الإمام عليّ (عليه السلام)، نهج وصراط
محاور الخطبة
- النبيّ (صلّى الله عليه وآله) يأمر باتّباع الإمام عليّ (عليه السلام).
- الإمام عليّ نهجنا وصراطنا بماذا؟
- في الإيمان والعقيدة.
- في إنابته لله – تعالى -.
- في عبادته.
- في نكران ذاته وإيثاره.
- في أمانته على أموال الناس.
مطلع الخطبة
قال الله –تعالى- في محكم كتابه: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَاد}[1].
قال ابن عبّاس: "لمّا نزلت هذه الآية، وضع رسول الله يده على صدره وقال: أنا المنذر، وأومى بيده إلى منكب عليّ بن أبي طالب (ع)، فقال: أنت الهادي يا عليّ، بك يهتدي المهتدون بعدي..."[2].
النبيّ (صلّى الله عليه وآله) يأمر باتّباع الإمام عليّ (عليه السلام)
أيّها الأحبّة،
إنّ الأحاديث التي وصلتنا عن لسان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في حقّ أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) عديدة وكثيرة، وهو يصف فيها هذه الشخصيّة المباركة تارةً، ويأمر باتّباعها تارةً أخرى، وليس ذلك إلّا لما تحمله شخصيّة أمير المؤمنين (عليه السلام) من صفات عظيمة، جعلته أرفع الناس شأناً ومقاماً بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
وإنّ النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) عندما يأمر باتّباع أمير المؤمنين، فإنّه لا يأمر بذلك في ما يتعلّق بالسياسة أو العقيدة فحسب، إنّما يأمر بذلك أيضاً، وبأن يكون أمير المؤمنين قائداً للناس من بعده، من ناحية الأخلاق والأدب والعلم والإدارة، أن يتّبعوه في سلوكه وسيره وآدابه، في علاقته مع الله -سبحانه- في عبادته، في عفّته، في تقواه وورعه.
وإنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان فاعلاً لما يقول؛ ولذلك نجد القلوب كيف كانت، وما زالت تهفو إليه، وتأخذه قدوةً لمسارها نحو الله -سبحانه وتعالى-.
وقد ارتأينا أن يكون عنوان خطبتنا هذه، تحت عنوان "الإمام عليّ نهج وصراط"، كي نسلّط الضوء على بعض الفضائل التي تحلّى بها هذا الرجل العظيم (عليه الصلاة والسلام)، أن يكون نهجاً نتّبعه، وصراطا نسلكه، وهو الذي تجسّدت فيه القيم الإسلاميّة النبيلة كلّها، وليس ذلك بغريب، وهو الذي تربّى في حجر خير خلق الله -تعالى- الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله)، ونهل من معين أدبه وأخلاقه وعلمه؛ حتّى وصفه هو (صلّى الله عليه وآله) قائلاً فيه: "من أراد أن ينظر إلى آدم في جلالته، وإلى شيث في حكمته، وإلى إدريس في نباهته ومهابته، وإلى نوح في شكره لربّه وعبادته، وإلى إبراهيم في وفائه وخلّته، وإلى موسى في بغض كلّ عدوّ لله ومنابذته، وإلى عيسى في حبّ كلّ مؤمن ومعاشرته فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب"[3].
أيّها الأحبّة،
الإمام عليّ نهجنا وصراطنا، بماذا؟
1- في الإيمان والعقيدة
وهو القائل (عليه السلام): "لو كُشف لي الغطاء، ما ازددت يقيناً..."[4].
وهو القائل أيضاً، في مناجاته بين يدي ربّه: "ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنّتك، لكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك"[5].
فإنّ يقينه بالله -تعالى-، جعل عبادته له، وتوجّهه في كلّ ما يقوم به، لله -سبحانه-.
2- في إنابته لله -تعالى-
يحسب بعض الناس أنّ الإنابة هي فرع الذنوب والمعاصي، إلّا أنّ ذلك ليس صحيحاً، فالإنابة والرجوع إلى الله إنمّا هي صفة ملازمة للأتقياء، وعلى رأسهم الأنبياء والأوصياء، ذلك أنّ المرء كلّما عرف قدر ربّه فإنه سيشعر بحاجته إليه أكثر، وأنّه لا يستغني عن الإحساس بالتقصير نحوه، حتّى ولو لم يقترف ذنباً واحداً في حياته، كحال أمير المؤمنين (عليه السلام).
ولنا أن نقول: إنّ الشعور بالذنب يختلف بين إنسان وآخر، وذلك انسجاماً مع مقام هذا الإنسان ودرجته، وهذا ما نفهمه من حالات الإنابة التي كان عليها أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقد حدّث أبو الدرداء عن شدّة إنابته لله -تعالى- قائلاً:
"شاهدت عليّ بن أبي طالب، وقد اعتزل عن مواليه، واختفى ممّن يليه، وقد استتر ببعيلات[6] النخل، فافتقدته، وبَعُدَ عليَّ مكانه، فقلت: لَحِق بمنزله، فإذا بصوت حزين ونغمة شجيّ، وهو يقول: إلهي، كم من موبقة حلمتَ عن مقابلتها بنعمتك، وكم من جريرة تكرّمتَ عن كشفها بكرمك، إلهي، إن طال في عصيانك عمري، وعظُم في الصحف ذنبي، فما أنا مؤمّل غير غفرانك، ولا أنا راجٍ غير رضوانك، فشغلني الصوت واقتفيت الأثر، فإذا هو عليّ بن أبي طالب بعينه، فاستترت لأسمع كلامه، وأخملت الحركة، فركع ركعات في جوف الليل الغابر، ثمّ فرغ إلى الدعاء والتضرّع والبكاء والبثّ والشكوى، فكان ممّا ناجى به الله -عزّ وجلّ- أن قال: اللّهم إنّي أفكّر في عفوك؛ فتهون عليَّ خطيئتي، ثمّ أذكر العظيم من أخذك؛ فتعظُم عليّ بليّتي، ثمّ قال: آهٍ إن قرأتُ في الصحف سيّئةً أنا ناسيها، وأنت محصيها، فتقول: خذوه، فياله من مأخوذ لا تُنجيه عشيرته، ولا تنفعه قبيلته، يرحمه الملأ إذا أذن فيه بالنداء، ثمّ قال: آهٍ من نارٍ تُنضج الأكباد والكِلى، آهٍ من نارٍ نزّاعة للشوى، آهٍ من غمْرةٍ في ملهباتِ لظى، ثمّ أمعن (أي زاد) في البكاء، فلم أسمع له حسّاً ولا حركةً، فقلت: غلب عليه النوم لطول السهر، أُوقظه لصلاة الفجر"، قال أبو الدرداء: "فأتيته فإذا هو كالخشبة الملقاة، فحرّكته فلم يتحرّك، وزوّيته فلم ينزوِ، فقلت: إنّا لله وإنا إليه راجعون، مات والله عليّ بن أبي طالب، فأتيت منزله مبادراً أنعاه إليهم، فقالت فاطمة: يا أبا الدرداء، ما كان من شأنه وقصّته؟ فأخبرتها الخبر، فقالت: هي والله، يا أبا الدرداء، الغشية التي تأخذه من خشية الله –تعالى-، ثمّ أتوه بماء فنضحوه على وجهه فأفاق، ونظر إليّ وأنا أبكي، فقال: ما بكاؤك يا أبا الدرداء؟
فقلت: ممّا أراه تنزله بنفسك.
فقال: يا أبا الدرداء، فكيف لو رأيتني وقد دُعيَ بيَ إلى الحساب، وأيقن أهل الجرائم بالعذاب، واحتوشتني ملائكة غلاظ شداد، وزبانية فظاظ، وأُوقفت بين يديِ الجبّار، وقد أسلمني الأحبّاء، ورحمني أهل الدنيا، لكنتَ أشدّ رحمةً لي بين يدي من لا يخفى عليه خافية"، قال أبو الدرداء: "فوالله، ما رأيت ذلك لأحد من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)"[7].
3- في عبادته
عن الإمام الباقر (عليه السلام)، أنّه قال: "دخلت على أبي، عليّ بن الحسين، فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد، قد اصفرّ لونه من السهر، ورمضت عيناه من البكاء، ودبرت جبهته، وانخرم أنفه من السجود، وورمت ساقاه وقدماه من الصلاة، قال أبو جعفر: فلم أملك نفسي حين رأيته بتلك الحالة وهو يبكي؛ فبكيت رحمةً له، فالتفت إليّ فقال: أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة عليّ بن أبي طالب، فأعطيته فقرأ فيها شيئاً يسيراً، ثمّ تركها من يده تضجّراً، وقال: من يقوى على عبادة عليّ بن أبي طالب؟"[8].
4- في نكران ذاته وإيثاره
من الصفات التي تحلّى بها (عليه السلام) هي صفة الإيثار، ولا إيثار يأتي بعد نكران الذات، حيث كلّما أنكر المرء ذاته؛ كلّما نظر إلى حاجات الناس، وفضّلهم على حاجته، وقد ذكر الإمام الباقر (عليه السلام) هذه الخصلة عند أمير المؤمنين (عليه السلام)، حيث يقول: "كان عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) لَيُطعم الناس خبز البرّ واللحم، وينصرف إلى منزله ويأكل خبز الشعير، والزيت والخلّ"[9].
وهو القائل (عليه السلام): "وإنّما هي نفسي أروّضها بالتقوى؛ لتأتيَ آمنةً يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق، ولو شئتُ لاهتديتُ الطّريق إلى مصفّى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القزّ، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعلّ بالحجاز أو اليمامة مَن لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشّبع، أوَ أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرّى، أو أكون كما قال القائل:
وحسبك داء أن تبيت ببطنة وحولك أكباد تحنّ إلى القدّ
أأقنع من نفسي بأن يُقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدّهر، أو أكون أسوةً لهم في جشوبة العيش"[10].
5- في أمانته على أموال الناس
كان (عليه السلام) شديد الحرص على أموال الناس، وعلى الحقوق الشرعيّة التي تصل بين يديه، وهو القائل (عليه السلام): "دخلت بلادكم بأشمالي هذه، ورحلتي، وراحلتي ها هي، فإن أنا خرجت من بلادكم بغير ما دخلت، فإنّني من الخائنين"[11].
وذكر الرواة أنّ الإمام في أيّام خلافته، لم يكن عنده قيمة ثلاثة دراهم ليشتريَ بها إزاراً، أو ما يحتاج إليه، ثمّ يدخل بيت المال فيقسّم كلّ ما فيه على الناس، ثمّ يصلّي فيه، ويقول: "الحمد لله الّذي أخرجني منه كما دخلته"[12].
وإنّنا لو أردنا ذكر كلّ ما تحلّت به شخصيّة أمير المؤمنين (عليه السلام)، ما استطعنا؛ فإنّها لا تعدّ ولا تحصى، وإنّما اكتفينا ببعضٍ من تلك الصفات والسمات الجليلة، علّنا نستقي منها ما يُصلح أنفسنا ويُقوّم سلوكنا، ونصل بها إلى رضا الله -سبحانه وتعالى-.
والحمد لله ربّ العالمين.
[1] سورة الرعد، الآية 7.
[2] بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج35، ص399.
[3] بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ: ج17، ص419.
[4] المصدر نفسه، ج67، ص 142.
[5] المصدر نفسه، ج67، ص186.
[6] شجر النخل الذي لا يُسقى.
[7] بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج41، ص 13.
[8] المصدر نفسه، ج41، ص 17.
[9] المصدر نفسه، ج40، ص337.
[10] نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: ج3، ص72.
[11] بحار الأنوار العلّامة المجلسيّ: ج40، ص325.
[12] المصدر نفسه، ج40، ص321