محاور الخطبة
- نشأة الإمام وشخصيتّه (ع).
- الحركة العلميّة للإمام العسكريّ (ع).
- الظروف التي عايشها الإمام العسكريّ (ع).
- كيف مهّد الإمام العسكريّ (ع) لغيبة القائم (عج)؟
مطلع الخطبة
"اقتلونا، فإنّ القتلَ لنا عادةٌ، وكرامتَنا من اللهِ الشهادةُ!"
أيّها الأحبّة،
نُعزّي صاحب العصر والزمان والأمّة الإسلاميّة جمعاء، بشهادة الإمام الحادي عشر،
الإمام الحسن بن عليٍّ العسكريّ (ع).
وفي هذه المناسبة، لا بدّ من ذكر طرفٍ من حياته وسيرته والظروف السياسيّة التي
عايشها (ع)، لنقول:
بعد أن أدّى الإمام ما عليه من مسؤوليّةٍ تجاه دين الله -تعالى- وأمّة جدّه المصطفى
(ص) ووُلدِه الأطهار (ع)، وبعد أن بانت عليه أمارات الموت والمنيّة، نعى نفسَه
بأنّه سيلتحق بالرفيق الأعلى، بعد أن اعتَلَّ؛ إثر سمٍّ دُسَّ إليه من الحاكم
العبّاسيّ، والتحق بركب آبائه الشهداء، في الثامن من ربيع الأوّل من عام 260 للهجرة
النبويّة الشريفة.
ولا بدّ، عند الحديث عن هذا الإمام العظيم، أن نعرّج، ولو قليلًا، نحو حياته ونشأته
والظروف السياسيّة التي عايشها (ع) في ظلّ الحكم العبّاسيّ الجائر.
نشأته وملامح شخصيّته
أيّها الأحبّة،
إنّ للتربية في البيت أثرًا بالغًا في بناء شخصيّة الإنسان منذ صغره؛ فما يعيشه، من
أحداثٍ ومشاهد داخل أسرته، ينطبع في نفسه، حتّى يكاد يكون ملازمًا له طوال حياته؛
ولذلك نجد الحثّ الأكيد في ثقافتنا الإسلاميّة على أهمّيّة التربية والتأديب منذ
الصغر، بل منذ أن يكون الطفل جنينًا، وأنّ على الأمّ أن تتنبّه لمأكلها ومشربها
وتصرّفاتها وعبادتها.
وإنّنا نجد في سيرة المعصومين (ع) الشخصيّة، منهجاً لنا، نتّخذهم قدوةً؛ ذلك أنّهم
قد تربَّوا في بيوتِ آبائهم وأمّهاتهم التربيةَ الإسلاميّة السليمة. كذلك هو الإمام
العسكريّ (ع)، الذي ظفر بتربيةٍ رفيعةٍ، تربيةِ بيتٍ يهتمّ بالقرآن والفروض
والواجبات والآداب والمندوبات، فكيف ستكون شخصيّته إذًا؟
لقد كان صاحب أخلاقٍ رفيعةٍ، يطفو الهدوءُ والسكينةُ على مُحيّاه، وتتجلّى في
تصرّفاته مَعالمُ العفّة والكرم والسخاء، ولوفرة العلم عنده ونبوغه؛ فقد كان
مقدَّمًا على من هو أكبر سنًّا منه في عيون الناس.
عبادته
فقد ورد الكثير من الأحاديث التي حفلت بذكر عبادته (ع)، نذكر منها:
- قال أحدهم: "كانَ (ع) يجلسُ في المحرابِ وَيسجدُ، فَأنامُ وأنتبهُ، وهو
ساجدٌ!"[1].
- "دخلَ العبّاسيّون على صالحِ بنِ وصيفٍ، وَدخلَ عليهِ صالحُ بنُ عليٍّ
وغيرُهم منَ المنحرفينَ عن هذه الناحية، عندما حبسَ أبو محمّدٍ (الإمام العسكريّ)،
فقال له: ضَيِّقْ عليهِ ولا توسِّعْ... فقالَ لهمْ صالحٌ: ما أصنعُ به، وقد وكّلتُ
به رَجُلَين شرَّ مَن قدرتُ عليهِ، فقد صارا مِنَ العبادةِ وَالصلاةِ إلى أمرٍ
عظيمٍ. ثمَّ أمرَ بإحضارِ الموكَّلين به، فقال لهما: ويحَكما! ما شأنُكما في أمرِ
هذا الرجل؟! فقالَا له: ما نقولُ في رجلٍ يصومُ نهارَه، ويقومُ ليلَهُ كلَّه، لا
يتكلّم، ولا يتشاغلُ بغيرِ العبادةِ، فإذا نظرَ إلينا ارتعدَتْ فرائصُنا وداخَلَنا
ما لا نملكُه من أنفسِنا؟! فلمّا سمعَ ذلك العبّاسيون انصرفوا خاسئين"[2].
الحركة العلميّة للإمام (ع)
بذل الإمام العسكريّ (ع) جهدًا كبيرًا في النشاط العلميّ والثقافيّ، خاصّةً فيما
يتعلّق بالردود والنقاشات والجدليّات العلميّة، وتميّز ذلك منه بالموضوعيّة والحوار
الهادئ. ومن تلك الأنشطة العلميّة، بياناتُه لتلميذه أبي هاشمٍ الجعفريّ في مسألة
خلق القرآن، وفي مسائل تفسير القرآن، وإحباطُه لمشروع الكتاب الذي كان يزمع بكتابته
فيلسوفُ زمانِه أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكنديّ حول ما سمّاه "متناقِضات القرآن"،
حيث استطاع الإمامُ بأسلوبه العلميّ الرصين أن يُقنع الكنديَّ بخطأ أفكاره، ممّا
دفعه إلى التوبة وإحراق أوراقه تلك.
الظروف السياسيّة التي عايشها الإمام العسكريّ (ع)
نختصرها في النقاط الآتية:
1- لم تكن الظروف التي عايشها الإمام العسكريّ (ع) مغايرةً لتلك التي كانت في زمن
أبائه، فقد كان العبّاسيّون يبذلون قصارى جهدهم في دمج الأئمّة الأطهار في نظامِ
الحكم؛ وذلك بهدف تقويض الحركات الموالِيَة الثوريّة، وكذلك بهدف مراقبة الأئمّة عن
قربٍ، وهذا ما نلاحظه منذ زمن الإمام الرضا (ع)، الذي أُجبِرَ على قبول ولاية العهد
من قِبَلِ المأمون.
2- أُجبِرَ (ع) على الإقامة في سامرّاء ومداومة الحضور في بلاط الخليفة. وكان، مع
ذلك كلّه، شديدَ الحرص على أن لا يُعطيَ لهم فرصةَ القضاء عَلَيْه؛ فاتّبعَ سياسة
المواراة والسلام.
إنّ سياسة السّلم، التي اتّبعها الإمام (ع)، أكسبته احترامَ الحكّام والوزراء
وجلاوزتهم، خاصّةً ممّا رأَوه فيه من الهَيبة والتقوى. كان أحد وزراء المعتَمَد
العبّاسيّ يقول:
"كانَ أحمدُ بنُ عُبَيدِ اللهِ بن خاقان على الضياع والخراج بقمّ، فجرى في مجلسه
يومًا ذكرُ العلويّة ومذاهبهم، وكان شديدَ النصبِ، فقال: ما رأيتُ ولا عرفتُ
بِسُرَّ مَنْ رأَى رجلًا من العلويّةِ مثلَ الحسنِ بنِ عليِّ بنِ محمّدِ بنِ الرضا،
في هَدْيِه وسكونِه وعفافِه ونُبلِه وكرمِه عندَ أهلِ بيتِهِ وبني هاشمٍ وتقديمِهم
إيّاه على ذوي السنّ منهم والخطرِ، وكذلك القوّاد والوزراء وعامّة الناس!"[3].
ولكن، مع ذلك كلّه، لم يَسلَم (ع) من السجن تارةً، والتشريد والأذى تارةً أخرى.
3- عمدت السلطة العبّاسيّة، في محاولاتٍ عديدةٍ، إلى إيقاع الفتنة بين أصحاب الإمام
(ع)، من خلال الترغيب حينًا والترهيب حينًا آخر، كشراء بعض الضمائر وسجن الأشخاص
الخطرين على الحكم وتعذيبهم.
وكان (ع) يحذّر أصحابَه من الفتنة التي يجهد النظام الحاكم لإيقاعها، قائلًا لهم:
"فتنةٌ تظلُّكم، فكونوا على أهبّةٍ!"[4].
وممّا قاله لهم في تنبيههم من ذلك: "الْفَقْرُ مَعَنَا خَيْرٌ مِنَ الْغِنَى مَعَ
غَيْرِنَا، وَنَحْنُ كَهْفٌ لِمَنِ الْتَجَأَ إِلَيْنَا، وَنُورٌ لِمَنِ اسْتَضَاءَ
بِنَا، وَعِصْمَةٌ لِمَنِ اعْتَصَمَ بِنَا. مَنْ أَحَبَّنَا كَانَ مَعَنَا فِي
السَّنَامِ الْأَعْلَى، وَمَنِ انْحَرَفَ عَنَّا فَإِلَى النَّارِ!"[5].
كيف مهّد الإمام العسكريّ (ع) لغيبة القائم (عج)؟
كان الإمام الحسن العسكريّ (ع) يواجه حدثًا جديدًا على صعيد المجتمع الموالي، وهو
قضيّة الإمام المهديّ (عج) وغَيبته. فإنَّ غَيبته (عج) تحتاج إلى التمهيد والتذكير
بالكثير من المفاهيم والقِيَم الإلهيّة؛ كي يتسنَّى للمؤمن أن يتمسّك بهذه العقيدة
بقوّةٍ وثباتٍ؛ والسبب في ذلك أنّ مسألة الغَيبة والإيمان بما هو غيبيٌّ يحتاج إلى
عنايةٍ وتذكيرٍ وتمهيدٍ، خاصّةً أنّ مثل هذا الأمر لم يحصل في الأمّة من قبل.
فكان لا بدّ للإمام العسكريّ (ع) أن يُمهّد لذلك، فاعتمد برنامجًا يهدف إلى ذلك،
ويمكن اختصاره بالنقاط بالخطوات الآتية:
أوّلًا: حجبُ الإمام المهديّ (عج) عن أعين الناس جزئيَّا، وإظهاره لبعض خاصّته فقط.
ثانيًا: شنّ حملة توعيةٍ لفكرة الغَيبة، من خلال حثِّ الناس على ضرورة تَحمُّلِهم
لمسؤوليّاتهم الإسلاميّة تجاهها، وتعويدهم على متطلّباتها. وكمثال على ذلك، نلاحظ
ما كتبه الإمام لابن بابويه: "عليكَ بالصبرِ وانتظارِ الفرجِ. قالَ النبيُّ (صلّى
اللهُ عليْهِ وَآلِهِ وسلّم): أفضلُ أعمالِ أمّتي انتظارُ الفرجِ، ولا يزالُ
شيعتُنا في حزنٍ حتّى يظهرَ وَلَدِيَ الذي بشَّر به النبيُّ (صلّى اللهُ عليْهِ
وَآلِهِ وسلّم) يملأُ الأرضَ قسطًا وعدلًا كما مُلِئَتْ جَورًا وظلمًا. فاصبِرْ يا
شيخِي يا أبا الحسنِ عليّ، وَأْمُرْ جميعَ شيعتي بالصبر، فإنّ الأرضَ للهِ يورثُها
مَن يشاءُ مِن عبادِه، والعاقبةُ للمتَّقين"[6].
ثالثًا: احتجاب الإمام العسكريّ (ع) بنفسه عن الناس، إلّا عن بعض الخواصّ من
أصحابه. وألقى مَهمّة تبليغ تعليماتِه وأحكامِه إلى عددٍ من خاصّته على شكل
المكاتبات والتوقيعات، مُمهِّدًا بذلك للأسلوب الذي سيعتمده الإمام القائم (عج)
رابعًا: اعتماد نظام الوكلاء مع قواعده الشعبيّة، حيث كان أسلوبًا آخر من أساليب
التمهيد لفكرة الغيبة.
وكان الشيعة، إذا حملوا الأموال من الحقوق الشرعيّة الواجبة عليهم إلى الإمام (ع)،
قصدوا عثمانَ بن سعيدٍ العمريّ السمَّان، الذي كان يتَّجر بالسمن تغطيةً لنشاطه
الذي يصبّ في مصلحة الإمام (ع)؛ فكان يجعل الأموال التي يتسلَّمها في جراب السمن
وزقاقه، ويحمله إلى الإمام بعيدًا عن أنظار الحكّام.
ونختم بوصيّةٍ من وصاياه (ع) لشيعته قائلًا فيها:
"أوصيكُم بتقوى اللهِ، والورعِ في دينِكم، والاجتهادِ للهِ، وصدقِ الحديثِ، وأداءِ
الأمانةِ إلى مَن ائتمنكم مِن برٍّ أو فاجرٍ، وطولِ السجودِ، وحُسنِ الجوارِ...
صلّوا في عشائرِهم (أو قال: مساجدِهم) واشهدُوا جنائزَهم، وعُودُوا مرضاهم، وأدُّوا
حقوقَهم، فإنّ الرجلَ منكم إذا ورعَ في دِينِهِ وصدقَ في حديثِه، وأدّى الأمانةَ،
وحَسّنَ خُلُقَهُ مع الناس، قيل: هذا شيعيٌّ! فيسرّني ذلك. اتّقوا اللهَ، وكونوا
لنا زينًا، ولا تكونوا علينا شينًا، جُرُّوا إلينا كلَّ مودّةٍ، وادفعوا عنّا كلَّ
قبيحٍ؛ فإنّه ما قِيلَ فينا مِن حُسنٍ، فنحنُ أهلُه، وما قِيلَ عنّا مِن سوءٍ فما
نحنُ كذلكَ. لَنا حقٌّ في كتابِ اللهِ، وقرابةٌّ مِن رسولِ اللهِ، وتطهيرٌ مِن
اللهِ لا يدّعيهِ أحدٌ غيرُنا إلّا كذّابٍ... احفظوا ما وصّيتُكم به، وأستودعُكم
اللهَ، وأقرأ عليكم السلام"[7].
[1] الطبريّ، دلائل الإمامة، ص428.
[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج50، ص309.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج1، ص503.
[4] الطبريّ، دلائل الإمامة، ص 428.
[5] قطب الدين راوندى، سعيد بن هبة الله، الخرائج والجرائح، ج2، ص 740.
[6] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج50، ص318.
[7] ابن شعبة الحرّانيّ، تحف العقول، ص487.