بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله، محمّدٍ وآله الطيّبين الطاهرين.
جاء في وصيّة أمير المؤمنين (عليه السلام) لولده الإمام الحسن (عليه السلام): «واكْفُفْ عَلَيْهِنَّ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ بِحِجَابِكَ إِيَاهُنَّ؛ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحِجَابِ خَيْرٌ لَكَ ولَهُنَّ مِنَ الِارْتِيَابِ، ولَيْسَ خُرُوجُهُنَّ بِأَشَدَّ مِنْ دُخُولِ مَنْ لَا تَثِقُ بِه عَلَيْهِنَّ؛ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا يَعْرِفْنَ غَيْرَكَ مِنَ الرِّجَالِ فَافْعَلْ»[1].
أولى الإسلام اهتماماً عظيماً بالأعراض، فأمر بحفظها وعدم التعرّض إليها بسوءٍ أو أذى؛ وذلك حفظاً للعمران البشريّ وضماناً للأمن الاجتماعيّ. وفي طريق ذلك، وضع حدوداً للعلاقات الاجتماعيّة بين الناس، تشكّل بمجملها الحدود الشرعيّة والأخلاقيّة الّتي سنّها هذا الدين الحنيف. مضافاً إلى ذلك، حذّر الإسلام من المقدّمات والعوامل والسبل الّتي قد تودي بصاحبها إلى الفساد، وتساعده على الانحراف، ومنها مسألة الاختلاط بين الرجال والنساء.
حكم الاختلاط
إنّ الاختلاط بشكلٍ عام غير محرّم أو ممنوع، إنّما منع الإسلام خصوص الاختلاط المؤدّي إلى الفساد، ولم يقع المنع على الاختلاط نفسه، بل ثمّة عبادات في الشريعة الإسلاميّة يختلط فيها الرجال بالنساء، كالطواف في مناسك الحجّ، وإقامة الصلوات جماعةً وما شاكل.
خطر الاختلاط
لكنّ الاختلاط بشكل عام من المقدّمات الخطيرة جدّاً، الّتي يجب أن يكون الإنسانُ منها على حذر؛ إذ إنّه يشكّل أرضاً خصبةً صالحةً للوقوع في انحرافات سلوكيّة ونفسيّة، وذلك من خلال إزالة الموانع وكسر حواجز الدفاع أمام النفس الأمّارة بالسوء والوساوس الشيطانيّة، فيصبح الإنسان فريسةً سهلةً لإبليس وجنوده، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «النظر سهم من سهام إبليس مسموم، وكم من نظرةٍ أورثَت حسرةً طويلة»[2]، ولا شكّ في أنّ الاختلاط يترتّب عليه نظر وكلام وتواصل، فمع عدم مراعاة الضوابط الشرعيّة في ذلك، يكون الإنسان في مهبّ الخطر. كما أنّه لا شكّ في أنّ الاختلاط يساعد على تطوّر العلاقات، وكسر حواجز الحياء بين الرجل والمرأة، فيصل الأمر إلى المزاح والمفاكهة، وقد ورد عن أبي بصير، قال: كنتُ أُقرئ امرأةً القرآن، وأعلّمها إيّاه، فمازحتُها بشيء، فلمّا قدمْتُ على أبي جعفر (عليه السلام)، قال لي: «يا أبا بصير، أيَّ شيء قلتَ للمرأة؟!»، فقلتُ بيدي هكذا، يعني غطّيتُ وجهي، فقال: «لا تعودنَّ إليها»[3].
فإذا ترتّب على هذه المفاكهة أو المزاح تلذّذ وريبة، ولم يكن مأموناً من الفساد، فإنّه يكون محرّماً، وإنّ تكرار هذه الأمور واعتيادها، قد يُفضي إلى ما هو أعظم من ذلك، كالتعدّي على الأعراض وارتكاب الفواحش؛ ففي الآية الكريمة ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً﴾[4] مثلاً، اختصارٌ بليغٌ لنقاط عديدة؛ فالآية لم تقل «لا تزنوا»، بل لا تقربوا هذا العمل الشائن؛ إذ إنّه ثمّة مقدّمات تجرّ إلى الوقوع الزنا، ينبغي اجتنابها وعدم مقاربتها؛ فخيانة العين مثلاً واحدة منها، والسفور والتعرّي مقدّمة أخرى، وكذلك الخلوة بين المرأة والرجل الأجنبيّ عنها. والاختلاط من هذه المقدّمات أيضاً، فهو -وإن لم يكن من المقدّمات المباشرة الّتي ذُكِرت- يساهم في رفع الحواجز وكسرها شيئاً فشيئاً، خصوصاً مع عدم رعاية الضوابط الشرعيّة، وقد رُوي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «كلُّ المسلم على المسلم حرام؛ مالُه وعرضُه ودمُه»[5].
سُبل الوقاية
يقول الشهيد الشيخ مطهّري: «الإسلام يعارض الاختلاط، ولا يعارض مشاركة المرأة في الحياة الاجتماعيّة مع التحفّظ على الستر. والإسلام يقول: لا للحبس، ولا للاختلاط، بل للحدّ. إنّ سيرة المسلمين العمليّة منذ زمن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، قائمة على عدم منع النساء من المشاركة في الفعاليّات العامّة، ولكن مع رعاية الحدود الشرعيّة»[6].
وإنّ مقتضى رعاية الحدود والضوابط الشرعيّة الالتزام بما يأتي:
1. غضّ البصر عمّا حُرِّم النظر إليه، يقول تعالى: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾[7]، وعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «من ملأ عينه من الحرام، ملأ الله عينه يوم القيامة من النار، إلّا أن يتوب»[8].
2. مراعاة الحجاب والستر، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾[9].
3. عدم إظهار المرأة زينتَها أمام الأجانب، يقول تعالى: ﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾[10].
4. مراعاة العفّة والحياء، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «الحياء يصدّ عن الفعل القبيح»[11].
5. تجنّب الخضوع في القول؛ بمعنى ترقيق المرأة كلامَها بأسلوبٍ يلزم منه الإغراء، فعلى المرأة المسلمة أن تتحدّث بأسلوب متّزن، بعيداً عن الأساليب الّتي تتسبّب بفتنة المستمِع من الرجال، يقول تعالى: ﴿يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا﴾[12].
6. عدم الخلوة، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «لا يخلونّ رجلٌ بامرأة؛ فما من رجل خلا بامرأة إلّا كان الشيطانُ ثالثَهما»[13].
السيّدة الزهراء (عليها السلام) والعفّة
ختاماً، رُوي عن السيّدة الزهراء (عليها السلام) قولها: «خيرٌ للنساء أن لا يرَيْنَ الرجال، ولا يراهُنَّ الرجال»[14]، ومن الواضح أنّها (سلام الله عليها) تبيّن في كلامها الدرجة الأكمل في العلاقة بين الجنسين، وتعالج مسألة الاختلاط الّذي قد يؤثّر سلباً على الطهارة الروحيّة للرجل والمرأة معاً؛ فإنِ استطاعت المرأة الابتعاد عن دائرة الاختلاط فهو خيرٌ لها.
لكن هذا لا يعني العزلة التامّة عن قضايا المجتمع، فإذا اقتضت الحاجة والضرورة إلى المشاركة والعمل، فإنّه ينبغي لها ذلك، لكن مع مراعاة الضوابط الشرعيّة والأخلاقيّة الكاملة، وقد حدّثنا التاريخ عن سيّدة نساء العالمين (عليها السلام) واهتمامها بمحطّات مفصليّة ترتبط بالأمّة، إذ يُروى أنّها حضرَت في معركتَي أحد والخندق، كما خرجَت على الناس في مسجد أبيها (صلّى الله عليه وآله)، عقيب أحداث السقيفة ومنعها فدكاً، تكلّمهم وتخطب فيهم، مُسطِّرةً النموذج الأمثل والأرقى في عمليّة التواصل والخطاب حال الاختلاط، إذ رُوي أنّها (عليها السلام) خرجت، وقد «لاثَت[15] خمارَها على رأسها، واشتملَت بجلبابِها، وأقبلت في لُمَّةٍ[16] من حفدتها ونساء قومها، تَطَأ ذيولَها[17]، ما تَخْرِم[18] مِشْيَتُها مِشيَةَ رسولِ الله (صلّى الله عليه وآله)، حتّى دخلَت...فنيطَت[19] دونَها مُلاءَةٌ[20]، فجلسَت...»[21].
وفي شأن عمل المرأة واختلاطها بالمجتمع، يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «لا يمكن للبلد أن يستغني عن طاقة العمل عند النساء في المجالات المختلفة. ولكن يجب أن لا يتنافى هذا العمل مع كرامة المرأة وقيمتها المعنويّة والإنسانيّة، ويجب أن لا يذلّوا المرأة ولا يدفعوها إلى التواضع والخضوع؛ فالتكبّر مذموم من جميع الناس إلّا من النساء أمام الأجانب؛ فيجب أن تكون المرأة متكبّرةً أمام الرجل الأجنبيّ ﴿فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ﴾. وهذا هو من أجل المحافظة على كرامة المرأة، والإسلام يريد هذا، وهذه هي أسوة المرأة المسلمة»[22].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج5، ص338.
[2] المصدر نفسه، ج5، ص559.
[3] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج3، ص316.
[4] سورة الإسراء، الآية 32.
[5] السجستانيّ، سنن أبي داوود، ج2، ص452.
[6] مسألة الحجاب، ص157.
[7] سورة النور، الآية 30.
[8] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج76، ص234.
[9] سورة الأحزاب، الآية 59.
[10] سورة النور، الآية 31.
[11] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص28.
[12] سورة الأحزاب، الآية 32.
[13] السيّد البروجرديّ، جامع أحاديث الشيعة، ج20، ص309.
[14] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، ص233.
[15] اللوث: الطيّ والجمع، ولاث العمامة: شدّها وربطها، ولاثت خمارها: لفّته، والخمار: المقنعة.
[16] في لُمَّة: في جماعة.
[17] أي إنّ أثوابها كانت طويلة تستر قدميها، فكانت تطؤها عند المشي.
[18] الخرم بضمّ الخاء وسكون الراء: الترك والنقص والعدول.
[19] نيطَت: عُلِّقَت.
[20] المُلاءَة: الإزار.
[21] الشيخ الطبرسيّ، الاحتجاج، ج1، ص132.
[22] من كلامٍ له (دام ظلّه)، بتاريخ 17/12/1992م.