الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
قال الله -تعالى- في كتابه الكريم: ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾[1].
أيّها الأحبة،
إنّ أعظمَ الأهداف التي لا ينبغي أن يحيد عنها المؤمن بالله واليوم الآخر، أن لا يلقى الله -سبحانه- وهو عليه ساخط، إذ ينبغي أن يبذل قصارى جهده لنيل رضاه -سبحانه-، ومن ذلك أن لا تبقى الذنوبُ مُثقِلةً ظهرَه، فيستغفر ويتوب ويلجأ إليه راجياً عفوه وصفحه عمّا اقترف من ذنوبٍ ومعاصٍ.
اغتنام الفرص
قد تعرض للإنسان أوقات ومواقف يجد فيها نفسه مقبلاً على الله -سبحانه-، وأنّ فيها سعةً للتفكّر والتأمّل في ما قدّمت يداه، فيتذكّر قوله -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾[2]، فتشتدّ عزيمته لطلب المغفرة ويسعى جاهداً في سبيلها، ولا يتوانى أبداً، كي لا تضيع الفرصة، وهذا في الواقع من المسارعة إلى مغفرة الله -تعالى-، وقد ورد عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله): «إنّ لربّكم في أيّام دهركم نفحات، فتعرّضوا لها»[3].
موجبات المغفرة الإلهيّة
أيّها الأحبّة،
إنّ طرق نيل المغفرة الإلهيّة عديدة وكثيرة، وهي في نفسها تدلّ على سعة رحمة الله -تعالى- وجوده وكرمه، إذ فتح لعباده أبواب التوبة والاستغفار، زارعاً في نفوسهم الأمل، ومُبعِداً عنهم الإحباط واليأس. ومن ذلك:
1. فعل الحسنات، قال -سبحانه-: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾[4].
2. أداء الواجبات والطاعات، من صلاةٍ وصومٍ وغير ذلك ممّا أوجبه الله تعالى.
عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله): «أرأيتم لو أنّ نهراً بباب أحدكم، يغتسل منه كلّ يوم خمس مرّات، هل يبقى من درنه شيء؟»، قالوا: لا، قال: «فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بها الخطايا»[5].
وعنه (صلى الله عليه وآله): «من صام يوماً تطوّعاً ابتغاء ثواب الله، وجبت له المغفرة»[6].
3. الصدقة، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «الصدقة جُنّة من النار»[7].
4. صلاة اللّيل، فعن النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله): «إنّ العبد إذا تخلّى لسيّده في جوف اللّيل المظلم وناجاه أثبت الله النور في قلبه... ثمّ يقول -جلَّ جلاله- لملائكته: يا ملائكتي، انظروا إلى عبدي، فقد تخلّى بي في جوف اللّيل المظلم والبطّالون لاهون، والغافلون نيام، اشهدوا أنّي قد غفرتُ له»[8].
الاستغفار
أمّا الاستغفار، وهو طلب المغفرة مع عدم نيّة العودة إلى الذنب، فهو من أجلى موجبات نيل المغفرة الإلهيّة، فيبادر المؤمن الحريص على آخرته إلى أن يستغفر دوماً لذنوب اقترفها ويقترفها في حياته، ويسارع في ذلك بين يديه -عزّ وجلّ-؛ والمسارعة في آية ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾، إنّما تعني المبالغة في السرعة نحو الشيء، فيكون المطلوب ليس مجرّد الإقدام على الشيء بسرعة فحسب، بل المبالغة فيها.
هذا، وإنّ للاستغفار آثاراً على صعيد الحياة الدنيا مضافاً إلى الآخرة، قال -سبحانه-: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ﴾[9]، وقال -تعالى-: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ﴾[10].
وعن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله): «من كثرت همومه، فعليه بالاستغفار»[11].
عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «تعطّروا بالاستغفار، لا تفضحكم روائح الذنوب»[12].
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «ادفعوا أبواب البلاء بالاستغفار»[13].
حقيقة الاستغفار
ليس الاستغفار مجرّد ذكر باللّسان، بل لا بدّ من أن يكون ضمن ضوابط وحدود، وإن كان ذكره باللّسان أمراً ضروريّاً وأساسيّاً، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) لقائلٍ قال بحضرته: أَسْتغفر اللَّهَ: «[...] أَتَدْرِي مَا اَلاِسْتِغْفَارُ؟! إِنَّ اَلاِسْتِغْفَارَ دَرَجَةُ اَلْعِلِّيِّينَ، وَهُوَ اِسْمٌ وَاقِعٌ عَلَى سِتَّةِ مَعَانٍ:
أَوَّلُهَا: اَلنَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى.
وَاَلثَّانِي: اَلْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ اَلْعَوْدِ إِلَيْهِ أَبَداً.
وَاَلثَّالِثُ: أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى اَلْمَخْلُوقِينَ حُقُوقَهُمْ حَتَّى تَلْقَى اَللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَمْلَسَ لَيْسَ عَلَيْكَ تَبِعَةٌ.
وَاَلرَّابِعُ: أَنْ تَعْمِدَ إِلَى كُلِّ فَرِيضَةٍ عَلَيْكَ ضَيَّعْتَهَا، فَتُؤَدِّيَ حَقَّهَا.
وَاَلْخَامِسُ: أَنْ تَعْمِدَ إِلَى اَللَّحْمِ اَلَّذِي نَبَتَ عَلَى اَلسُّحْتِ فَتُذِيبَهُ بِالْأَحْزَانِ، حَتَّى تُلْصِقَ اَلْجِلْدَ بِالْعَظْمِ وَيَنْشَأَ بَيْنَهُمَا لَحْمٌ جَدِيدٌ.
وَاَلسَّادِسُ: أَنْ تُذِيقَ اَلْجِسْمَ أَلَمَ اَلطَّاعَةِ كَمَا أَذَقْتَهُ حَلاَوَةَ اَلْمَعْصِيَةِ.
فَعِنْدَ ذَلِكَ تَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اَللَّهَ»[14].
[1] سورة آل عمران، الآية 133.
[2] سورة الحشر، الآية 18.
[3] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج68، ص221.
[4] سورة هود، الآية 11.
[5] الأحسائيّ، عوالي اللّئالي، ج1، ص110.
[6] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص645.
[7] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، ج6، ص258.
[8] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج38، ص99.
[9] سورة هود، الآية 3.
[10] سورة هود، الآية 52.
[11] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج8، ص93.
[12] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، ص372.
[13] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، ج9، ص29.
[14] نهج البلاغة، ج4، ص97.