محاور الخطبة
- السعادة الدنيويّة والأخرويّة
- تحيّن فرص السعادة
- موجبات تحقّق السعادة الدنيويّة
- علامات السعادة
- مفاهيم حول السعادة
- ثقافة المادّيّة الموهمة
مطلع الخطبة
الصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.
قال الله -تعالى- في محكم كتابه: ﴿يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾[1].
وقال -عزّ وجلّ-: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[2].
السعادة الدنيويّة والأخرويّة
أيّها الأحبّة،
في هذه الآيات المباركة، إشارة إلى شكلين من أشكال السعادة التي يطمح إليها كلّ امرئ عاقل، بل والتي تُعدّ ضالّة كلّ إنسان في هذه الحياة الدنيا، فنرى جميع الناس يجهدون ويبذلون قصارى جهدهم في سبيل تحقيقها.
والشكلان هذان هما السعادة التي ترتبط بالآخرة، والسعادة التي ترتبط بالدنيا.
وبهذا يختلف الناس بعضهم عن بعض؛ فمنهم من يرى سعادته تنحصر في أطايب هذه الدنيا وملذّاتها، ولا ينظر فيها إلى ما بعدها، وهذه السعادة هي السعادة الوهميّة، التي لا يلبث المرء إلّا أن يكتشف وهمها، وبأنّها زائلة بزوال ما كان بين يديه ولو بعد حين.
أمّا الصنف الآخر، فإنّهم يرَون السعادة فيما يرتبط باليوم الآخر، وإنّ كلّ ما له ارتباط بتلك السعادة الأبديّة، إنّما يكون هو بنفسه سعادتهم واطمئنان قلوبهم، وهذه هي السعادة الحقيقيّة.
أيّها الأحبّة،
لقد جاء الإسلام بنظام شامل، فوضع للإنسان من القواعد والنظم ما يرتّب له حياته الدنيويّة والأخرويّة، وبذلك ضمن للإنسان ما يحقّق له جميع مصالحه الدنيويّة والأخرويّة.
السعادة الدنيويّة: حيث شرّع الأحكام والضوابط التي تكفل للإنسان سعادته الدنيويّة، سواء أكان فيما يتعلّق بعلاقته مع الناس أم مع نفسه.
ومن أمثلة تلك الأحكام والضوابط: ما حرّمه من معاصٍ مختلفة، كشرب الخمر واستماع الغناء ولعب القمار وتعاطي المخدّرات وغير ذلك.
وأيضاٍ ما أوجبه من صلاة وصيام وصلة رحم وما شاكل من الواجبات، التي ترجع آثارها الإيجابيّة على نفس الإنسان.
إنّ تلك الأحكام كلّها هي لضمان حياته الهانئة، مع تأكيده على أنّ الحياة الدنيا ليست سوى سبيل للحياة الأبديّة.
قال -سبحانه-: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾[3].
وقال -تعالى-: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَ﴾[4].
السعادة الأخرويّة (السعادة الحقيقيّة): وهي السعادة الدائمة الخالدة، وتترتّب على ما يقدّمه الإنسان بن يدي الله -تعالى- من عمل صالح في الحياة الدنيا، قال -سبحانه وتعالى-: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[5] ، وقال -تعالى-: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ﴾[6].
وعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «السعيد من اختار باقيةً يدوم نعيمها، على فانية لا ينفد عذابها، وقدّم لما يقدم عليه ممّا هو في يديه، قبل أن يخلّفه لمن يسعد بإنفاقه، وقد شقيَ هو بجمعه»[7].
تحيّن فرص السعادة
إنّ الله -سبحانه وتعالى-، وبصفته الرحمن الرحيم، والذي يغفر الذنوب جميعاً إلّا أن يُشرك به، فإنّه -سبحانه- يمدّ الإنسان برحمته في كثير من الأحيان؛ للرجوع إليه والتوبة بين يديه.
فإذا كان الإنسان يعيش حياة الشقاء، فقد يقرّب له بعض الأمور التي تنشله ممّا هو فيه، كأن يقرّب إليه عملاً فيه خير ونفع للناس، والقيام به يرضي الله -سبحانه وتعالى-، فلا ينبغي للإنسان حينئذٍ أن يمتنع عن الإقدام على هذا الفعل الذي ربّما يوجب السعادة الأبديّة.
عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «إنّ لله في أيّام دهركم نفحات، ألا فتَعرَّضوا لها؛ فلعلّ أحدكم تصيبه نفحة، فلا يشقى بعدها»[8].
موجبات تحقّق السعادة الدنيويّة
أيّها الأحبّة،
ثمّة بعض الأمور التي تسهم في كسب السعادة والطمأنينة النفسيّة، وربّما يكون المرء في أحلك الظروف وأشدّها، إلّا أنّه يستطيع من خلال ذاك الشعور النفسيّ أن يتخطّاه بهدوء بال، ومن تلك الأمور:
1- الإيمان والعمل الصالح
قال الله -تعالى-: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾[9].
وعن الإمام عليّ (عليه السلام): «بالإيمان يُرتقى إلى ذروة السعادة»[10].
2- الإكثار من ذكر الله -تعالى-
قال الله -عزّ وجلّ-: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾[11].
بل إنّ الغفلة عن ذكر الله -عزّ وجلّ- تُوجب الشقاء في الحياة، فيعيش الإنسان في حالة من الضيق والبؤس، قال -سبحانه وتعالى-: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكً﴾[12].
3- مجالسة العلماء
عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «جالس العلماء، تسعد»[13].
ذلك أنّ مجالسة العلماء فيها نفع وفائدة على مستوى العلم، وعلى مستوى القلب.
4- محاسبة النفس
عنه أمير المؤمنين (عليه السلام): «من أجهد نفسه في إصلاحها، سعد»[14]، و«من أهمل نفسه في لذّاتها، شقيَ وبعد»[15].
علامات السعادة
إنّ لسعادة الإنسان علامات، يمكن ذكر بعضها:
1- قصر الأمل في الدنيا
عن النبيّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله): «إذا استحقّت ولاية اللَّه والسعادة، جاء الأجل بين العينين، وذهب الأمل وراء الظهر، وإذا استحقّت ولاية الشيطان والشقاوة، جاء الأمل بين العينين، وذهب الأجل وراء الظهر»[16].
2- دوام العبادة
عن أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام): «دوام العبادة برهان الظفر بالسعادة»[17].
3- إخلاص العمل
وعنه (عليه السلام): «أمارات السعادة إخلاص العمل»[18].
وقد قال -سبحانه وتعالى- في من أفسدوا أعمالهم: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعً﴾[19].
مفاهيم حول السعادة
1- السعادة ليست اللذّة
عادةً ما يخلط الناس بين السعادة واللذّة، فيحسبون أنّ السعادة هي فيما اقترن باللذّة فحسب، فما لم توجد اللذّة، لا توجد السعادة، وهذا في الحقيقة وهم واضح، والدليل عليه أنّ اللذّة تذهب بذهاب موجبها، ولكنّ السعادة تتعدّاها، فليست هي أمراً آنيّاً مؤقّتاً.
إنّ اللذّة، وإن كان يشعر المرء بالسعادة في لحظاتها، إلّا أنّها ربّما توجب الشقاء بعدها، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «وكم من لذّة ساعة قد أورثت حزناً طويلاً»[20].
2- السعادة ليست بالراحة
فقد يكون موجب السعادة أمراً شديداً، فيه ألم وتعب وكدّ وجهد، ومع ذلك فإنّ صاحبه يشعر بسعادة تامّة، كما هو الحال مع ما كان يفعله الإمام زين العابدين (عليه السلام)، حيث كان يحمل صرر الطعام إلى الفقراء ليلاً، حتّى ظهرت ندبات أثر الصرر على ظهره، ومع ذلك كان سعيداً، وهذا يعني أنّ السعادة أمر معنويّ روحيّ، لا ينحصر باللذّة الجسديّة.
3- السعادة هي انسجام بين القول والفعل
من أهمّ أسباب السعادة أن يقترن قول الإنسان بفعله، وكأنّ هذا الأمرَ أمرٌ فطريّ، فنجد المنافقين في حالة من البؤس وتأنيب الضمير، قال الله -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾[21].
ثقافة المادّيّة الموهمة
إنّ ما تقدّم من آيات وأحاديث شريفة، لا يُبقي شكّاً أو ريباً في أنّ السعادة الحقيقيّة تكمن فيما يرتبط بالروح والقلب، وأنّ اللذّة الجسديّة، التي تشمل حواسّ الإنسان، ليست سوى لذّةً طارئةً وعارضةً، وإنّ ثقافة المادّيّة التي تنتشر اليوم بواسطة بعض وسائل الإعلام، والتي تعظّم من شأن اللذائذ الشهويّة والغرائزيّة، إنّما تحرف بوصلة سعادة الإنسان، فتحرمه ممّا هو أجلّ من ذلك وأعظم، ألا وهو الاطمئنان الروحيّ والقلبيّ، الذي لا يحصل عليه المرء إلّا من خلال ارتباطه بالله، وبالمبادئ الإنسانيّة التي أمضاها الله وأمرنا بها -سبحانه-.
[1] سورة هود، الآيات 105-108.
[2] سورة النحل، الآية97.
[3] سورة النحل، الآية 97.
[4] سورة القصص، الآية 77.
[5] سورة النحل، الآية 32.
[6] سورة النحل، الآية 30.
[7] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج74، ص188.
[8] البيهقيّ، فضائل الأوقات، ص10.
[9] سورة الأنعام، الآية 82.
[10] الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص189.
[11] سورة الرعد، الآية 28.
[12] سورة طه، الآية 124.
[13] الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص221.
[14] المصدر نفسه، ص445.
[15] المصدر نفسه، ص 445.
[16] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج3، ص 258.
[17] الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص 251.
[18] المصدر نفسه، ص 70.
[19] سورة الكهف، الآيتان 103- 104.
[20] الشيخ المفيد، الأمالي، ص 42.
[21] سورة الصفّ، الآيتان 2و 3.