محاور الخطبة
- التأمّل بالبعثة النبويّة الشريفة.
- التغيّرات الجذريّة في المجتمع العربيّ.
- من الناحية الدينيّة.
- من الناحية الاجتماعيّة والأخلاقيّة.
مطلع الخطبة
الصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآل بيته الطيّبين الطاهرين.
"فكنّا على ذلك، حتّى بعث الله إلينا رسولا منّا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحّده، ونعبده، ونخلع ما كنّا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الامانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم"[1].
هذا ممّا ورد في كلام جعفر بن أبي طالب، مخاطباً به ملك الحبشة، مبيّناً له ما كان عليه الناس قبل مبعث النبيّ الأعظم محمّد (صلّى الله عليه وآله).
التأمّل بالبعثة النبويّة الشريفة
أيّها الأحبّة،
إنّ ذكرى يوم المبعث النبويّ الشريف تحتّم علينا النظر جيّداً في آثار تلك البعثة النبويّة الشريفة، على جميع الأصعدة؛ أكان على مستوى الجزيرة العربيّة كيف كانت، وكيف أصبحت بعد بعثته المباركة، أم على مستوى العالم أجمع في جميع الأزمنة.
هذا وقد كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله) رسولاً خاتماً لجميع رسل الله -تعالى-، وصاحب رسالة خاتمة ونهائيّة لجميع ما تقدّم عليها من رسالاته -سبحانه-، وبذلك بُعث النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إلى العالمين، كما في قوله -عزّ وجلّ- بحقّ النبيّ المصطفى (صلّى الله عليه وآله): {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}[2].
وقد أرسل الله -تعالى- نبيّه الأكرم واصفاً إيّاه ومقرناً بعثته بالعديد من الصفات والمهام التي أوكلت إليه، منها أنّه –سبحانه-:
1- أرسله رحمةً للعالمين: قال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[3].
2- أرسله كافّة للناس: كما في قوله -سبحانه-: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ}[4].
3- أرسله بالهدى والحقّ: كما في قوله -سبحانه-: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[5].
4- أرسله للتزكية والتعليم: كما في قوله -تعالى-: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[6].
5- أرسله للتبشير والإنذار: قال: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ}[7].
التغيّرات الجذريّة في المجتمع العربيّ
وإذا أردنا أن نعرف وندرك جيّداً عظمة هذه المناسبة، فعلينا أن نحيط بأبعادها كلّها، وآثارها، المعنويّة منها والمعيشيّة، حيث إنّ الإسلام دين للحياة الدنيا، وللحياة الآخرة.
وبقراءة تاريخيّة موضوعيّة، نجد أنّ هناك تغيّرات عظيمة ومهمّة للغاية قد حدثت في المجتمع العربيّ آنذاك، وبمدّة زمنيّة لنا أن نقول عنها أنّها خياليّة، بالمقارنة مع الحركات العالميّة جميعها، التي حدثت عبر التاريخ، وبالأخذ بعين الاعتبار تلك الظروف الصعبة التي كانت تحيط بالرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) وبالرسالة الإلهيّة المباركة.
فقد كان العرب في ذاك الوقت يتّبعون نمط عيش شديد الصعوبة والغرابة، أكان على المستوى الدينيّ، أم الأخلاقيّ، أم الاجتماعيّ، فجاء النبّي الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، وعمل على تغيير ذاك الواقع بمدّة لم تتجاوز الثلاث وعشرين سنة!
أمّا من الناحية الدينيّة
فقد كان سكّان شبه الجزيرة العربيّة، يؤمنون بالأوثان والأصنام، ويتّخذونها وسيلةً للقربى من الله -سبحانه وتعالى-، قال -عزّ وجلّ-: {والذين اتّخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلّا ليقرّبونا إلى الله زلفى}[8].
وقد كان ذلك من أشدّ ما كانوا عليه من الجهل بالله -تعالى-، حتّى كان لكلّ قبيلة منهم وثناً خاصّاً بها، حتّى اشتهر بعضها، وصار له مكانة خاصّة في حياتهم كاللات، والعزّى، وغيرهما.
ومن الملفت أنّ هؤلاء لم ينكروا وجود الله -عزّ وجلّ-، إنّما اتّخذوا تلك الأوثان وسيلةً إليه دون إذنه -عزّ وجلّ-، ومن هنا، فقد حقّ عليهم أن يصفهم الله بالمشركين في آيات كتابه العزيز.
فجاء النبيّ برسالته، ليخرجهم من تلك الظلمات، ويعيدهم إلى فطرتهم التي كانوا عليها، فاستطاع بعون الله –تعالى-، أن يغيّر تلك المعتقدات الفاسدة والباطلة، وقد ذكر الإمام عليّ (عليه السلام) ما يتعلق بذلك قائلاً: "بعثه حين لا علمٌ قائم، ولا منارٌ ساطع، ولا منهجٌ واضح"[9].
أمّا من الناحية الاجتماعيّة والاخلاقيّة
عن الإمام عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: "إنّ الله بعث محمّداً نذيراً للعالمين، وأميناً على التنزيل، وأنتم معشر العرب على شرّ دين، وفي شرّ دار، متنخون (مقيمون) بين حجارة خُشن، وحيّات سمّ، تشربون الكدر، وتأكلون الجشب (الطعام الغليظ)، وتسفكون دماءكم، وتقطعون أرحامكم، الأصنام فيكم منصوبة، والآثام بكم معصوبة"[10].
كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) هذا، يختصر لنا ما كان عليه أبناء الجزيرة العربيّة في حياتهم الاجتماعيّة، التي ملأها الظلم والتعدّي، وعدم التحضّر في جميع جهات الحياة.
كانت هذه القبيلة تغير على تلك القبيلة، وتستولي على أموالها، وتسبي نساءها وأطفالها، وتقتل أو تأسر من تقدر عليه من رجالها، لتعود القبيلة المنكوبة وتتربّص بالتي غلبتها، وهكذا، حتّى يُسفك دم كثير!
وكان السلب والنهب والإغارة، كانت جميعها أيضاً من مميّزات ذلك المجتمع.
وانتشر فيهم الزنا وفشا، حتّى أصبح أمراً مستسهلاً لا يرون فيه عيباً.
كانوا يتبارون في مجالسهم الميسر، حتّى يعدّون عدم المشاركة فيها عاراً.
أمّا واقع المرأة فحدّث ولا حرج، فلم يكن لها في أرض العرب حقّ يعترف به، أو قوّة تستند إليها. وإذا ما وُلدت، فيغشي الحزن وجه أبيها، ويسودّ كما قال –تعالى-: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}[11]، هذا إذا لم يكن مصيرها كما كان يحدث في كثير من الأحيان، أن تُوأد تحت التراب! وهذا ما أشار إليه الله في كتابه العزيز في قوله -تعالى-: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ* بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ}[12].
إلى أن جاء الإسلام ليحرّرها من ذلك الظلم كلّه، فعدل بينها وبين الرجل في جميع مفاصل الحياة، كلٌّ طبقاً لدوره الملقى عليه في هذا الوجود، فأعطى لها حقّها بالميراث كما في قوله -تعالى-: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}[13].
وأعطى لها الحقّ باختيار الزوج، وأوجب على الزوج أن يحميَها ويحفظها، وأن يقوم بتلبية حاجاتها، وهي في ذلك معزّزة مكرّمة، وقد ورد لنا العديد من الأحاديث المباركة عن لسان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو يبيّن لنا مكانة المرأة في نظر هذا الدين الحنيف، ومنها قوله (صلّى الله عليه وآله):
- "خير أولادكم البنات" [14].
- "ما من بيت فيه البنات، إلّا نزلت كلّ يوم عليه اثنتا عشرة بركة ورحمة من السماء، ولا ينقطع زيارة الملائكة من ذلك البيت، يكتبون لأبيهم كلّ يوم وليلة عبادة سنة"[15].
- "من كانت له ثلاث بنات، أو ثلاث أخوات، أو ابنتان، أو أختان، فأحسن صحبتهنّ واتّقى الله فيهنّ، فله الجنّة"[16].
فبأدنى تأمّل بهذه الأحاديث الشريفة، نوقن حينها عظمة المكانة التي أبداها الإسلام للمرأة، وهو يعكس بذلك نظرة حضاريّة عميقة، لا نجدها في أيّ حركة إنسانيّة، أو دين آخر.
وكان أهل الجاهليّة يعاقرون الخمر، ويحتفون بها، حتّى شغلت كثيراً من أشعارهم.
كانوا إذا هُدد الرجلُ منهم بالإفلاس، وشعر أنّه سيُصاب بالفقر، كان يبادر إلى قتل أولاده خوفاً من أن يراهم أذلّاء جائعين، ولقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك، بقوله تعالى :{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}[17].
كانوا يتزوّجون بزوجات آبائهم إذا طُلّقن أو ماتوا عنهنّ، حتّى نهى عن ذلك في كتابه الكريم: {وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَد سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقتًا وَسَاء سَبِيلاً}[18].
هذا بعض ممّا كان عليه أهل الجاهليّة، فقد كانوا في ظلمات وظلمات، وجاء هذا الدين ليخرجهم منها إلى النور: قال -سبحانه وتعالى-: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[19].
وأخيراً، لا بدّ من التنبّه إلى أنّ هناك الكثير من الأعمال التي اتّبعها أولئك، ما زال البعض يتّبعها وللأسف، فالظلم، والتعدّي، والعصبيّات المقيتة، واحتقار المرأة واستغلالها، وغيرها الكثير من الأمور، إنّ البعض ما زال متمسّكاً بها، وإن كان ذلك بقوالب جديدة، وأساليب مختلفة عمّا مضى.
من هنا، فإنّ التمسّك بدين الله -تعالى-، وفهم حقيقته وأهدافه، وقراءة سيرة الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله)، فإنّ ذلك كلّه يبعدنا عن الموبقات والمفاسد، ويقرّبنا من الحقّ والهدى ورضوان الله -سبحانه وتعالى- أكثر فأكثر.
والحمد لله ربّ العالمين.
[1] تاريخ الإسلام، الذهبيّ، ج1، ص 193.
[2] سورة سبأ، الآية 28.
[3] سورة الأنبياء، الآية 107.
[4] سورة سبأ، الآية 28.
[5] سورة التوبة، الآية 33.
[6] سورة آل عمران، الآية 164.
[7] سورة البقرة، الآية 119.
[8] سورة الزمر، الآية 3.
[9] نهج البلاغة، ج2، ص 170.
[10] نهج البلاغة، ج1، ص66.
[11] سورة النحل، الآيتان 58-59
[12] سورة التكوير، الآيتان 8-9.
[13] سورة النساء، الآية 11.
[14] بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج101، ص91.
[15] مستدرك الوسائل، النوريّ الطبرسيّ، ج15، ص 116.
[16] كنز العمّال، المتقي الهنديّ، ج 16، ص 448.
[17] سورة الأنعام، الآية 151.
[18] سورة النساء، الآية 22.
[19] سورة البقرة، الآية 257.