الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
نقدّم أسمى التهاني والتبريكات لصاحب العصر والزمان الإمام المهديّ المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف)، ولنائبه بالحقّ الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، ولجميع الأمّة الإسلاميّة بذكرى ولادة خير خلق الله النبيّ الأكرم محمّد (صلّى الله عليه وآله).
عظمة الرسالة والرسول
أيّها الأحبّة،
إنّ عظمة الإسلام منبثقة ممّا جاء به هذا الدين الحنيف، من مبادئ ومفاهيم، أراد الله بها أن يُخرج عباَده من الظلمات إلى النور، ويقوّم لهم مسار حياتهم على جميع الأصعدة الدنيويّة، وبما يحفظ لهم آخرتهم، ولم يكن الأقدر على حمل مثل هذه المفاهيم العالية إلّا النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله)، لما كان يحمله من صفات جليلة وخصالٍ حميدة، من قوّة في الإدراك ونقاء في القلب وإخلاص في النيّة، فكان خيرَ حامل لأمانة الله، وخيرَ أسوة لعباد الله.
وقد وصفه الله في كتابه الكريم بأجلّ الصفات وأرفعها شأناً، إذ قال -سبحانه-: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾[1]، وقال فيه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾[2]، وقال أيضاً: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ َكَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرً﴾[3].
ومن عظيم ما وصفه به -سبحانه-، أنّه (صلّى الله عليه وآله) أسوة حسنة، ينبغي أن يُقتدى بها ويحتذى حذوها، قال -عزّ وجلّ-: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرً﴾[4].
ولا بدّ من الإشارة هنا، إلى أنّ الولاء لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) لا يكون بمجرّد إظهار العاطفة والمشاعر نحوه، إنّما يكون عبر الالتزام بما كان يريده (صلّى الله عليه وآله)، بل أن يستنّ المرء بسننه، فيقتدي به في كلّ صغيرة وكبيرة، وقد قال الله -تعالى- مبيّناً هذا المفهوم، مفهوم الحبّ لرسول الله، وأنّه يكون بالاتّباع والسلوك: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[5].
وهكذا كان أهل بيت النبيّ الأطهار وأصحابه المنتجبون، وعلى رأسهم الإمام عليّ (عليه السلام)، مع ما يحمله من صفاتٍ قلّ نظيرها، ينظر إلى رسول الله على أنّه المثال الأعلى والقدوة الصالحة والأسوة الحسنة، في الأخلاق والعلم والأدب والعشرة والعبادة والقوّة والشجاعة والثبات والإخلاص... حتّى قال (عليه السلام): «ولقد كنت أتّبعه اتّباعَ الفصيل أثر أمّه، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به»[6].
خصال النبيّ وصفاته
تحلّى رسول الله بصفات جليلة وخصال عظيمة، جعلت منه مناراً لمن رام التقرّب من الله، والعيش باستقامة واعتدال في الحياة الدنيا؛ ولذلك نجد شخصّيته المباركة شخصيّةً شاملة جامعة للمبادئ الإنسانيّة والإيمانيّة كلّها، ينسجم كلٌّ منها مع الآخر، لتشكّل معاً الإنسان الكامل.
نذكر من هذه الصفات:
الرّحمة والعفو
وهي التي وصفه بها الله -تعالى- في كتابه الكريم: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ﴾[7].
وقد تجسّدت صفة العفو في حياته الشخصيّة والعامّة، حتّى مع أعدائه وخصومه، ومن ذلك أنّه (صلّى الله عليه وآله) عفا عن أهل مكّة يوم الفتح، ووقف منهم موقفاً رحيماً، على الرغم من ألوان العذاب والمعاناة وأنواع الأذى والآلام التي سبّبتها قريش له (صلّى الله عليه وآله) وللمسلمين قبل الهجرة وبعدها، وعلى الرغم من مؤامراتها وحروبها وإرهابها، فإنّه (صلّى الله عليه وآله) وقف على باب الكعبة بعد الفتح مخاطباً أهل مكّة: «مَاذَا تَقُولُونَ؟ ومَاذَا تَظُنُّونَ؟»، قَالُوا، نَظُنُّ خَيْراً، ونَقُولُ خَيْراً، أَخٌ كَرِيمٌ وابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ وقَدْ قَدَرْتَ، قَالَ: «فَإِنِّي أَقُولُ كَمَا قَالَ أَخِي يُوسُفُ: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ، يَغْفِرُ اللَّه لَكُمْ وهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ»[8].
وعن أنس أيضاً، قال: كنتُ أمشي مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وعليه برد نجرانيّ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابيّ فأخذ بردائه فجبذه (جذبه) جبذة شديدة، حتّى نظرت إلى صفحة عنق رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقد أثّرت به حاشية الرداء من شدّة جبذته، ثمّ قال: يا محمّد، مر لي من مال الله الّذي عندك؛ فالتفت إليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فضحك، وأمر له بعطاء[9].
التواضع
كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) نموذجاً مثاليّاً للتواضع في أقواله وأفعاله كلّها، حتّى برز ذلك جليّاً في شخصيّته المباركة.
عن الإمام عليّ (عليه السلام) «ولقد كان (صلّى الله عليه وآله) يأكل على الأرض، ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله، ويرقع بيده ثوبه، ويركب الحمار»[10].
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إذا دخل منزلاً قعد في أدنى المجلس حين يدخل»[11].
الزهد
ويعني ألّا يكون المرء مكبّاً على الدنيا، وأن يقنع بما بين يديه من نِعَم، بل وأن يقتصر في حياته على البسيط منها من دون الانجراف نحو زبارجها ومقتنياتها، وتعلّق قلبه بها ولو كان ميسوراً، وهكذا كان (صلّى الله عليه وآله)، إذ كان عنواناً للزهد في عيشه وحياته، وعن العيص بن قاسم، قال: قلت للصادق جعفر بن محمّد (عليه السلام): حديث يُروى عن أبيك (عليه السلام) أنّه قال: ما شبِع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من خبز برّ قطّ، أهو صحيح؟ فقال: «لا، ما أكل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من خبز برّ قطّ، ولا شبع من خبز شعير قطّ«[12].
دفء اللّسان
لم يكن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سبّاباً ولا فحّاشاً، فقد رُوي أنّه قيل له: يا رسول الله، اُدعُ على المشركين! فقال (صلّى الله عليه وآله): «إنّي لم أُبعث لعّاناً، وإنّما بُعثت رحمة»[13].
بشاشته
كان بشوش الوجه، لا عابس ولا مقطّب الجبين، عن أبي الدرداء: كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إذا حدّث بحديث، تبسّم في حديثه[14].
وقد ورد عنه قوله (صلّى الله عليه وآله): «المؤمن دعب لعب، والمنافق قطب غضب»[15].
مداراة الناس
فلم يكن يقطع كلامَ أحد، ولا يستهزئ بسؤال يُطرح عليه، بل كان يتماشى في حواره ونقاشه وخطابه مع الناس كافّة، مهما كانت أفكارهم بسيطة وأسئلتهم ساذجة، فقد كان يسمع ويحترم المتحدّث، وكان يدعو إلى ذلك في أن لا يقطع أحدٌ كلامَ أحد، وإنّ هذا من الأدب، وكان تكليمه للناس على قدر عقولهم، وإلى هذا أشار (صلّى الله عليه وآله) بقوله: «إنَّا معاشر الأنبياء، أُمرنا أن نُكلّم الناس على قدر عقولهم[16]«.
[1] سورة القلم، الآية 4.
[2] سورة الأنبياء، الآية 107.
[3] سورة سبأ، الآية 28.
[4] سورة الأحزاب، الآية 21.
[5] سورة آل عمران، الآية 31.
[6] نهج البلاغة، ج2، ص 157.
[7] سورة آل عمران، الآية 159.
[8] العلّامة المجلسيّ، مرآة العقول، ج17، ص69.
[9] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، ص17.
[10] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ج2، ص59.
[11] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص662.
[12] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، ص28.
[13] الريشهريّ، ميزان الحكمة، ج4، ص2784.
[14] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج16، ص298.
[15] المصدر نفسه، ج 74، ص153.
[16] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج1، ص23.