مطلع الخِطبة:
نتناول في هذه الخطبة مناسبتين هامتين:
الأولى: شهادة الإمام الهادي(ع)
الثانية: تكريم الأُم في الإسلام.
قيل للإمام زين العابدين عليه السلام: أنت أبرّ الناس، ولا نراك تُواكل أمّك، قال:
"أخاف أن أمدّ يدي إلى شيء، وقد سبقت عينها عليه، فأكون قد عققتها"[1].
ولادة الإمام الهادي(ع)
والده الإمام محمد الجواد عليه السلام تاسع أئمّة الشيعة، وأمّه أمّ ولد
يقال لها سمانة أو سوسن.
يُلقّب عليه السلام وابنه الحسن بـالعسكريّين، وإنّما لقّبا بذلك لفرض السلطة
العباسية الإقامة الجبرية عليهما في سامراء التي كانت يومها معسكراً للجُند. ومن
ألقابه عليه السلام التي تعبّر عن محياه الكريم وسيرته الزكيّة؛ النّجيب والمرتضى
والهادي والنقي والعالم والفقيه والأمين والمؤتمن والطيب والمتوكل يُكنّى بأبي
الحسن الثالث، وأبي الحسن الأخير تمييزاً له عن الإمام الكاظم عليه السلام المكنّى
بأبي الحسن الأوّل وعن الإمام الرضا عليه السلام المكنّى بأبي الحسن الثاني.
شهادة الإمام (عليه السلام)
قضى عليه السلام مسموماً بـسرّ من رأى في يوم الاثنين المصادف الثالث من
رجب سنة 254 ه، وقيل يوم الاثنين الخامس والعشرون من جمادى الآخرة سنة 254 هـ.
والتأريخ الأول أشهر، حيث نصّ عليه أغلب أعلام الطائفة ومحدّثيهم ومؤرّخيهم. وممّن
نصّ على أنّه عليه السلام مات مسموماً أو نقل القول في ذلك الشبلنجي وابن الصباغ
المالكي والشيخ أبو جعفر الطبري، والشيخ إبراهيم الكفعمي في المصباح وغيرهم، ونصّ
الأخير على أنّ الذي سمه هو المعتزّ. وجاء عن ابن بابويه أنّه عليه السلام مات
مسموماً، وسمّه المعتمد العباسي، وإذا صحّ ذلك فإنّه لا بدّ أن يكون قد سمّه المعتز
بالله؛ لأنّه مات في عهده سنة 254 ه، والمعتمد العباسي بويع بالخلافة سنة 256 هـ
في النصف من رجب، أو أنّ المعتز قد أوعز إلى المعتمد بدسّ السم إلى الإمام عليه
السلام، فيكون ذلك جمعاً بين قول الشيخ الصدوق والشيخ الكفعمي، والله أعلم بحقيقة
الحال.
وخرجت الجنازة، وخرج الإمام الحسن العسكري عليه السلام يمشي حتى أخرج بها إلى
الشارع الذي إزاء دار موسى بن بغا. وقد كان الإمام أبو محمد العسكري عليه السلام قد
صلّى عليه قبل أن يخرج إلى الناس، ودفن في بيتٍ من دوره.
قبسٌ من أخلاقه وسلوكه (ع)
عن أبي هاشم الجعفري قال: أصابتني ضيقة شديدة فصرت إلى أبي الحسن عليّ
بن محمد عليه السّلام فأذن لي فلمّا جلست قال:يا أبا هاشم أيّ نعم الله عزّ وجلّ
عليك تريد أن تؤدّي شكرها ؟ قال أبو هاشم: فوجمت فلم أدرِ ما أقول له. فابتدأ عليه
السّلام فقال: رزقكَ الإيمان فحرّم به بدنك على النّار، ورزقكَ العافية فأعانتك على
الطاعة، ورزقكَ القنوع فصانك عن التبذّل، يا أبا هاشم إنّما ابتدأتك بهذا لأنّي
ظننت أنّك تريد أن تشكو إليّ من فعل بك هذا، وقد أمرت لك بمائة دينار فخذها[2].
1- الزُّهد:
لقد عزف الإمام الهادي(عليه السلام) عن جميع مباهج الحياة ومُتعِها وعاش
عيشة زاهدة إلى أقصى حدّ، لقد واظب على العبادة والورع والزهد، فلم يحفل بأيّ مظهر
من مظاهر الحياة، وآثر طاعة الله على كلّ شيء، وقد كان منزله في يثرب وسرّ من رأى
خالياً من كلّ أثاث، فقد داهمت منزله شرطة المتوكل ففتّشوه تفتيشاً دقيقاً فلم
يجدوا فيه شيئاً من رغائب الحياة، وكذلك لما فتّشت الشرطة داره في سرّ من رأى، فقد
وجدوا الإمام في بيت مغلق، وعليه مدرّعة من شعر وهو جالس على الرّمل والحصى، ليس
بينه وبين الأرض فراش[3].
2- العمل في المزرعة:
تجرّد الإمام العظيم من الأنانيّة، حتى ذكروا إنّه كان يعمل بيده في أرض
له لإعاشة عياله، فقد روى عليّ بن حمزة حيث قال: «رأيت أبا الحسن الثالث يعمل في
أرض وقد استنقعت قدماه من العرق فقلت له: جُعِلتُ فداك أين الرّجال ؟
فقال الإمام: يا علي؛ قد عمل بالمسحاة من هو خير منّي ومن أبي في أرضه.
قلت: من هو ؟
قال: رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين وآبائي كلّهم عملوا بأيديهم،
وهو من عمل النبيّين والمرسلين والأوصياء الصالحين»[4].
حقّ أمّك
قال رجل لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: "إنّ والدتي بلغها
الكِبَر، وهي عندي الآن، أحملها على ظهري، وأُطعمها من كسبي، وأُميط عنها الأذى
بيدي، وأصرف عنها مع ذلك وجهي استحياءً منها وإعظامًا لها، فهل كافأتها؟ قال صلّى
الله عليه وآله وسلم: "لا، لأنّ بطنها كان لك وعاءً، وثديها كان لك سقاءً، وقدمها
لك حذاءً، ويدها لك وقاءً، وحجرها لك حواءً، وكانت تصنع ذلك لك وهي تمنّى حياتك،
وأنت تصنع هذا بها وتحبُّ مماتها[5].
في رسالة الحقوق للإمام السجّاد عليه السلام أنّه قال: "وأمّا حقُّ أمّك، فأن تعلم
أنّها حملتك حيثُ لا يحتمل أحد أحدًا، وأعطتكَ من ثمرة قلبها ما لا يُعطي أحدٌ
أحدًا، ووقتك بجميع جوارحها، ولن تبالِ أن تجوع وتطعمك، وتعطشَ وتسقيك وتعرى وتكسوك،
وتظلّك وتضحى، وتهجر النّوم لأجلك، ووقَتْكَ الحرَّ والبردَ لتكون لها، وأنّك لا
تطيق شكرها إلّا بعون الله وتوفيقه[6].
أُنسها بك ليلة
أتى رجلٌ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال: إنّي رجل شابّ نشيط،
وأحبّ الجهاد، ولي والدة تكره ذلك. فقال له صلّى الله عليه وآله وسلم: "ارجع فكُن
مع والدتك، فوالّذي بعثني بالحقّ! لأُنسها بك ليلة خيرٌ من جهاد في سبيل الله سنة"[7].
ابرر أمّك ثمّ أباك
وعن أبي عبد الله عليه السلام: قال: "جاء رجل وسأل النبيّ صلّى الله
عليه وآله وسلم عن برّ الوالدين. فقال: أبرِر أمّك، أبرِر أمّك أبرِر أمّك. أبرِر
أباك أبرِر أباك، وبدأ بالأمّ قبل الأب"[8].
وعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم،
فقال: يا رسول الله، مَن أبر؟ قال: أمّك. قال: ثمّ مَن؟ قال: أمّك. قال: ثمّ مَن؟
قال: أمّك. قال: ثمّ مَن؟ قال: أباك"[9].
الجنّة تحت قدمها
جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم طالبًا الجهاد بين
يديه، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: "ألَكَ والدة؟" قال: نعم! قال صلّى الله
عليه وآله وسلّم: "فالزمها، فإنّ الجنّة تحت قدمها"[10].
وعنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: "الجنّة تحت أقدام الأمّهات"[11].
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً
عن أبي ولاد الحناط قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزّ
وجلّ: "
﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَان﴾ ما هذا الإحسان؟ فقال: الإحسان أن تُحسن
صحبتهما وأن لا تكلّفهما أن يسألاك شيئًا ممّا يحتاجان إليه وإن كانا مستغنيين أليس
يقول الله عزّ وجلّ:
﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾
قال: ثمّ قال أبو عبد الله عليه السلام وأمّا قول الله عزّ وجلّ:
﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ
عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ
تَنْهَرْهُمَ﴾ قال عليه السلام: إن أضجراك فلا تقل لهما: أفّ، ولا تنهرهما إن
ضرباك، قال:
﴿وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمً﴾ قال: إن ضرباك فقل لهما: غفر الله
لكما، فذلك منك قول كريم، قال
﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾
قال: لا تملأ عينيك من النّظر إليهما إلّا برحمة ورقّة ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما
ولا يدك فوق أيديهما ولا تقدّم قدّامهما"[12].
برّهما حيّين، وميتين
عن محمّد بن مروان قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: "ما يمنع الرجل
منكم أن يبرّ والديه حيّين وميّتين، يصلّي عنهما، ويتصدّق عنهما، ويحجّ عنهما،
ويصوم عنهما، فيكون الّذي صنعَ لهما، وله مثل ذلك. فيزيده الله عزّ وجلّ ببرّه
وصِلته خيرًا كثيرًا"[13].
عن أبي جعفر عليه السلام قال: "إنّ العبد ليكون برًّا بوالديه في حياتهما، ثمّ
يموتان فلا يقضي عنهما ديونهما، ولا يستغفر لهما فيكتبه الله عاقًّا، وإنّه ليكون
عاقًّا لهما في حياتهما، غير بارٍّ بهما فإذا ماتا قضى دينهما، واستغفر لهما فيكتبه
الله عزّ وجلّ بارّا"[14].
[1] الميرزا النوري،
مستدرك الوسائل، ج 15، ص 182.
[2] الصدوق، الأمالي، ص ٤۱۲، ح ۱۱: حدثنا الحسين بن أحمد بن إدريس قال: حدثنا أبي
عن محمد بن أحمد العلوي، قال حدثني أحمد بن القاسم.
[3] الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص 499، وعنه في الإرشاد، ج2، ص 302 - 303، وعن
الكليني في إعلام الورى، ج 2، ص 119. والفصول المهمة، ص 377.
[4] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج 3، ص 162.
[5] الميرزا النوري، المستدرك، ص 180.
[6] الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 453 – 454.
[7] المصدر نفسه، ج22، ص163.
[8] المصدر نفسه، ج 2، ص 162.
[9] المصدر نفسه، ص 159 - 160.
[10] جامع السعادات، محمّد مهدي النراقي، ج 2، ص 205.
[11] مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج 15، ص 180.
[12] الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 157، 158.
[13] المصدر نفسه، ج 2، ص 159.
[14] المصدر نفسه، ص 163.