محاور الخطبة
- ولادته
- في إمامته المبكرة
- في صفاته
- في ظروفه السياسيّة
- من المأثور من أقواله
مطلع الخطبة
سموت وأنت سرٌّ في اعتقادي بمنزلة الشغاف من الفؤادِ
ورمزٌ للإصابة والتسامي وفيض للإحاطة والسدادِ
وكنز من كنوز العلم أضفى على الآفاق باب الاجتهادِ
أيّها الأحبّة،
تطالعنا في هذه الأيّام المباركة من أيّام شهر رجب الأصبّ، مناسبات جليلة وعظيمة -عظيمة بعظمة أصحابها وأحداثها- ومن تلك المناسبات ذكرى ولادة الإمام محمّد الجواد (صلوات الله عليه وآله)، الإمام التاسع من الأئمّة الاثني عشر الأطهار (عليهم السلام)، الذين كانوا وما زالوا مع جدّهم المصطفى (صلّى الله عليه وآله) مناراً للعلم والتقوى، ومدرسةً لكلّ طالب للحقّ والقرب من الله -سبحانه-.
وإنّ ذلك فيهم لم يقتصر على ما قالوا، بل الأساس في إرشادهم وتأثيرهم بقلوب عباد الله -تعالى-، أنّهم كانوا يفعلون ما يقولون، حتّى صاروا ملجأ الناس في ما يُصلح دينهم ودنياهم.
وإنّ في شخص الإمام الجواد (صلوات الله عليه) ميزات وخصائصَ باهرة، يجدر بكلّ موالٍ أن ينهل منها قدراً يُسعفه في سلوك طريق الحقّ؛ لنيل رضوان الله -تعالى-.
ولادته
وُلد (عليه السلام) -كما هو المشهور- في ليلة الجمعة، في العاشر من رجب عام 195هـ، هو محمّد بن عليّ، المكنّى بأبي جعفر الثاني، أمّا المعروف بأبي جعفر الأوّل، فهو الإمام الباقر (عليه السلام).
ولأنّ حياته (عليه السلام) وشخصيّته كانت مليئة بالمواقف الأخلاقيّة والعباديّة والسياسيّة وغيرها؛ فإنّنا سنختصر قدر الإمكان في هذا المقام، ونذكر بعضاً منها:
في إمامته المبكرة
أيّها الأحبّة،
إنّ الإمامة في معتقدنا تكون بالنصّ من النبيّ إلى الإمام، أو من الإمام السابق إلى الإمام اللاحق، ولكنّ هذا يُبتنى على أسس وقواعد لا تَحيد عن صاحب المهمّة هذه أبداً، ألا وهي أن تكون مؤهّلات الإمامة قد توفّرت فيه، وقد ظهرت عياناً، قال الشيخ المفيد (رضوان الله تعالى عليه): "وكان الإمام بعد الرضا (عليه السلام) بالنصّ عليه، والإشارة من أبيه، وتكامل الفضل فيه"[1].
وبالتالي، لا يُعتبر فيها ما درجت عليه بعض العادات والتقاليد، والتي ترى في الإمامة وكأنّها سلطنة دنيويّة، حالها كحال الإمارات والسلطنات، ومن ذلك نشأ عند بعضهم التشكيك القائل بإمامة الجواد (عليه السلام) حيث كان شابّاً يافعاً، ولم يكن هذا الأمر معتاداً عليه بين الموالين!
فأثير التساؤل القائل:"كيف لشابّ يافع أن يتحمّل زمام الإمامة يا تُرى؟"
وفي الإجابة عن ذلك، وباختصار شديد، نقول:
أوّلاً: إنّ القيادة والإمامة يُشترط فيها العلم والقدرة على الإدارة، وهذا لا علاقة له بالعمر بتاتاً، فقد رأينا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كيف يُوَلّي أسامة بن زيد -وهو شابّ- لقيادة جيش المسلمين، الذي يضمّ رجالات كبار في السنّ، بل قد ذمّ كلّ من لا يلتحق به بحجّة صغر سنّه.
ثانياً: فإنّ نصوصاً قرآنيّة أكّدت لنا عدم دخالة العمر بذلك، كقوله -تعالى- في حقّ النبيّ يحيى (عليه السلام): {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}[2]، فهي تصريح بصغر سنّه، ومع ذلك فقد أولاه الله -تعالى- الحكم.
وكذلك قوله -تعالى- في حقّ النبيّ عيسى (عليه السلام): {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}[3].
فنجد بوضوح أنّ القرآن لا يعتبر مسألة العمر والشيخوخة والأعراف الجاهليّة في الحسبان، إنّما الحكم لمن يستحقّه ولو كان صبيّاً.
هذا بالإضافة إلى النصوص الكثيرة المرويّة في إمامته (عليه السلام)، وقد رواها الكافي منها بإسناده عن الإمام الرضا (عليه السلام) بقوله: "هذا أبو جعفر، قد أجلسته مجلسي، وصيّرته في مكاني"[4].
وكذلك بإسناده عن الخيراتيّ، قال: كنت واقفاً بين يدي أبي الحسن (عليه السلام) بخراسان، فقال له قائل: يا سيّدي، إذا كان كائن فإلى من؟ قال: "إلى أبي جعفر ابني"، فاستصغر القائل سنّ أبي جعفر (عليه السلام)، فقال أبو الحسن (عليه السلام): "إنّ الله -سبحانه- بعث عيسى بن مريم رسولا نبيًّا صاحب شريعة مبتدأة في أصغر من السنّ الذي فيه أبو جعفر (عليه السلام)"[5].
في صفاته
لم يرَ ولم يقرأ عن الإمام الجواد (عليه السلام) أحدٌ إلّا وقد أُعجب به ودُهش، حتّى أطراه كثير من الأدباء والمؤرّخين، فراحوا يسجّلون ما علموه عنه من نبوغه وعظم مواهبه في صغر سنّه، بقوالب مختلفة، من شعر مدحٍ ورثاء، إلى أقوال وإشادات أدبيّة، ركزت في الكتب من أزمان طويلة.
قال فيه ابن طلحة الشافعيّ: "... وإن كان صغير السنّ، فهو كبير القدر، رفيع الذكر، ومناقبه -رضيَ الله عنه- كثيرةٌ..."[6]
وقال فيه ابن الجوزيّ: "وكان على منهاج أبيه في العلم والتقى والزهد والجود..."
وقال فيه الزركليّ: "كان رفيع القدر كأسلافه، ذكيّا، طلق اللسان، قويّ البديهة"[7].
1- إحسانه وكرمه
أيّها الأحبّة،
كما هو معلوم لدينا فإنّ ما تميّزت به نفوس أهل البيت الأطهار (عليهم السلام)، لا يقتصر فيه على صفة دون أخرى، فقد جُبلت أنفسهم على الصفات السامية والجليلة كلّها، حتّى نجدهم في كلّ ميدان شريف يتربّعون فيه على القمّة، نجدهم في قمّة الشجاعة والحلم والزهد والعبادة.
وقولنا هذا، إنّما هو مبنيٌّ على الاعتقاد الثابت والمتجذّر في نفوسنا، وتاريخ أئمّتنا الحافل بأنّهم حازوا على أسمى صفات الكمال الإنسانيّ، وأعلى درجات الفضائل، فهم أعلم الناس، وأعبدهم، وأتقاهم، وأكرمهم، وأشجعهم، وأثبتهم عند اللقاء، إلى غير ذلك من الصفات الحميدة، والخِلال الحسنة.
عُرف الإمام محمّد بن عليّ (عليه السلام) بالكرم والسخاء، وبذلك عُرف بلقبه المشهور "الجواد"، وممّا ورد في ذلك:
1- ما قاله أحد كُتّاب السيرة: "كان يبعث إلى المدينة في كلّ عام بأكثر من ألف ألف درهم"[8].
2- وقال أحد معاصريه، وهو أحمد بن حديد: "خرجت مع جماعة حجاجاً، فقُطع علينا الطريق، فلمّا دخلت المدينة لقيت أبا جعفر (عليه السلام) في بعض الطريق، فأتيته إلى المنزل، فأخبرته بالذي أصابنا؛ فأمر لي بكسوة، وأعطاني دنانير، وقال: "فرّقها على أصحابك على قدر ما ذهب"، فقسّمتها بينهم، فإذا هي على قدر ما ذهب منهم، لا أقلّ ولا أكثر"[9].
3- وقال آخر: "لقيت محمّد بن عليّ (عليه السلام)، فسألته النفقة إلى بيت المقدس، فأعطاني مئة دينار"[10].
4. أتاه رجل فقال له: "أعطني على قدر مروّتك".
فقال (عليه السلام): "لا يسعني".
فقال: "على قدري".
قال (عليه السلام): "أمّا ذا فنعم. يا غلام، أعطِه مئتي دينار".[11]
في ظروفه السياسيّة
1- الإمام تحت المراقبة
كانت الظروف التي عايشها الإمام (عليه السلام) تقتضي المحافظة على الكيان الإسلاميّ، والصمود واليقظة وتوعية المسلمين من خطط الأعداء، الذين اتّخذوا جانب اللين والمراوغة والدهاء في القضاء على الوعي الإسلاميّ.
ومن ذلك أنّه لمّا دسّ المأمون السمّ للإمام الرضا (عليه السلام) عام 202هـ، واستشهد على أثره، كان المأمون هو أوّل من لبس العزاء على الإمام؛ ليوهم الناس أنّه بريء من دم الإمام (عليه السلام)، ومن ناحية أُخرى، خشيَ المأمون أن يثور ابنه الجواد في المدينة؛ فخطّط باستدعائه إلى بغداد، وجعله تحت الرقابة العبّاسيّة، وزاد الرقابة بعرضه الزواج من ابنته، ورأى (عليه السلام) أنّ في ذلك مصلحة للإسلام والمسلمين، حيث لم تجتمع شروط القيام، وفي الوقت نفسه، وفي مختلف المناسبات، كان الإمام (عليه السلام) يفضح خططهم بالطرق المتيسّرة آنذاك، كما لا يخفى على المتأمّل في سيرته، وإن خفيت هذه الخطط على بعض المؤرّخين أيضاً.
كان المأمون مشغوفاً به، لِما رأى من علوّ مرتبته، وعِظَم قدمه في جميع الفضائل، وزوّجه ابنته، وكان متوفّراً على إعظامه وتوقيره وتبجيله. فلمّا بلغ ذلك العبّاسيّين، غضبوا عليه، وخافوا أن ينهي الأمر معه إلى ما انتهى إليه مع الرضا، واجتمع إليه منهم أهل بيته الأدنَون منه، وحاولوا صرفه عن ذلك، ولكنّ المأمون أصرّ على ذلك. ومن الطبيعيّ جدّاً، أن لا يكون إصراره على ذلك، إلّا لمصلحة تعود بالنفع عليه، لإرساء حكمه وسلطته، وأن يبقى الإمام تحت مراقبته بشكل أكبر.
2- محاولات التضييق على الإمام (عليه السلام)
كانت السلطة العبّاسيّة، بتخطيط المأمون وبواسطة عملائها، يحاولون مضايقة الإمام (عليه السلام)، بكثرة الأسئلة له (عليه السلام) في مختلف المناسبات؛ كي يأخذوا نقطة ضعف منه (عليه السلام)، وقد روَوا أنّ المأمون عقد الكثير من الاجتماعات والمناسبات لهذا الغرض، ولم يكن خافياً على أحد، كما لم يكن الإمام (عليه السلام) غافلاً عن الغرض من هذه الاجتماعات، ولكنّه (عليه السلام) كان يدفعها بالتي هي أحسن.
روى ابن حجر: "أنّه لمّا عزم المأمون على تزويجه ابنته أمّ الفضل وصمّم على ذلك، منعه العبّاسيّون خوفاً من أن يعهدَ إليه كما عهد إلى أبيه، ولمّا ذكر لهم: أنّه إنّما لتميّزه على أهل الفضل كلّهم علماً ومعرفةً مع صغر سنّه، تنازعوا في ذلك، ثمّ تواعدوا أن يرسلوا إليه من يختبره، وأرسلوا إليه يحيى بن أكثم، ووعدوه بشيء كثير، وحضر معه خواصّ الدولة، فأمر المأمون بفرش لمحمّد (عليه السلام) فجلس عليه، فسأله يحيى عن مسائل أجاب عنها بأحسن جواب".
وممّا ورد في ذلك: "أنّه وبعد أن أجاب الإمام (عليه السلام) عن عدد من أسئلة يحيى، قال له (عليه السلام): أسألك؟ (وأراد الإمام أن يبيّن أدب الإسلام وذلك بالاستئذان منه)، قال: (ابن أكثم): ذلك إليك، جُعِلت فداك!".
فقال الإمام (عليه السلام): "أخبرني عن رجل نظر إلى امرأة في أوّل النهار، فكان نظره إليها حراماً عليه، فلمّا ارتفع النهار حلّت له، فلمّا زالت الشمس حَرُمت عليه، فلمّا كان وقت العصر حلّت له، فلمّا كانت الشمس حَرُمت عليه، فلمّا دخل وقت العشاء الآخرة حلّت له، فلمّا كان وقت انتصاف الليل حَرُمت عليه، فلمّا طلع الفجر حلّت له، ما حال هذه المرأة؟ ولِمَ حلّت له وحَرُمت عليه؟"
فقال له يحيى بن أكثم: "لا والله، لا أهتدي إلى جواب هذا السؤال، ولا أعرف الوجه فيه، فإن رأيتَ أن تفيدنا."
فقال أبو جعفر (عليه السلام): "هذه أَمَة لرجل من الناس، نظر إليها في أوّل النهار، فكانت نظرته لها حراماً عليه، فلمّا ارتفع النهار ابتاعها من مولاها؛ فحلّت له، فلمّا كان عند الظهر أعتقها؛ فحَرُمت عليه، فلمّا كان وقت العصر تزوّجها؛ فحلّت له، فلمّا كان وقت المغرب ظاهر منها؛ فحَرُمت عليه، فلمّا كان وقت العشاء الآخرة كفّر عن الظهارة؛ فحلّت له، فلمّا كان نصف الليل طلّقها واحدةً؛ فحَرُمت عليه، فلمّا كان عند الفجر راجعها؛ فحلّت له"[12].
قال: "فأقبل المأمون على من حضر من أهل بيته، وقال لهم فيما قال: ويْحكم! إنّ أهل هذا البيت خُصّوا من الخلق بما ترَوْن من الفضل."
من المأثور من أقواله (عليه السلام)
- "المؤمن يحتاج إلى ثلاث خصال: توفيق من الله، وواعظ من نفسه، وقبول ممن ينصحه"[13].
- "توسّد الصبر، واعتنق الفقر، وارفض الشهوات، وخالف الهوس، واعلم بأنّك لم تخلُ من عين الله؛ فانظر أين تكون"[14].
- "لا تعادِ أحداً حتّى تعرف الذي بينه وبين الله -تعالى-، فإن كان محسناً، فإنّه لا يسلّمه إليك، وإن كان مسيئاً، فإنّ علمك به يكفيه، فلا تعادِه"[15].
- "لا تكن وليّا لله في العلانية، عدوّاً له في السرّ".[16]
- "من عمل على غير علم، ما أفسد أكثر ممّا يصلح".[17]
- "كفى بالمرء خيانةً أن يكون أميناً للخونة"[18].
[1] الشيخ المفيد، الإرشاد، ص273.
[2] سورة مريم، الآية12
[3] سورة مريم، الآية30.
[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج1، ص321.
[5] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص279.
[6] السيّد المرعشيّ، شرح إحقاق الحقّ، ج19، ص594.
[7] خير الدين الزركلي، الأعلام، ج6، ص272.
[8] الصفديّ، الوافي بالوفيّات، ج4، ص79.
[9] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج50، ص45.
[10] ابن جرير الطبريّ، دلائل الإمامة، ص399.
[11] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج49، ص 100.
[12] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 50، ص78.
[13] الفيض الكاشاني، الوافي، ج26، ص 283.
[14] المصدر نفسه.
[15] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج75، ص365.
[16] المصدر نفسه.
[17] المصدر نفسه، ص364.
[18] المصدر نفسه.