وكيت لهم وكاء - يعني بني
العبّاس - وإنّ لي ما بين لابتيها ولا مدّة بقلم، إنّ أعوان الظّلمة يوم القيامة في
سرادق من نار حتّى يحكم الله بين العباد"[21].
وكان يحذّر الفقهاء والمحدّثين من الانتماء إلى الحكومة ويقول: "الفقهاء أُمناء
الرّسل، فإذا رأيتم الفقهاء قد ركبوا إلى السلاطين فاتّهموهم"[22].
وكتب أبو جعفر المنصور إلى الإمام يوماً: لولا تغشانا كما يغشانا سائر الناس.
فأجابه الإمام: "ما عندنا من الدّنيا ما نخافك عليه، ولا عندك من الآخرة ما نرجوك
له، ولا أنت في نعمة فنهنّيك عليها، ولا تعدّها نقمة فنعزّيك بها، فلم نغشاك؟!"،
فكتب المنصور: تصحَبُنا لتنصَحَنا، فأجابه الإمام: "من أراد الدّنيا فلا ينصحُك،
ومن أراد الآخرة فلا يصحبُك"[23].
ويذكر الإمام الخامنئي في سياق كلامه عن الإمام الصّادق(ع): لقد استطاع الإمام
الصّادق(ع) إعداد عدّةٍ مؤمنةٍ ومسلمة ومذهبيّة وأصيلة وثوريّة ومضحّية من الأصحاب،
ومستعدّة للمخاطرة في كلّ أنحاء العالم الإسلاميّ. ولم يكن هؤلاء أشخاصًا عاديّين،
لا أقصد من النّاحية الماديّة أو الإجتماعيّة، كلّا، فقد كان منهم التّاجر والكاسب
والغلام وأمثالها. ولكن من ناحية الرّكيزة المعنويّة، فهم لم يكونوا يشبهون الأشخاص
العاديّين بأيّ شكلٍ من الأشكال. فقد كانوا أشخاصًا تُختصر حياتهم في هدفهم وفي
مذهبهم، وكان من المدهش أنّ أتباع الإمام الصّادق (عليه السّلام) ،كانوا منتشرين في
كلّ مكان، فلا ينبغي التصوّر أنّهم كانوا يتواجدون في المدينة فحسب، بل كانوا
يتواجدون في الكوفة أكثر من المدينة، لا بل كان البعض منهم في الشّام نفسها. فهؤلاء
كانوا يُمثّلون الشّبكة العظيمة لتشكيلات الإمام الصّادق(ع)... ومن الأمور التي
أؤكّد وأصرّ عليها، أنّه كان هناك شبكة تنظيميّة عظيمة وحزبٌ كاملٌ يُدار من قِبَل
الإمام الصّادق(ع) في كلّ أرجاء العالم الإسلاميّ، وكانت هذه الشّبكة تتحمّل
مسؤوليّة الأنشطة الواسعة والمثمرة المتعلّقة بقضية الإمامة في الكثير من المناطق
النّائية لدولة المسلمين، وخصوصًا في نواحي العراق العربيّ وخراسان. ولهذا، فإنّ
موضوع التّشكيلات السرّية في ساحة الحياة السّياسيّة للإمام الصّادق (عليه السّلام)
وللأئمّة الآخرين أيضًا، هو من أهمّ فصول هذه الحياة والسّيرة الجيّاشة، وفي الوقت
نفسه من أكثرها غموضًا وإبهامًا[24].
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج47، ص 184.
[2] الشّيخ الكلينيّ، الكافي، ج1، ص393.
[3] العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج46، ص367.
[4] الشّيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص209، الشّيخ الطّبرسي، تاج المواليد، ص45.
[5] الكليني، الكافي، ج1، ص307.
[6] الطّهراني، آغابزرك، الذّريعة، ج2، ص 132.
[7] ابن حجر، الصّواعق المحرقة، ص 199.
[8]) نفس المصدر، ص 199.
([9]) الجاحظ، ص 106.
([10]) كشف الغمّة، ج2، ص368.
([11]) أبو زهرة، الإمام الصّادق(ع)، ص66.
([12]) الإمام الصّادق والمذاهب الأربعة، أسد حيدر.
([13]) الشّهرستاني، المِلَل والنِّحَل، ج1، ص147.
([14]) الإمام أبو حنيفة، ص70.
([15]) المزّي، تهذيب الكمال، ج5، ص79- 80.
[16] الشّيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص179.
[17] الشّيخ علي الطّبرسي، مشكاة الأنوار، ص380.
[18] الشّيخ الكليني، الكافي، ج1، ص329.
[19] الشّيخ الصّدوق، الخصال، ص167.
[20] الكشي، اختيار معرفة الرّجال، ص282.
[21] الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج12، ص129.
[22] الشّيخ أسد حيدر، الإمام الصّادق (عليه السّلام) والمذاهب الأربعة، ج3، ص21،
نقلاً عن حلية الأولياء.
[23] العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج47، ص184.
[24] السيّد علي الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، ص301.