قال -تعالى-: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾[1].
الأمر بالصلاة
أيّها الأحبّة،
إنّ من أعظم العبادات التي أمرنا الله بها هي الصلاة بين يديه، وقد أعظم أمرها وأكّد إقامتها، وشدّد النكير على من استخفّ بها وتهاون في أدائها، قال -سبحانه-: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾[2]، وقال أيضاً: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[3].
وإنّ هذا في الواقع يرجع إلى أهمّيّة هذه العبادة في استقامة حياة الإنسان وصلاح أمر دينه ودنياه. وربّما يحسبها بعضهم، جهلاً بحقيقتها، أنّها مجرّد أمر عباديّ يجب على الإنسان أداؤه، وأنّ آثاره ومنافعه إنّما تعود إليه في الآخرة فحسب، وهذا في الواقع تغافل خطير عن معرفة حقيقة الصلاة ودورها.
بين الصلاة والدنيا
ما سرّ هذه الرابطة بين الصلاة ودنيا الإنسان؟
قد يسأل بعض الناس عن سرّ ارتباط الصلاة التي هي عبارة عن أذكار وسجود وركوع، بالدنيا وما فيها من بلاءات وهموم ومطامح مادّيّة.
لنا أن نقول -باختصار شديد-: إنّ الرابطة تلك، هي الرابطة بين العبد ومعبوده؛ أي رابطة الإيمان بالمدد الغيبيّ والإلهيّ الذي لا ينفكّ عن هذا الوجود أبدًا. والمصلّي الذي يقف بين يدي الله -تعالى- متضرّعاً، إنّما يقف بين يدي خالق كلّ شيء ومن بيده كلّ شيء، ويرجع إليه كلّ شيء.
وليست الآية التي نتلوها دوماً: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾[4]، إلّا ترجمةً لتلك الرابطة العظيمة والوثيقة بين حياة الإنسان بما فيها، وبين الله ربّ السماوات والأرض، إذ إنّ كلّ حركة وكلّ فعل يقوم بهما، إنّما يرتبطان بالله وقدرته وقوّته وحوله وسلطته.
ولأنّ الأمر كذلك، كانت الصلاة طريقاً لإصلاح حياة الإنسان الدنيويّة؛ ذلك أنّها معراجه، ففيها يتوّجه الإنسان إلى الباري -سبحانه- لينال منه المدد والعون في أمور حياته كلّها.
الاستعانة بالصلاة
أيّها الأحبّة،
قال الله -تعالى- في كتابه الكريم: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾[5].
هذه الاستعانة هي طلب العون الذي «يتمّ في ما لا يقوى الإنسان عليه وحده من المهمّات والنوازل، وإذ لا معين في الحقيقة إلّا الله سبحانه، فالعون على المهمّات ومقاومة الإنسان لها بالثبات والاستقامة والاتّصال به -تعالى- بالانصراف إليه، والإقبال عليه بنفسه، وهذا هو الصبر والصلاة، وهما أحسن سبب على ذلك، فالصبر يصغّر كلّ عظيمة نازلة، وبالإقبال على الله والالتجاء إليه تستيقظ روح الإيمان، وتتنبّه أنّ الإنسانَ متّكٍ على ركنٍ لا ينهدم، وسببٍ لا ينفصم»[6].
على ماذا تكون الاستعانة؟
إنّ الإنسان في هذه الحياة عرضة للبلاءات المتعدّدة، منها ما هو مادّيّ ومنها ما هو معنويّ، إذ إنّه يعيش في بعض الأحيان أحزاناً وهموماً تقضُّ سعادته ورغد عيشه، ما يجعله في حاجة ماسّة إلى من يعينه على الخروج ممّا هو فيه من الشعور السيّء، ومَن له في هذه الحال أعظم معين من الله تعالى؟! فيلجأ بصلاته ليتعدّى تلك الهموم والأحزان، مستمدّاً ذلك منه سبحانه.
وهذا ما كان يدأب عليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام)، فقد ورد في أحاديث المعصومين (عليهم السلام) في بيان هذه الآية المباركة ما عن الإمام الصادق (عليه السلام): «كان عليٌّ إذا أهاله أمر، فزع إلى الصلاة» ثمّ تلا هذه الآية: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾.
ومن أمثلة هذا في القرآن الكريم، ما أرشد الله -عزّ وجلّ- بني إسرائيل إليه لمّا أشتدّ عليهم البلاء من قِبل فرعون، فقال: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾[7].
ونجد أنّ الله -تعالى- قد أرشد نبيّه الأكرم (صلّى الله عليه وآله) إلى الاستعانة بالصلاة في أداء مهمّته الرساليّة، قال -سبحانه-: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلً﴾[8].
وكذلك، كيف أنّ النبي يونس (عليه السلام) قد تخلّص من بطن الحوت بفعل أنّه كان من المصلّين، قال -سبحانه-: ﴿فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾[9].
وكذلك ما جرى بين النبيّ شعيب (عليه السلام) وقومه، وهو ينهاهم عن عبادة غير الله، حتّى قالوا له: ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾[10].
الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر
إنّ من البلاءات التي تصيب الإنسان في هذه الحياة الدنيا، بلاءات تتعلّق بالروح والنفس، والتي نعبّر عنها أحياناً بالبلاءات المعنويّة، ومنها الاضطراب والوهن والكآبة والضجر وغير ذلك الكثير.
ولا يخفى أنّ الإنسان في أحيان كثيرة يلجأ إلى ما يخرجه من هذا الضيق، ومن تلك المشاعر المظلمة، بالترفيه والتسلية، وما شاكل ذلك. هذا، وإن كانت تصلح في بعض الأوقات فتكون حلّاً، إلّا أنّها من دون شكّ لن تكون علاجاً نهائيّاً؛ فالدواء الناجع لذلك، أن يقف العبد بين يدي الله -تعالى- متضرّعاً.
مضافاً إلى ذلك، إنّ العديد من الهموم والأحزان التي تصيب قلب الإنسان، إنّما يرجع سببها إلى اقتراف الذنوب والخطايا، فيقع المرء في فريسة ما يقترفه بيديه، فإنّ للذنوب آثاراً على الروح والقلب، لا يجليها إلّا الاستغفار والتوبة واللّجوء إلى الله.
وأكثر الطرق حمايةً من الوقوع فريسة تلك الذنوب، الصلاة، إذ تقيه وتحصّنه من أن يقترب منها.
قال -تعالى-: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾[11].
وقد روي أنّ فتى من الأنصار كان يصلّي الصلاة مع الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) ويرتكب الفواحش، فوصف ذلك لرسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقال: «إنّ صلاته تنهاه يوماً ما»، فلم يلبث أن تاب[12].
وعنه (صلّى الله عليه وآله): «لا يزال الشيطان يرعب من بني آدم ما حافظ على الصلوات الخمس، فإذا ضيّعهن تجرّأ عليه، وأوقعه في العظام»[13].
أيّ صلاة تنفعنا؟
إنّ الصلاة التي وعدنا الله أن يخرجنا بها ممّا نحن فيه من ضيق وهمّ وحزن، وكذلك التي وعدنا بها أن تكون ناهية لنا عن اقتراف الفحشاء والمنكر، هي تلك الصلاة التي تتضمّن الخشوع والخضوع بين يديه، والتي تقام كما أرادها هو -سبحانه وتعالى-، لا أن تكون مجرّد واجب نؤديه ونسقطه عن كاهلنا.
قال -سبحانه-: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾[14].
فالفلاح هو حين تكون الصلاة عن خشوع وخضوع.
وكذلك، بأن لا يستخفّ العبد بها، سواء أكان في أوقاتها أم شروط صحّتها من وضوء وطهارة وما شاكل ذلك، قال -سبحانه-: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُون﴾[15].
وقال -عزّ وجلّ-: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾[16].
[1] سورة البقرة، الآية 45.
[2] سورة طه، الآية 132.
[3] سورة الجمعة، الآية 9.
[4] سورة البقرة، الآية 156.
[5] سورة البقرة، الآية 45.
[6] العلّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، ج1، ص152.
[7] سورة يونس، الآية 87.
[8] سورة المزمّل، الآيتان 1-2.
[9] سورة الصافّات، الآيات 142-144.
[10] سورة هود، الآية 87.
[11] سورة العنكبوت، الآية 45.
[12] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج79، ص198.
[13] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، ج4، ص28.
[14] سورة المؤمنون، الآيتان 1-2.
[15] سورة الماعون، الآيتان 4-5.
[16] سورة المؤمنون، الآية 9.