محاور الخطبة
- الولادة الميمونة
- شموليّة شخصيّة الإمام عليّ (عليه السلام)
- من معالم عدالته (عليه السلام)
- عدم استغلال المنصب
- العدالة في الأموال الشرعيّة
مطلع الخطبة
عن النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله): «إنّ اللّه خلق الأنبياء من أشجار شتّى، وخُلقتُ أنا وعليّ من شجرة واحدة»[1].
الولادة الميمونة
أيّها الأحبّة،
في مثل هذه الأيّام في الثالث عشر من شهر رجب الأصبّ، وبعد عام الفيل بثلاثين سنة، وُلِد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وكانت ولادته المباركة في جوف الكعبة المشرّفة، وبهذا كان أمير المؤمنين الوحيد الذي وُلِد فيها، ولم يسبقه أو يلحقه في ذلك أحد.
وإنّ هذا من التشريف والتكريم الإلهيّ لهذا الرجل العظيم، الذي خلف أشرف خلق الله -تعالى- في خلقه ودينه وأدبه وعلمه وشجاعته... مستلهماً ومتّبعاً إيّاه في المبادئ الإنسانيّة الرفيعة والجليلة كلّها، حتّى قال هو (عليه السلام) لشدّة ملازمته إيّاه: «وأنا من رسول اللّه، كالصنو من الصنو، والذراع من العضد»[2].
شموليّة شخصيّة الإمام عليّ (عليه السلام)
إنّ ما تميّزت به شخصيّة أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّها كانت جامعةً لمعالم الخُلِق الرفيع كافّة، والآداب الإنسانيّة المتعالية كلّها، والفكر المحكم الثاقب، حتّى استطاع بما يحمله من صفات أن يجمع القلوب نحوه، ليكون ملهم الكثيرين في جميع الأزمان والأمصار، وعلى جميع الأصعدة.
وممّا تميّزت به شخصيّته (عليه السلام)، تلك الصفة الإنسانيّة التي ينشدها جميع بني آدم، بل وضالّة المجتمعات البشريّة في هذا الزمن، ألا وهي صفة العدالة.
نبذة تاريخيّة
إنّ صفة العدالة التي اتّصف بها أمير المؤمنين لم تكن مقتصرةً على حياته (عليه السلام) بعد أن تسلّم زمام الحكم وأصبح باسط اليد، إنّما كانت صفةً ملازمةً له في عمره الشريف كلّه، وفي معاملاته كلّها.
إلّا أنّ هذه الصفة برزت وظهرت معالمها بشكل قويّ، خلال تسلّمه زمام الأمر، حيث كانت المظاهر السلبيّة قد حلّت بالأمّة الإسلاميّة، على صعيد طبقة الساسة والتجّار وأصحاب الأموال والأغنياء، وعلى صعيد القضاة؛ ما جعله (عليه السلام) ينتفض ويقف في وجه ذلك الفساد كلّه، ومعالم الظلم والاستبداد والتمييز العنصريّ والفئويّ والطبقيّ كلّها.
كيف لا؟! وهو الذي أعلن هدفه السامي في أكثر من موقف قائلاً: «اللَّهُمَّ، إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلْطَانٍ، وَلَا الْتِمَاسَ شَيْءٍ مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ، وَلَكِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ وَنُظْهِرَ الْإِصْلَاحَ فِي بِلَادِكَ؛ فَيَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ، وَتُقَامَ الْمُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ»[3].
وقوله (عليه السلام): «وَاللَّهِ، لَأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً، أَوْ أُجَرَّ فِي الْأَغْلَالِ مُصَفَّداً، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِبَادِ، وَغَاصِباً لِشَيْءٍ مِنَ الْحُطَامِ، وَكَيْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَى الْبِلَى قُفُولُهَا، وَيَطُولُ فِي الثَّرَى حُلُولُهَا؟!»[4].
هكذا كانت مبادئه (عليه السلام) التي تؤسّس لنا نظرةً واضحةً في معالم العدالة الاجتماعيّة التي عمل عليها عند تسلّمه الحكم.
من معالم عدالته (عليه السلام)
عمل (عليه السلام) للتأسيس للعدالة الاجتماعيّة بشكل متجذّر ومحكم، لا يقتصر فيه على توزيع المال والعطايا فحسب، إنّما أيضاً في الحكم والوظائف والحياة الشخصيّة وغير ذلك من أمور.
لذلك، فإنّ نظرته إلى العدالة نظرة شموليّة تشمل دقائق الأمور وعظائمها، خاصّةً في ما يتعلّق بالحكم والتجّار والمال والإدارة.
في الحكم
فإنّنا نجد توصياته لواليه مالك الأشتر مشبعةً في أمور العدالة: «وليكن أحبّ الأمور إليك أوسطها في الحقّ، وأعمّها في العدل، وأجمعها لرضا الرعيّة؛ فإنّ سخط العامّة يجحف برضا الخاصّة، وإنّ سخط الخاصّة يُغتفر مع رضا العامّة»[5].
البطانة والحاشية
يبيّن (عليه السلام) أنّ على الحاكم أن يتنبّه من بطانته وحاشيته، فلا ينجرّ إلى السيّئين منهم، ولا يبنهر بإطرائهم إيّاه، حيث إنّ ذلك مدعاة للظلم وعدم الإنصاف: «ليكن آثرهم عندك أقولهم بمرِّ الحقّ لك... ثمّ رضّهم على أن لا يطروك ولا يبجّحوك بباطل لم تفعله؛ فإنّ كثرة الإطراء تُحدث الزهو وتدني من العزّة»[6].
الحاكم قدوة
وكان يعتبر (عليه السلام) أن منشأ العدالة من الحاكم أن يكون قدوةً للرعيّة في ما يدعوهم إليه: «ما أحثّكم على طاعة إلّا وسبقتكم إليها، ولا أنهاكم عن معصية إلّا وأتناهى قبلكم عنها»[7].
عدم استغلال المنصب
وكذلك في عدم استغلال صاحب الحكم لمنصبه في سبيل جمع المال والأملاك، بل كان يعدّ ذلك من الخيانة: «يا أهل الكوفة، إن خرجت من عندكم بغير رحلي وراحلتي وغلامي، فأنا خائنٌ»[8].
إطراء الحكّام
إنّ من مظاهر عدل الحاكم أن لا يميّز نفسه عن الناس، وأبرز مصاديق ذلك، أن لا يرضى بإطراء الناس إيّاه؛ لذلك كان يقول: «فَلَا تُكَلِّمُونِي بِمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ، وَلَا تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ»[9].
ويُروى أنّه أقبل عليه أحد الناس يمشي معه، وهو (عليه السلام) راكب، فقال (عليه السلام): «ارْجِعْ؛ فَإِنَّ مَشْيَ مِثْلِكَ مَعَ مِثْلِي فِتْنَةٌ لِلْوَالِي، وَمَذَلَّةٌ لِلْمُؤْمِنِ»[10].
العدالة في الأموال الشرعيّة
إنّ من العدالة أن تُوزّع الحقوق على المواطنين وأبناء المجتمع بالعدل والإنصاف، وأن لا يكون هناك تمييز لجهة قرابة أو أيّ شكل من أشكال المحسوبيّات، كما يحدث في بلداننا هذه الأيّام، ولشدّة تقواه ودقّته، فقد رفض (عليه السلام) إعطاء عبد اللّه بن زمعة؛ لأنّه لم يُشارك في العمل قائلاً له: «إنّ هذا المال ليس لي ولا لك، وإنّما هو فيء المسلمين وجلب أسيافهم، فإن شركتهم في حربهم كان لك مثل حظّهم، وإلّا فجناة أيديهم لا تكون لغير أفواههم»[11].
في ضرائب الدولة
كان (عليه السلام) ينظر إلى أنّ على الدولة أن تقوم بما عليها من واجبات تجاه الناس والمواطنين، فلا ينبغي أن تفرض الدولة الضرائب على الناس دون أن تقدّم لهم ما يصلح حياتهم، سواء أكان على الصعيد الصحيّ أو الإنمائيّ أو التربويّ وما شاكل ذلك؛ لهذا كان يقول لمالك الأشتر: «وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج؛ لأنّ ذلك لا يُدرك إلّا بالعمارة. ومن طلب الخارج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلّا قليلاً»[12].
في محاسبة الفاسدين
ليست العدالة مجرّد تنظير وأفكار، إنّما هي فعل وتطبيق، لا بدّ للقيّم على الدولة من أن يسعى في سبيل حماية دولته ومجتمعه من الفاسدين، الذين ينهبون أموالهم وأموال الدولة.
من هنا لم يغفل الإمام (عليه السلام) في الاقتصاص من الفاسدين، قائلاً لأحد الولاة: «بلغني أنّك جرّدت الأرض فأخذت ما تحت قدميك، وأكلت ما تحت قدميك؛ فارفع إليّ حسابك!»[13].
وعنه (عليه السلام): «وأيم اللّه، لأنصفنّ المظلوم من ظالمه، ولأقودنّ الظالم بخزامته[14]، حتّى أورده منهل الحقّ وإن كان كارهاً»[15].
مواساة الفقراء
ومن مصاديق العدالة الاجتماعيّة أن يواسي أهل الحكم الفقراء والمساكين في عيشهم، وما أروع قوله (عليه السلام) في ذلك: «أأقنع من نفسي بأن يُقال: أمير المؤمنين، ولا أشاركهم مكاره الدهر، أو أكون أسوةً لهم في جشوبة العيش؟!»[16].
في التوظيف
إنّها الطامّة الكبرى التي يعيش تحت نيرها الكثيرون في أوطاننا، ألا وهي المحسوبيّات التي تحرم أصحاب الخبرة والكفاءة من نيل وظيفة هنا أو هناك، ليحلّ مكانهم من ليس أهلاً لذلك، لمجرّد أنّهم أصحاب قرابة لذي الشأن الذي يملك زمام الأمور والسلطة.
فلنسمع أمير المؤمنين (عليه السلام) ماذا يقول لمالك الأشتر: «ثمّ انظر في أمور عمّالك، فاستعملهم اختباراً، ولا تولّهم محاباةً وإثرةً، ثمّ تفقّد أعمالهم، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم!»[17].
هذه بعضٌ من معالم العدالة الاجتماعيّة في شخصيّة الإمام عليّ (عليه السلام)، والتي لا يمكن اقتصارها في مدّة وجيزة من الوقت، إلّا أنّه يمكننا أن نستلهم منها الكثير من العبر، ما يدفعنا للعمل لأن نكون كلٌّ من موقعه حاملاً لواء العدالة في ما بينه وبين خلق الله -تعالى-.
توصية
- نوصي أحبّتنا وأهلنا المؤمنين باتّباع الإجراءات الصحيّة اللازمة، والتي يرشدنا إليها أهل الاختصاص في الطبّ، للوقاية من فيروس كورونا، وإنّ هذا من الأمور الضروريّة، بل الواجبة على من تظهر عليه علامات الإصابة بهذا الفيروس، أو يُحتمل إصابته به.
- ونلفت عناية الأخوة والأخوات المؤمنين، إلى الأخذ بتوصية الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) بقراءة الدعاء السابع من أدعية الصحيفة السجّاديّة، لدفع البلاء والملمّات التي تصيب أمّتنا.
[1]العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 15، ص 20.
[2]نهج البلاغة، ج3، ص3، ص 73.
[3]المصدر نفسه، ج2، ص 13.
[4]المصدر نفسه، ج2، ص 216.
[5]المصدر نفسه، ج3، ص 86.
[6]المصدر نفسه، ج3، ص 88.
[7]المصدر نفسه، ج2، ص 90.
[8]الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، ج15، ص 109.
[9]نهج البلاغة، ج2، ص 201.
[10]نهج البلاغة، ج4، ص77.
[11]العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج34، ص 308.
[12]نهج البلاغة، ج3، ص 96.
[13]المصدر نفسه، ج3، ص 64.
[14]الخزامة -بكسر الخاء- من خزم البعير -بتشديد الزاي- إذا جعل في جانب منخره الخزام أو الخزامة، وهي حلقة يشدّ فيها الزمام.
[15]نهج البلاغة، ج2، ص 19.
[16]المصدر نفسه، ج3، ص 72.
[17]المصدر نفسه، ج3، ص 95.