محاور الخطبة:
- الشقي والسعيد
- ميراث الشهر الكريم
مطلع الخطبة:
قال الله -تعالى- في محكم كتابه: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ﴾[1].
الشقيّ والسعيد
أيّها الأحبة،
إنّه قد مضى شهر رمضان المبارك، تاركاً في نفوسنا زادًا عظيماً من الطاقة المعنويّة والروحيّة، وأثاراً طيّبة وجليلة، تمتزج فيها كلّ معاني الرقّة والمحبّة والتوجّه إلى الباري -سبحانه وتعالى-.
فمن كان مذنباً، كان له هذا الشهرُ محطّةَ توبةٍ واستغفار، ومن كان مطيعاً كان له محطّة استزادة وارتقاء، وبذلك كان شهر الرحمة والمغفرة والرضوان، وقد تفتّحت فيه أبواب الجنان وأغلقت أبواب النيران.
من أدّى ما عليه من قيام وصيام وذكر ودعاء كُتب من السعداء، ومن قصّر في ذلك كان حقيقاً به أن يكون من الأشقياء؛ ذلك أنّه قصّر بحقّ نفسه وضيّع عنها الكثير من البركات.
كان شهر رمضان، فرصة لتغيير ما في نفس الإنسان وأفعاله، وإنّنا نجد أغلب الناس تتحرّك فيه نحو التغيير وملازمة العادات الحسنة، التي يفقدها الكثيرون بشكل كبير بغيره من الأيام والشهور، سواء أكانت هذه العادات الحسنة عادات فرديّة تتعلّق بعلاقة المرء بربّه -سبحانه-، أم عادات اجتماعيّة وجماعيّة تحمل في طيّاتها معاني الإنسانيّة والمحبّة والألفة بين الناس.
فإذا كنّا ممّن أنعم الله عليهم من نيل بركات هذا الشهر الكريم، فإنّ ذلك يحتّم علينا أن نحافظ على ما سلكت به أنفسنا وجوارحنا من توجّه وعمل حسن، وأن يثبّت قلوبنا على ذلك وندعوه دوماً -سبحانه وتعالى- بأن: "يا مقلّب القلوب، ثبّت قلبي على دينك ودين ملائكتك، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة إنّك أنت الوهاب".
ميراث الشهر الكريم
أيّها الأحبة،
إنّ ما يغنمه الإنسان في شهر رمضان إنّما هو ميراث عظيم ورصيد كبير، عليه أن يستفيد منه في قابل أيامه. وإلّا يكون كمن ضرب الله بها المثل في قوله -تعالى-: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثً﴾[2].
فما سلكه الإنسان من عبادات وأعمال طيّبة وصار لها ملازماً في شهر رمضان، فإنّ عليه أن يعقد النية في الثبات عليها في ما بعده من الشهور، حتّى يصبح ملكة راسخة في قلبه لا يتزحزح عنها ولا يميل، ولنا أن نذكر بعض تلك الأعمال والمغانم التي ينبغي الحفاظ عليها والاستمرار بها:
1- التقوى:
إنّ من أعظم مغانم شهر رمضان المبارك، أنّ المرء فيه قد جهد في الابتعاد عن المحرّمات، واتّقى الله في الكثير من الأمور السيّئة، فمن ذاق حلاوة التقوى في هذا الشهر، مِنْ كفٍّ للبصر وحفظٍ للسمع وإمساكٍ للسان عن البذاءة والفحشاء وسوء الكلام، فحريٌّ بمثل هذا أن يستمر بما صار عليه، فإنّ للتقوى أثاراً عظيمة وجليلة، أوّلها أنّ صاحبها يرتقي عند الله -تعالى- ليكون من عداد الأولياء، قال -سبحانه-: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ﴾[3]. وما أعظم أن يكون المرء على ذلك عند الله!
2- الالتزام بالصلاة في وقتها:
وأيضاً، فإنّ شهر رمضان كان فرصة عظيمة للناس، حيث يسعَون لأن تكون صلاتهم في وقتها المحدّد، فلا يؤخّرونها ولا يؤجّلونها، وإنّ هذا من المسائل الهامّة التي أرشدنا إليها النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام).
عن الإمام عليّ (عليه السّلام): "لَيسَ عَمَلٌ أحَبَّ إلَى اللهِ جلّ جلاله مِنَ الصَّلاةِ؛ فَلا يَشغَلَنَّكُم عَن أوقاتِها شَيءٌ مِن أُمورِ الدُّنيا، فَإِنَّ اللهَ جلّ جلاله ذَمَّ أقوامًا فَقالَ: ﴿الَّذينَ هُم عَن صَلاتِهِم ساهونَ﴾؛ يَعني أنَّهُم غافِلونَ استَهانوا بِأَوقاتِها"[4].
3- صلاة الليل:
وممّا يلجأ إليه المؤمنون في شهر رمضان، أنّهم يلتزمون بأداء صلاة الليل، وهي من الصلوات العظيمة التي تترك في النفس البشريّة أثراً كبيراً يعمل على تغيير ما في داخل الإنسان وروحه، وقد امتدح الله -تعالى- الذين يجهدون في عبادته آناء الليل قائلاً -سبحانه-: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[5].
وقد أوصى الأنبياء والمعصومون بصلاة الليل، مؤكّدين على أهمّيّتها وعظمتها، ومن ذلك ما ورد عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه و آله) فِي وَصِيَّتِهِ للإمام عليّ (عليه السَّلام) قائلاً له: "يَا عَلِيُّ، عَلَيْكَ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ، وَعَلَيْكَ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ، وَعَلَيْكَ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ"[6].
وكذلك عَنِ الإمام جعفر الصادق (عليه السَّلام) أنّهُ قَالَ: "كَانَ فِيمَا نَاجَى اللَّهُ بِهِ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ (عليه السَّلام) أَنْ قَالَ لَهُ: يَابْنَ عِمْرَانَ: كَذَبَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُحِبُّنِي فَإِذَا جَنَّهُ اللَّيْلُ نَامَ عَنِّي، أَلَيْسَ كُلُّ مُحِبٍّ يُحِبُّ خَلْوَةَ حَبِيبِهِ؟! هَا أَنَا يَابْنَ عِمْرَانَ مُطَّلِعٌ عَلَى أَحِبَّائِي إِذَا جَنَّهُمُ اللَّيْلُ حَوَّلْتُ أَبْصَارَهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ، وَمَثَّلْتُ عُقُوبَتِي بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ يُخَاطِبُونِّي عَنِ الْمُشَاهَدَةِ، وَيُكَلِّمُونِّي عَنِ الْحُضُورِ.
يَابْنَ عِمْرَانَ، هَبْ لِي مِنْ قَلْبِكَ الْخُشُوعَ، وَمِنْ بَدَنِكَ الْخُضُوعَ، وَمِنْ عَيْنَيْكَ الدُّمُوعَ، وَادْعُنِي فِي ظُلَمِ اللَّيْلِ، فَإِنَّكَ تَجِدُنِي قَرِيباً مُجِيباً"[7].
4- ريادة المساجد:
إنّ العديد من الرجال والشباب يتوجّهون في شهر رمضان إلى المساجد لإقامة الصلوات والدعاء بين يدي الله، وإنّ هذا من أهمّ ما يغنمه الإنسان في هذا الشهر الكريم، والذي ينبغي المدوامة عليه في أيّام السنة كافّة؛ فإنّ لبيوت الله والصلاة فيها عظيم القدر عند الله -سبحانه-.
عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) -في التوراة مكتوب-: "إنّ بيوتي في الأرض المساجد، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي، ألا إنّ على المزور كرامة الزائر، ألا بشِّر المشَّائين في الظلمات إلى المساجد بالنور الساطع يوم القيامة"[8].
5- كظم الغيظ:
إنّ من دروس شهر رمضان، أن يكظم المرء غيظه ويلجم غضبه، ويستعيض بدلاً عن الغضب بالسماحة والعفو ويقابل الجهل بالحلم، والإساءة بالإحسان، حتّى يصبح ذلك ملكة راسخة في قلبه، ونحن نلمس في شهر رمضان هذه الحالة، حيث تقلّ فيه المشاجرات والخلافات، عكس ما يتصوّره بعضهم ممّن يقول إنّ الصيام يزيد من حالة الغضب والانفعال السلبيّ.
وقد مدح الله -تعالى- الكاظمين للغيظ، عند وصفه المؤمنين، فقال -سبحانه-: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامً﴾[9].
وعن أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام)، أنّه سمع رجلاً يشتم قنبراً، وقد رام قنبر أن يردّ عليه، فناداه أمير المؤمنين (عليه السلام): "مهلاً يا قنبر، دع شاتمك مهانا ترضِ الرحمن، وتسخطِ الشيطان، وتعاقب عدوّك. فوالذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، ما أرضى المؤمن ربّه بمثل الحلم، ولا أسخط الشيطان بمثل الصمت، ولا عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه"[10].
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "إذا وقع بين رجلين منازعة، نزل ملكان، فيقولان للسفيه منهما: قلت وقلت وأنت أهل لما قلت، ستُجزى بما قلت ويقولان للحليم منهما: صبرت وحلمت، سيغفر الله لك إن أتممت ذلك، قال: فإن ردّ الحليم عليه ارتفع الملكان"[11].
6- مساعدة الفقراء:
وإنّ من العادات والأعمال الطيّبة التي يستفيدها المرء في شهر رمضان، أن يشعر مع المحتاجين والفقراء، فيحرص في الشهر الكريم على تقديم يد العون لهم بما أوتي من سعة ورزق، فلا بدّ هنا أن يتنبّه إلى ضرورة الاستمرار بهذا الفعل الحسن، وأن لا يكون الاهتمام بهذا الجانب مقتصراً على شهر رمضان فحسب.
7- إطعام الطعام:
ومن الأعمال الطيّبة أيضاً، التي لها جزيل الأجر والثواب عند الله -تعالى- هو إطعام الطعام، وقد يدأب الناس في شهر رمضان لإعداد الموائد وإطعام المؤمنين، أغنياء كانوا أم فقراء، وهذا ممّا ينبغي الاستمرار فيه في ما بعد الشهر الكريم؛ ذلك أنّه ورد في العديد من النصوص التي تؤكّد على أهمّيّته ومحبوبيّته عند الله، منها أنّ الإمام الباقر (عليه السلام) ولد له غلامان جميعًا "توأم"، فأمر زيد بن عليّ أن يشتري له جزورين للعقيقة، وكان زمن غلاء، فاشترى له واحدة وعسرت عليه الأخرى، فقال لأبي جعفر (عليه السلام): قد عسرت عليّ الأخرى، فتصدّق بثمنها، فقال: "لا، اطلبها حتّى تقدر عليها؛ فإنّ الله -عزّ وجلّ- يحبّ إهراق الدماء وإطعام الطعام"[12].
وعن معمر بن خلاد، قال: كان أبو الحسن الرضا (عليه السلام) إذا أكل أتى بصحفة[13] فتوضع بقرب مائدته، فيعمد إلى أطيب الطعام ممّا يؤتى به، فيأخذ من كلّ شيء شيئًا، فيضع في تلك الصحفة، ثمّ يأمر بها للمساكين، ثمّ يتلو هذه الآية: ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ﴾، ثمّ يقول: "علم الله -عزّ وجلّ- أنّه ليس كلّ إنسان يقدر على عتق رقبة، فجعل لهم السبيل إلى الجنّة"[14].
8- الإقلال من الطعام:
في شهر الصوم، يعتاد المرء على قلّة الطعام، وإنّ لذلك أثاراً معنويّة هامّة، علاوة على أثارها الصحيّة، فإنّ قلّة الطعام مدعاة للتفكّر السليم، والتوجّه نحو الباري -سبحانه وتعالى-، وممّا ورد في ذلك عن لسان أمير المؤمنين (عليه السلام): "لو شئتُ لاهتديتُ الطريق إلى مصفّى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القزّ... ولكن هيهات أن يغلبني هواي أو يقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة"[15].
ومن جميل ما ورد عن الإمام الحسن (عليه السلام) قال:
لكسرة من خسيس الخبز تشبعني *** وشربة من قراح الماء تكفيني
وطمرة من رقيق الثوب تسترني *** حيّاً وإنْ متّ تكفيني لتكفيني[16]
والحمد لله ربّ العالمين
[1] سورة البقرة، الآية 197.
[2] سورة النحل، الآية 92.
[3] سورة يونس، الآيات 62-64.
[4] وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج4، ص 113.
[5] سورة السجدة، الآيتان 16 و17.
[6] من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج1، ص484.
[7] الأمالي، الشيخ الصدوق، ص438.
[8] من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج1، ص239.
[9] سورة الفرقان، الآية 63.
[10] الأمالي، الشيخ المفيد، ص 118.
[11] الكافي، الشيخ الكلينيّ، ج2، ص 112.
[12] المصدر نفسه، ج 6، ص25.
[13] وعاء منبسط.
[14] الكافي، الشيخ الكلينيّ، ج4، ص 52.
[15] نهج البلاغة، ص 417.
[16] بحار الأنوار، ج43، ص 341.