الإمام زين العابدين (عليه السلام) وحركته المباركة
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
نعزّي صاحب العصر والزمان، الإمام المهديّ المنتظر (عجلّ الله فرجه الشريف)، ووليّ أمر المسلمين في غيبته الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، والأمّة الإسلاميّة جمعاء بذكرى شهادة الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام).
فضل الإمام زين العابدين (عليه السلام)
أيّها الأحبّة،
كان الإمام عليّ زين العابدين (عليه السلام) في خصاله وصفاته، امتداداً لأصحاب ذاك البيت العلويّ الشريف، إذ تميّز بخصال لم يكن أحد من أهل زمانه عليها، سواء أكان في أخلاقه أم أدبه أم في علمه ونظرته السياسيّة الثاقبة.
وقد عُرف بذلك عند الخواصّ من الناس وغيرهم، ومنهم الزهريّ الذي قال فيه: «ما رأيتُ هاشميّاً أفضل من عليّ بن الحسين، ولا أفقه منه»[1].
كما ورد عن عبد الملك بن مروان، مخاطباً الإمام زين العابدين (عليه السلام): «يا أبا محمّد، لقد بيّن عليك الاجتهاد، ولقد سبق لك من الله الحسنى وأنت بضعة من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قريب النسب وكيد السبب، وإنّك لذو فضل عظيم على أهل بيتك وذوي عصرك، ولقد أوتيتَ من الفضل والعلم والدين والورع ما لم يؤتَه أحدٌ مثلك ولا قبلك إلّا من مضى من سلفك»[2].
إنّ إيراد مثل هذه الشهادات تُظهر لنا مدى شهرة الإمام (عليه السلام) بما كان عليه من صفات وخصال طيّبة، حتّى أنّ المخالفين له في العقيدة والسياسة لم يستطيعوا إخفاء ما عليه من ذلك وستره.
حركة الإمام (عليه السلام)
لو أردنا العروج نحو حركة الإمام (عليه السلام) ما بعد ثورة أبيه سيّد الشهداء (عليه السلام)، لوجدنا أنّها بُنيت على منهج دقيق للغاية، نظر فيه إلى متطلّبات المرحلة التي كان يعايشها في ظلّ الدولة الأمويّة، التي عمدت إلى تجويف الأمّة من المبادئ الأصيلة، سواءٌ أكان على مستوى العقيدة والثقافة العامّة، أم على مستوى المبادئ السياسيّة والاجتماعيّة.
إنّ الدولة الأمويّة، عمدت في الواقع إلى جعل الأمّة الإسلاميّة أمّة فارغة من الوعي، وبذلت قصارى جهدها في توجيه الأنظار إلى المادّيّات فحسب، فالغنيّ اتّجه نحو الشهوات وما لذّ من عيش الدنيا، والفقير أصبح أكبر همّه كيفيّة الحصول على لقمة عيشه، مضافاً إلى ذلك الجوّ الأمنيّ الذي كان سائداً، والذي عاش فيه الناس تحت وطأة السطوة الأمويّة، حتّى أصبحوا يخافون ويتوجّسون من أيّ مناهضة أو اعتراض على نظام الحكم السائد.
إنّ هذا كلّه كان له الأثر البالغ في تقويض حركة المجتمع، وجعله مُرتهناً بأيدي أناس لا يفقهون من الإسلام إلّا اسمه، ومن القرآن إلّا رسمه.
من هنا، كانت حركة الإمام زين العابدين (عليه السلام) تواجه الواقع السائد هذا بحنكة ودراية وعمق، وقد تجلّى ذلك في ما أقدم عليه من أفعال وخطوات، سواءٌ أكان في ما يتعلّق بالتوجيه الروحيّ والمعنويّ الذي ابتدأه من خلال أدعيته المباركة، أم من خلال حلقات دروسه العلميّة، أم من خلال حركته الاجتماعيّة، إذ كان موئلاً للفقراء والمساكين.
إنّ ذلك كلّه، ينبغي أن ننظر إليه باعتباره حركة متكاملة كان يريد من خلالها (عليه السلام) استمرار ما قام به آباؤه الطاهرون في إرساء مبادئ الحقّ ونبذ الباطل.
البناء الروحيّ والمعنويّ
إنّ أبرز مظاهر حركة الإمام زين العابدين (عليه السلام)، مظهر الروحيّة والمعنويّات المتعالية، التي برزت في شخصيّته هو نفسه، وفي حركته الرساليّة والتبليغيّة، فقد كان عنواناً وملجأً وملاذاً للسالكين نحو الباري -سبحانه وتعالى-، حتّى ترك إرثاً عظيماً من الأدعية النفيسة الممزوجة بالعلم والحكمة، وهي تجذب القلوب الوالهة، وقد تُوّجت بـ«الصحيفة السجّاديّة» التي وصلت إلينا.
إنّ هذا يدلّ على أنّ الإمام كان يشعر بضرورة إعادة تلك الروحيّة التي انطفأت في المجتمع الإسلاميّ بفعل تصرّفات الأمويّين وسياساتهم الممنهجة في حرف قلوب الناس عن المبادئ الأخلاقيّة والروحيّة.
لقد كان في طيّات أدعية الإمام (عليه السلام) العديد من الرسائل العقديّة والسياسيّة والأخلاقيّة والعرفانيّة، فلم تكن مجرّد أدعية اعترافٍ بالتقصير بين يدي الباري -سبحانه-، بل كانت أيضاً تأسيساً لروحٍ عارفة بربّها.
حركته العلميّة
لم يقف الإمام مكتوف الأيدي بعد واقعة الطفّ الأليمة، ولم يستسلم للآلام التي حلّت بأبيه الشهيد (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه، بل بقي ثابتاً مقداماً في عطائه لأبناء هذه الأمّة، خاصّة في ما يتعلّق بالعلم الذي حثّ عليه، وعقد له حلقات دروسٍ تخرّج منها العديد من العلماء الأفذاذ.
وفي ذلك شواهد كثيرة، منها ما عن سعيد بن المسيّب: «إنّ القرّاء كانوا لا يخرجون إلى مكّة حتّى يخرج عليّ بن الحسين، فخرج وخرجنا معه ألف راكب»[3].
وقد قال (عليه السلام) في العلم: «إنّ طالب العلم إذا خرج من منزله لم يضع رجله على رطب ولا يابس من الأرض إلّا سبّحت له إلى الأرضين السابعة»[4].
وكان (عليه السلام) يكرم طلّاب العلوم ويرفع منزلتهم ويرحّب بهم قائلاً: «مرحباً بوصيّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)»[5].
حركته الاجتماعيّة
إنّ أفعال الإمام (عليه السلام) كلّها كانت ضمن رؤية واحدة هدفها واحد، وإن تعدّدت أشكال تحرّكاته، فإنّ الهدف الأساس هو الهدف الإلهيّ في بناء مجتمع سالم متمسّك بالأصول والمبادئ الإسلاميّة على كلّ صعيد، ومن ذلك ما قام به على المستوى الاجتماعيّ، فقد عُرف بمساعدته الفقراء والمساكين، بل ربّما يمكننا القول أنّه (عليه السلام) أضفى على ذلك لوناً متميّزاً ينضوي فيه رسائل أخلاقيّة باهرة، وهي أن يُسرّ المرء في ما يقدم عليه من مساعدة للآخرين؛ ولهذا نجده (عليه السلام) يحمل الجراب على ظهره في غلس اللّيل ليوصله إلى الفقراء، ولم يعرف عامّة الناس ذلك إلّا بعد رحيله (عليه السلام)، وقد ورد في ذلك عن سفيان بن عيينة قال: رأى الزهريُّ عليَّ بن الحسين (عليه السلام) ليلة باردة مطيرة، وعلى ظهره دقيق وهو يمشي، فقال: يابن رسول الله، ما هذا؟ قال: «أريد سفراً أعدّ له زاداً أحمله إلى موضع حريز»، فقال الزهريّ: فهذا غلامي يحمله عنك، فأبى، قال: أنا أحمله عنك، فإنّي أرفعك عن حمله، فقال عليّ بن الحسين: «لكنّي لا أرفع نفسي عمّا ينجيني في سفري، ويحسن ورودي على ما أرد عليه، أسألك بحقّ الله لما مضيت لحاجتك وتركتني»، فانصرف عنه، فلمّا كان بعد أيّام قال له: يابن رسول الله، لست أرى لذلك السفر الذي ذكرته أثراً! قال: «بلى يا زهريّ! ليس ما ظننت، ولكنّه الموت وله أستعدّ، إنّما الاستعداد للموت تجنّب الحرام وبذل النّدى في الخير»[6].
[1] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج3، ص297.
[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج46، ص57.
[3] المصدر نفسه، ج 46، ص149.
[4] الشيخ الصدوق، الخصال، ص518.
[5] المصدر نفسه، ص518.
[6] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج46، ص65.