الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
قال الله -تعالى- في محكم كتابه: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّـهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّـهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾[1].
أيّها الأحبّة،
ما زلنا نعيش عبقَ عاشوراء وواقعةَ الطفّ الأليمة، والتي أردفتنا بمفاهيم جليلة وعظيمة، لها أن تكون دستورنا في السير على خُطى الأولياء الأطهار، نلتزم بذلك طريقَ الحقّ والعدل، والشجاعة والإرادة، في مواجهة الظالمين أينما حلّوا.
ولأنّ لعاشوراء تلك العظمة كلّها وأكثر، فقد صُوِّبت عليها سهامُ المغرِضين والمحرِّفين للحقائق، ظنّاً منهم بأنّها ستنتفي وينتفي أثرُها في قلوب المؤمنين.
وقد تجسّدت أخطرُ أشكال تضليل المغرِضين حول واقعة عاشوراء في ما أقدم عليه الأمويّون من دسٍّ لرواياتٍ وأحاديثَ ضعيفة، نُسِب بعضُها إلى النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله) زوراً، بغيةَ تحريف أذهان الناس عن حقائق تلك الواقعة، وتحويل يوم العاشر من المحرّم، من يوم حزنٍ وأسىً إلى يوم فضلٍ وبركة!
وممّا أثاروه من مفاهيمَ مغلوطة:
1. إنّ الإمام الحسين (ع) ثار من أجل طلب الحكم والسلطة، وكان خروجُه خروجاً على الخليفة الواجب الطاعة! وما جرى عليه إنّما جرى مجرى من يخرج عن طاعة الحاكم!
وفي ذلك روى الطبريّ قال: لمّا دنا عمرو بن الحجّاج -أحد قادة الجهاز الحاكم الأمويّ في الكوفة- من أصحاب الحسين (عليه السلام)، كان يقول: يا أهلَ الكوفة، الزموا طاعتَكم وجماعتَكم، ولا ترتابوا في قتلِ من مرقَ من الدين وخالف الإمام، فقال له الحسين (عليه السلام): «يا عمرو بن الحجاج، أَعلَيَّ تُحرِّض الناس؟! أَنحن مرقنا من الدين وأنتم ثبتُم عليه؟! أما والله، لتعلمُنَّ لو قد قُبِضَت أرواحُكم ومُتُّم على أعمالِكم أيّنا مرقَ من الدين، ومن هو أولى بِصَلْي النار»[2].
ومنها ما رواه البخاريّ في حديث منسوب إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بأنّه قال: «أوّلُ جيش من أمّتي يغزون مدينة القيصر، مغفورٌ له»[3]، وبأنّ من هؤلاء الذين غزَوا القيصر، يزيد بن معاوية، وكان ذلك رفعاً لشأن يزيد قاتل الإمام (عليه السلام)!
2. تعمّد إعلان الفرح وإظهار السرور في يوم عاشوراء، وقد وضع المغرِضون في سبيل ذلك أحاديثَ عديدةً تسنّ الصوم والتوسعة على العيال وإظهار الزينة من اكتحال وغيره، قال ابن كثير: «وقد عاكس الرافضةَ والشيعةَ يوم عاشوراء النواصبُ من أهل الشام، فكانوا يوم عاشوراء يطبخون الحبوب ويغتسلون ويتطيّبون ويلبسون أفخر ثيابهم، ويتّخذون ذلك اليوم عيداً يصنعون فيه أنواع الأطعمة ويظهرون السرور والفرح»[4].
وتجدر الإشارة، إلى أنّ كلّ الأحاديث الواردة في استحباب التوسعة والصيام يوم عاشوراء، إنّما هي أحاديث ضعيفة السند لا يمكن الاعتمادُ عليها.
وفي هذين الأسلوبين محاولة واضحة في طمس معالم عاشوراء وما جرى مع الإمام الحسين (عليه السلام)، وقد تأثّر قسمٌ كبير من المسلمين بمثل هذه الموضوعات، حتّى كاد الكثيرون لا يعرفون حقيقة ما جرى في ذاك اليوم الأليم، بل يُعدّونه يوماً مباركاً!
وهذا في حقيقة الأمر، يُمثّل الإعلام المزيّف والممنهج الذي يعتمده المستبدّون وأصحاب الهوى، والذي ما زلنا نشهده في هذا الزمن، وإن اختلفت أساليبه وأدواته.
وفي مقابل ذلك، نجد شكلاً آخر من الإعلام، وهو المتمثِّل بحركة الإمام زين العابدين (عليه السلام) والسيّدة زينب (عليها السلام) ومواقفهما، والذي اعتُمِد فيه الصدقُ والشفافيّةُ في نقل تلك الواقعة الأليمة وبيانها، وذلك كلّه كان على قاعدة الآية المباركة: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبً﴾[5].
فقد عمد الإمام زين العابدين (عليه السلام) إلى بيان مظلوميّة الإمام الحسين (عليه السلام) وزيف ما قام به الأمويّون، وقبح ما فعله يزيد بن معاوية في قتل ابن بنت النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله)، ومن ذلك ما ورد في خطبته أمام يزيد في الشام، وكان قد رُفع الأذان، فالتفت بعد أن وصل المؤذّن إلى «أشهد أنّ محمّداً رسول الله»، من فوق المنبر إلى يزيد، فقال (عليه السلام): «محمّد هذا، جدّي أم جدّك يا يزيد؟ فإن زعمتَ أنّه جدّك فقد كذبت وكفرت، وإن زعمتَ أنّه جدّي فلِمَ قتلتَ عترتّه؟!»، ورُوي أنّه كان في مجلس يزيد هذا حبر من أحبار اليهود، فقال: مَن هذا الغلام يا أمير المؤمنين؟ قال: هو عليّ بن الحسين، قال: فمَن الحسين؟ قال: ابن عليّ بن أبي طالب، قال: فمَن أمّه؟ قال: أمّه فاطمة بنت محمّد، فقال الحبر: يا سبحان الله! فهذا ابن بنت نبيّكم قتلتموه في هذه السرعة؟ بئسما خلّفتموه في ذرّيّته! والله، لو ترك فينا موسى بن عمران سبطاً من صلبه، لظننّا أنّا كنّا نعبده من دون ربّنا، وأنتم إنّما فارقكم نبيّكم بالأمس، فوثبتم على ابنه فقتلتموه![6].
أمّا السيّدة زينب (عليها السلام)، فقد اعتمدت أسلوبَ الخطاب والجرأة في إيصال الحقّ بوجه السلطان الجائر، ومن ذلك ما ورد في موقفها أمام ابن زياد، حيث سألها متهكِّماً: كيف رأيتِ صنعَ الله بأخيكِ وأهل بيتك؟ فأجابته: «ما رأيت إلّا جميلاً»[7].
واعتمدت أسلوبَ الرثاء والحزن، ومن ذلك ما ذكره السيّد ابن طاووس في اللهوف: «فقال الراوي: ... فواللهِ، لا أنسى زينبَ بنت عليّ (عليه السلام) تندب الحسينَ (عليه السلام)، وتنادي بصوتٍ حزين، وقلبٍ كئيب: يا محمّداه! صلّى عليك مليك السماء، هذا حسين مرمّل بالدماء، مقطّع الأعضاء، وبناتك سبايا، إلى الله المشتكى، وإلى محمّد المصطفى، وإلى عليّ المرتضـى، وإلى فاطمة الزهراء، وإلى حمزة سيّد الشهداء! [...] وفي رواية: يا محمّداه! بناتك سبايا، وذرّيتك مقتّلة، تسفي عليهم ريح الصبا، وهذا حسين محزوز الرأس من القفا، مسلوب العمامة والرداء!»[8].
وفي تأثير كلماتها هذه (عليها السلام) قال الراوي: «فأبكت -واللهِ- كلَّ عدوّ وصديق»[9].
[1] سورة التوبة، الآية 32.
[2] الطبريّ، تاريخ الطبريّ، ج4، ص331.
[3] البخاري، صحيح البخاري، ج3، ص232.
[4] ابن كثير، البداية والنهاية، ج8، ص 220.
[5] سورة الأحزاب، الآية 39.
[6] العلّامة المجلسيّ، بحار الانوار، ج45، ص139.
[7] المصدر نفسه، ج45، ص116.
[8] ابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف، ص78.
[9] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص59.