الصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
إنّ للصبر مراتب متعدّدة، ومن تلك المراتب أن يصبر المرء على ما يصيبه من ابتلاءات ومصائب، سواء أكانت تلك الابتلاءات ترتبط بجسده من مرض ونحوه، أم ترتبط بماله وحياته الشخصيّة بشكل عامّ.
وليس إزاء ما يصيب المؤمن من ابتلاءات، إلّا أن يصبر عليها، ويثبت في مقام الألم والحزن والضيق والعسر؛ وبهذا يستطيع تجاوز ما يصيبه ما لو لم يكن بيده حيلة ولا قوّة في الخروج ممّا هو فيه.
ومن هنا، جاءت الآيات القرآنيّة المباركة، والأحاديث الورادة عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام)، لتؤكّد لنا أهمّيّة الصبر، وضرورة الثبات في مواطن الابتلاءات والمصائب.
قال -سبحانه-: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾[1].
فالبلاء أمر محتوم، لا يستطيع أيّ إنسان في هذا الكون أن يتفلّت منه إذا ما قُدِّر له، مهما كان قويّاً وجبّاراً، وها هو العالم اليوم، يعيش في حالة من الضياع والتيه بسبب فيروس بسيط لا يُرى بالعين، ولم يستطع مع ما فيه من طاقات وقدرات أن يلجم ذاك الفيروس.
فإذا كان الأمر محتوماً، وليس بوسع الإنسان أن يفعل شيئاً، فليس أمامه إلّا الصبر، فهو ما يجعله في حالة ثبات وعدم تزلزل.
تحقّق مقام الصبر
وإنّ أبلغ الطرق لتحقّق الصبر عند الإنسان، هو أن يتحرّر من عبوديّة النفس الأمّارة بالسوء، فالإنسان إذا أصبح مقهوراً لهيمنة الشهوة والميول النفسيّة، كان رقّه وعبوديّته وذلّته بقدر مقهوريّته لتلك السلطة الحاكمة عليه -ومعنى العبوديّة لشخصٍ هو الخضوع التّام له وإطاعته-، والإنسان المطيع للشهوات المقهور للنفس الأمّارة يكون عبداً منقاداً لها. والتي كلّما أوحت له بشيءٍ أطاعها وخضع لها منتهى الخضوع، حتّى يغدو عبداً خاضعاً ومطيعاً أمام تلك القوى الحاكمة. ويبلغ به الأمر إلى مستوى يقدّم فيه طاعتها على طاعة خالق الخلق ومالك الملك -سبحانه-.
أمّا كيف يصل إلى التحرّر هذا؟
فهو في أمرين:
الأوّل: في العمل
والثاني: في العلم
أمّا العمل: فيكون بالرياضة الشرعيّة وبمخالفة النفس فترةً يتمّ فيها صرف النفس عن حبّها المفرط للدنيا والشهوات والأهواء، حتّى تتعوّد هذه النفس على الخيرات والكمالات.
أمّا العلم: فيتمّ بتلقين النفس، بأنّ الناس الآخرين يضاهونه في الفقر والضعف والحاجة والعجز، وأنّهم يشبهونه أيضاً في الاحتياج إلى الغنيّ المطلق القادر على جميع الأمور الجزئيّة والكلّيّة. وأنّهم غير قادرين على إنجاز حاجة أحدٍ أبداً، وأنّهم أتفه من أن تنعطف النفس إليهم ويخشع القلب أمامهم. وإنّ القادر الذي منحهم العزّة والشرف والمال والوجاهة قادرٌ على أن يمنح الجميع.
ثمرات الصبر ونتائجه
1. ثبات النفس واستقامتها
إنّ للصبر على النوائب أثاراً عظيمة في نفس الإنسان، حيث تجلعه أشدّ قوّةً أمام بلاءات الحياة الدنيا، وتجعل روحه مصقلة ثابتة غير متزلزلة، ما يتيح له أن يقتحم الحياة بكلّ قوّة، وأن لا يكون نصب عينيه في ذلك إلا رضا الله -سبحانه-.
ومن هنا، تبرز صفة الصبر عند صاحبه، في سلوكه وأفعاله.
قال الشيخ نصير الدين الطوسيّ في توصيف حقيقة الصبر: «الصّبر حبس النفس عن الجزع عند المكروه. وهو يمنع الباطن عن الاضطراب، واللسان عن الشّكاية، والأعضاء عن الحركات غير المعتادة»[2].
2. تثبيت الإيمان في النفس
عن الإمام الصادق (عليه السلام): «الصّبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد، وكذلك إذا ذهب الصّبر ذهب الإيمان»[3].
3. الأجر والثواب
قال -سبحانه- في الآية آنفة الذكر: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾.
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «... الصّبر يعقب خيراً؛ فاصبروا ووطّنوا أنفسكم على الصّبر تؤجَروا»[4].
وعنه (عليه السلام) أيضاً: «من ابتُلي من المؤمنين ببلاءٍ فصبر عليه، كان له مثل أجر ألف شهيد»[5].
4. خير الدنيا
إنّ عاقبة الصبر في الحياة الدنيا، هي خير الدنيا وعافيتها، ولنا في ذلك مثال عظيم، وهو ما جرى مع النبيّ يوسف وأبيه يعقوب (عليهما السلام).
5. العون والمساندة في البرزخ
للصبر وجودٌ وأثرٌ برزخيّان، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «إذا دخل المؤمن في قبره، كانت الصلاة عن يمينه، والزكاة عن يساره، والبرّ مطلّ عليه، ويتنحّى الصّبر ناحية، فإذا دخل عليه الملكان اللذان يليان مساءلته، قال الصّبر للصلاة والزكاة والبرّ: دونكم صاحبَكم، فإن عجزتم عنه فأنا دونه»[6].
[1] سورة البقرة، الآية 155.
[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج68، ص68.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص87.
[4] المصدر نفسه، ج2، ص89.
[5] المصدر نفسه، ج2، ص92.
[6] المصدر نفسه، ج2، ص90.