الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
قال الله -تعالى- في كتابه الكريم: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً﴾[1].
وسُئل الإمام الكاظم (عليه السلام) عن التوكّل، فقال (عليه السلام): «التوكّل على الله درجات؛ منها أن تتوكّل على الله في أمورك كلّها، فما فعل بك كنت عنه راضياً، تعلم أنّه لا يألوك خيراً وفضلاً، وتعلم أنّ الحكم في ذلك له، فتوكّل على الله بتفويض ذلك إليه، وثِق به فيها وفي غيرها»[2].
أيّها الأحبّة،
إنّ من أعظم المقامات التي يصل إليها المرء في علاقته بالله -تعالى-، التوكّل عليه -سبحانه-؛ ذلك أنّه مرتبط بعقيدة الإنسان وثقته وحسن ظنّه به، فيفوّض أمره إليه، ويرضى بقدره وقضائه.
إنّ للتوكّل -كما لغيره من الصفات والمقامات- درجات ومراتب، يختلف فيها الناس طبقاً لقوّة إيمانهم؛ فكلّما ثبت إيمانهم القلبيّ بأنّ الله -تعالى- هو المتصرّف والحاكم والمدبّر للأمور، أصبح التوكّل أشدّ قوّة وأثبت، حتّى تظهر علامات ذلك في صفحات حياتهم، وظاهر تصرّفاتهم، فلا يسخطون ولا يجزعون، ولا ييأسون ولا يحبطون، بل أكثر من ذلك، قد تكون قلوبهم مستبشرة حتّى عند وقوع البلاءات والمصائب؛ ذلك أنّهم يرَون أنّ كلّ ما يصيبهم إنّما هو بفعل قادر مقتدر، حكيم عالم، لا يفعل شيئاً عبثاً وجزافاً.
ففئة من الناس يكون التوكّل لديهم مغيّباً في أمور دنياهم، فيغفلون عن ذكر الله، وأنّه الفاعل الذي يرجع إليه الأمر كلّه، فيسعَون في سبيل نيل الدنيا، ويضعون الأسباب المادّيّة بمصاف العلّة التامّة من دون اللّجوء إلى الله، وإذا ما فشلوا في شيء منها، فإنّهم يجزعون ويحزنون، وهذا في حقيقة الأمر يرجع إلى أنّهم أخذوا بتلك الأسباب فحسب، وغفلوا عن أنّ ثمّة يداً هي التي تقدّر أمورهم، وأنّ خلف ما أصابهم حكمة قد لا يدركون كنهها.
هؤلاء أنفسهم لا يذكرون الله سواءٌ أكان في قلوبهم أم ألسنتهم، إلّا في ما يتعلّق بأمر آخرتهم، فإذا ما ذُكر الموت أو سؤال القبر أو البعث والحساب، فحينها يعلنون توكّلهم عليه -سبحانه- فيقولون: «الله رحيم»، «الله غفور»، «الله يشفع»... وبهذا تكون صفة أهل الدنيا، إذ يقطعون صلتهم بالله -تعالى- تمام القطيعة.
أمّا الفئة الثانية، فهم الذين يُقرّون بأنّ للكون مدبِّراً ومؤثِّراً، وأنّ لهذا المؤثِّر علماً وحكمةً، ويضعون لذلك البراهين والأدلّة.
إنّ هؤلاء أقرّوا بذلك في عقولهم، إلّا أنّ حقيقة التوكّل على الله لم تنعقد في قلوبهم، ما يجعلهم عرضة لعدم الرضا بما قدّر الله وقضى، أو على الأقلّ يكونون في حالة اضطراب بين ما حَكَمَت به عقولهم وما يختلج في قلوبهم.
أمّا الفئة الثالثة، فهم الذين انعقد التوكّل في قلوبهم، فيسلّمون لله أمرهم، وتكون قلوبهم مطمئنّة، راضية بما قدّره لهم -سبحانه-، وسرّهم في ذلك أنّهم قطعوا علقتهم بالأسباب المادّيّة ووصلوها بتمام الربوبيّة.
ونلاحظ ممّا تقدّم، أنّ حديث الإمام الكاظم (عليه السلام) إنّما ربط التوكّل بالعلم، وهذا ما هو متاح لعامّة الناس؛ ذلك أنّ عقولهم قادرةٌ على الركون والرضوخ والاعتراف بأنّ المؤثِّر الحقيقيّ في الكون إنّما هو الله -تعالى-، وإن كانت الدرجة المثلى هي تلك التي يكون العبد معها راضياً، لا تدخل في قلبه ذرّةُ حزنٍ، مهما كثُرت مصائبه وعظُمت بلاءاته.
التوكّل فرديّ وجماعيّ
لا ينحصر التوكّل والدعوة إليه بالفرد فحسب، بل إنّ المجتمع مخاطب بذلك أيضاً، فكما أنّ الفرد يكون متوكّلاً أو غير متوكّل، كذلك المجتمع عامّة قد يُوصف بذلك، كما هو الحال مع قوم النبيّ موسى (عليه السلام)، قال -سبحانه-: ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾[3].
فهؤلاء لم يكن لديهم أدنى توكّل على الله -تعالى-، بينما نجد أصحاب الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) يستعدّون لمواجهة أعداء الله وهم متوكّلون على الله -سبحانه-، مستقيمون ثابتون، فمنّ الله -تعالى- عليهم بنعمته وفضله، ولم يمسسهم سوء: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾[4].
لا تنافي بين التوكّل والأخذ بالأسباب
يظنّ بعض الناس أنّ التوكّل يتنافى مع الأخذ بالأسباب المادّيّة والقوانين الطبيعيّة التي سنّها الله -تعالى- في هذا الكون؛ لذلك يتركون السعي في أمور المعاش والحياة عامّة، ويرَون أنّه لا جدوى منها، طالما أنّ كلّ شيء بيده تعالى.
صحيح، إنّ الرزق وأمور الدنيا كلّها بيد الله، إلّا أنّه -سبحانه- قد جعل سنناً كونيّة وأسباباً طبيعيّة، وأمر الناس بالأخذ بها والسعي بواسطتها لتيسير حياتهم، ويكون التوكّل بعد الأخذ بهذه السنن والأسباب؛ ولذلك نجد أنّ ثمّة تنبيهات من قِبل النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام) لذلك، كما رُوي أنّ رجلاً جاء إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) سائلاً عن الناقة: يا رسولَ الله، أعقلها وأتوكّل، أو أُطْلِقها وأتوكّل؟ قال: «اعقلها وتوكّل»[5].
ورُوي أيضاً أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) رأى قوماً لا يزرعون قال: «ما أنتم؟»، قالوا: نحن المتوكِّلون، قال: «لا، بل أنتم متّكلون»[6].
من ثمرات التوكّل
إنّ للتوكّل آثاراً وثمرات، بيّنتها أحاديث المعصومين (عليهم السلام) في الآتي:
القوّة: عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله): «من أحبّ أن يكون أقوى الناس، فليتوكّل على الله»[7].
الغنى والعزّ: عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّ الغنى والعزّ يجولان، فإذا ظفرا بموضع التوكّل أوطنا»[8].
قوّة القلب: عن الإمام عليّ (عليه السلام): «أصل قوّة القلب التوكّل على الله»[9].
تذليل الصعاب: عن الإمام عليّ (عليه السلام): «من توكّل على الله، ذلّت له الصعاب وتسهلّت عليه الأسباب»[10].
[1] سورة الطلاق، الآيتان 2 و3.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص65.
[3] سورة المائدة، الآيات 21 – 25.
[4] سورة آل عمران، الآيتان 173 و174.
[5] الترمذيّ، السنن، ج1، ص144.
[6] الشيخ الطبرسيّ، مستدرك الوسائل، ج2، ص288.
[7] ابن شعبة الحرّانيّ، تحف العقول، ص27.
[8] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص65.
[9] اللّيثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص120.
[10] المصدر نفسه، ص426.