الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
مضت أيّام عاشوراء، وقد حملت لنا الكثير من الدروس والعِبر في مبادئ الإسلام والإنسانيّة، حتّى غدت مدرسةً عظيمة ينهل منها كلُّ إنسان ما يستطيع من خلاله أن يقومَ بالتغيير، سواءٌ أكان على صعيده الشخصيّ، أم على صعيد المجتمع والأمّة.
ولأجل ذلك نجد قادة أمّتنا قد أسندوا حركاتِهم الثوريّة التغييريّة على ما وصل إلينا من عاشوراء من مبادئ ومفاهيم، حتّى قال فيها الإمام الخمينيّ (قدّس سرّه): «كلّ ما لدينا من عاشوراء»، وهو من قام بثورة غيّرت معالمَ النظام الذي كان سائداً في إيران، من نظامٍ مستبدّ ومرتهن للاستكبار والقوى الخارجيّة، إلى نظامٍ إسلاميٍّ عزيزٍ مقتدِر.
أمّا على مستوى الفرد، فإنّنا نلحظ التغيير في الكثير من أبناء مجتمعنا تأثّراً بعاشوراء ومجالس عزائها، فيعمدون إلى التوبة والندم على ما بدا منهم من تقصير بين يدي الله، وتندفع نفوسهم إلى الصلاح والإصلاح.
هذا، ولنا في كلّ شخصّية من شخصيّات عاشوراء، بدءاً بالإمام الحسين (عليه السلام) والإمام زين العابدين (عليه السلام) وأبي الفضل العبّاس (عليه السلام) والسيّدة زينب (عليه السلام) وأهل بيت الإمام وأصحابه، أسوةٌ وقدوة، فإنّ لكلّ منهم دوراً في بثّ مبادئ الحقّ والصلاح.
السيّدة زينب (عليها السلام) نموذج رائد في الإيمان والصبر
وتأتي السيّدة زينب نموذجاً رائداً لكلّ امرأة ولكلّ مؤمن في التزام الحقّ وتجلّي الإيمان المتجذّر في نفسها، ليكون سلاحُها الأقوى في مواجهة الصعاب والآلام، وأيّ ألمٍ أعظم من مصابها بأخيها الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه! فواجهت ذلك كلّه بسلاح الصبر وحسن الظنّ بالله.
وقد توّجت صبرَها بمقولتها الشهيرة الخالدة التي وجّهتا إلى الطاغية عبيد الله بن زياد في قصره، وكان قد سألها متبجِّحاً عن خبثٍ دفين: كيف رأيتِ صنعَ الله بأخيكِ وأهلِ بيتك؟ فقالت: «ما رأيتُ إلّا جميلاً، هؤلاء قومٌ كتب الله عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعِهم، وسيجمع اللهُ بينك وبينهم فتحاجّ وتخاصم، فانظر لمن الفلج يومئذٍ»[1].
«ما رأيتُ إلّا جميلاً» هذه المقولة -مع قصرها- تختزن مفهوماً واسعاً، يرتبط بتوحيد الله المطلق، وبأنّه -سبحانه- بيده ملكوت السماوات والأرض، وأنّ كلّ ما يجري إنّما هو بحكمته وقدره وقضائه، وما على الإنسان في ذلك إلّا التسليم، بعد أن يؤدّي ما عليه من عملٍ وسعي.
مرجع صبر السيّدة زينب (عليها السلام)
ما مرجع السيّدة زينب (عليه السلام) في صبرها، مع ما رأته من مصائب امتدّت حتّى سبيها هي وأهل البيت العلويّ إلى الشام، فكانت مع ذلك كلّه صابرة محتسبة؟!
في الواقع، إنّ مرجع صبرها وثباتها يؤول إلى إيمانها العميق بوحدانيّة الله وبتوكّلها عليه -سبحانه-، وهو الذي أمرنا بالصبر عند النوائب، إذ قال: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾[2]، بل المطلوب أن نكون بأعلى درجات الصبر حتّى يكون صبراً جميلاً، قال -سبحانه-: ﴿فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلً﴾[3].
ما هو الصبر الجميل؟
فسّر الإمام الباقر (عليه السلام) معنى الصبر الجميل، فقال: «ذلك صبرٌ ليس فيه شكوى إلى الناس»[4].
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال في الآية: «بلا شكوى»[5].
وهذا ما كانت عليه السيّدة زينب (عليها السلام)، إذ لم تكتفِ بعدم الشكوى، بل رأته «جميلاً»؛ ذلك أنّه وقع بعين الله ورضاه.
إنّ هذا درسٌ عظيمٌ، نتّخذ السيّدة زينب (عليها السلام) أسوةً لنا في الصبر على ما نُبتلى به، مهما اشتدّ وعظم، وفي ذلك نضمن الأجر والثواب، في مقابل الجزع المنهيّ عنه، والذي يجعل الإنسان يتخبّط في دنياه، ويزيد من حزنه وألمه، من دون أن يكون له القدرة على تغيير ما قُضي وأُبرم، ولهذا فقد أمرنا المعصومون (عليهم السلام) بأن لا نجزع، كما عن الإمام الباقر (عليه السلام): «من صبر واسترجع وحمد الله عند المصيبة، فقد رضي بما صنع الله، ووقع أجره على الله، ومن لم يفعل ذلك جرى عليه القضاء وهو ذميم، وأحبط اللهُ أجرَه»[6].
وعن الإمام الصّادق (عليه السلام): «اتّقوا الله واصبروا؛ فإنّه من لم يصبر أهلكه الجزع، وإنّما هلاكه في الجزع أنّه إذا جزع لم يؤجَر»[7].
علامات الصابر
وقد ورد في بعض الأحاديث ما يوضح العلامات التي يكون عليها الصابر، كما عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله): «علامة الصابر في ثلاث؛ أولّها أن لا يكسل، والثانية أن لا يضجر، والثالثة أن لا يشكو من ربه -عزّ وجلّ-؛ لأنّه إذا كسل فقد ضيّع الحقّ، وإذا ضجر لم يؤدِّ الشكر، وإذا شكا من ربّه -عزّ وجلّ- فقد عصاه»[8].
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص115.
[2] سورة البقرة، الآيتان 155 و165.
[3] سورة المعارج، الآية 5.
[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص93.
[5] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، ص294.
[6] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج3، ص223.
[7] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج68، ص95.
[8] المصدر نفسه، ج68، ص86.