بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله، سيّدِ المرسلين محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
جاء في الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام): «يابن جندب، إنْ أحببتَ أن تُجاور الجليل في داره، وتسكن الفردوس في جواره، فَلْتَهُنْ عليك الدنيا، واجعلِ الموتَ نصبَ عينَيك، ولا تدّخر شيئاً لغدٍ، واعلم أنّ لك ما قدّمتَ، وعليك ما أخّرتَ»[1].
جيران الله تعالى
في هذه الوصيّة المباركة، يدعونا الإمام الصادق (عليه السلام) لنكون من جيران الله تعالى: «إنْ أحببتَ أنْ تُجاور الجليل في داره، وتسكن الفردوس في جواره»، تاركاً لنا الخيار في أن نستجيب لها أو لا نستجيب، ثمّ بيّن لنا ما الذي يتوجّب علينا إن أجبنا هذه الدعوة.
يدعونا الإمام الصادق (عليه السلام) إلى مجاورته تعالى في داره، دار البقاء والسلامة، التي لا موت فيها، ولا هرم، ولا سَقَم، ولا مرض، ولا آفة، ولا زوال، ولا زمانة، ولا غمّ، ولا همّ، ولا حاجة، ولا فقر. إنّها دار الغنى والسعادة، دار المقامة والكرامة، لا يمسّ أهلَها فيها نصب، ولا يمسّهم فيها لغوب، لهم فيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين، وهم فيها خالدون. إنّها دارٌ، أهلُها جيران اللّه، وأولياؤه، وأحبّاؤه، وأهل كرامته، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «واعْلَمُوا أَنَّه ﴿مَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَه مَخْرَج﴾[2] مِنَ الْفِتَنِ، ونُوراً مِنَ الظُّلَمِ، ويُخَلِّدْه فِي مَا اشْتَهَتْ نَفْسُه، ويُنْزِلْه مَنْزِلَ الْكَرَامَةِ عِنْدَه فِي دَارٍ اصْطَنَعَهَا لِنَفْسِه، ظِلُّهَا عَرْشُه، ونُورُهَا بَهْجَتُه، وزُوَّارُهَا مَلَائِكَتُه، ورُفَقَاؤُهَا رُسُلُه»[3].
من أعمال جيران الله
وإنّ هذه الدار لا يقطنها إلّا ملأٌ كِرامٌ من عباد الله، كانت أعمالهم في الدنيا كلّها باسم الله، ومن الله، وإلى الله، وفي سبيل الله، وعلى ملّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
عن الإمام السجّاد (عليه السلام): «إذا كان يوم القيامة، جمع الله تبارك وتعالى الأوّلين والآخرين في صعيدٍ واحد، ثمّ يُنادي منادٍ: أَيْنَ جِيرَانُ اللهِ فِي دَارِهِ؟ فَيَقُومُ عُنُقٌ آخَرُ مِنَ النَّاسِ، فَتَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ: بِمَ جَاوَرْتُمُ اللهَ؟ فَيَقُولُونَ: (كُنَّا نَتَبَادَرُ فِي اللهِ) نَتَبَاغَضُ فِي اللهِ، وَنَتَحَابَبُ فِي اللهِ، وَ(نَتَشَارَكُ) نَتَبَاذَلُ فِي اللهِ، وَنُحَاسِبُ فِي اللهِ، وَنَتَبَارَكُ فِي الله»[4].
هوان الدنيا على المؤمن
ثمّ يُحدّد الإمام الصادق (عليه السلام) في وصيّته الشريفة المعايير والشروط اللازمة لإجابة الدعوة الكريمة، والظفر بذلك المقام السامي، فيقول (عليه السلام): «إنْ أحببتَ أن تجاور الجليل في داره، وتسكن الفردوس في جواره، فَلْتَهُنْ عليك الدنيا».
لقد أراد الإمام (عليه السلام) بهذا الشرط أن تكون للمؤمن سنّة من الله تعالى؛ وذلك أنّ الدنيا هيّنة عليه سبحانه، ومن هوانها عليه أنّ الكافر منعّمٌ فيها. لكن كيف يمكن تطبيق هذا الشرط عمليّاً؟
يُجيبنا أمير المؤمنين (عليه السلام)، قائلاً: «مَن كرُم دينُه عنده، هانت الدنيا عليه»[5]، و«ما كرُمت على عبدٍ نفسُه، إلّا هانت الدنيا في عينِه»[6].
إنّ من تفكّر أبصر الحقَّ وطرقَه الموصلة إليه، وهانت الدنيا وما فيها عنده؛ لما يرى من كثرة انقلابها على أهلها، وعدم الوفاء لهم، فيحصل له كمال الميل إلى المولى الحقّ، ويصرف نفسه عن ميدان الطغيان، ويُجريها في مضمار الطاعة ومرضاة الرحمن.
وقد أخبرنا الله تعالى عن حقيقة الدنيا بقوله: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثمّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثمّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾[7].
وعن النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله): «كُنْ في الدنيا كأنّك غريب أو عابر سبيل»[8]، فلا ينبغي للمؤمن أن يتّخذ الدنيا داراً يطمئنّ فيها، وأن يعدّ الجهاز لبُعد المجاز.
واجعَلِ الموتَ نصبَ عينَيك
ثمّ يقول الإمام الصادق (عليه السلام) في وصيّته: «واجعل الموتَ نصبَ عينيك».
في الواقع، إنّ أصحاب العقول لا يغترّون بطول الأمل، وهم يرَون في كلّ صباح ومساء أجناس الناس الذين ينتقلون إلى الدار الآخرة، ممّن هم أقوى منهم أبداناً وأكثر أموالاً، فعن الإمام عليّ (عليه السلام): «مَن أيقن أنّه يُفارق الأحباب، ويسكن التراب، ويواجه الحساب، ويستغني عمّا خلّف، ويفتقر إلى ما قَدّم، كان حريّاً بقصر الأمل وطول العمل»[9].
إنّ المسلم إذا استحضر الموت، وجعله نصب عينَيه، اجتهد في الطاعة، ونشط في العبادة، ومن يفعل ذلك أُكرم بتعجيل التوبة، وقناعة القلب.
لك ما قدّمتَ وعليك ما أخّرت
ثمّ يختم الإمام الصادق (عليه السلام) ووصيّته، فيقول: «واعلم أنّ لك ما قدَّمْتَ، وعليك ما أخَّرْتَ»، وخير مثال لبيان هذه الكلمة المباركة التي نطق بها الإمام (عليه السلام)، ما رواه سويد بن غفلة، فقال: دخلتُ على أمير المؤمنين (عليه السلام) داره، فلم أرَ في البيت شيئاً، فقلتُ: فأين الأثاث، يا أمير المؤمنين؟ فقال: «يا بن غفلة، نحن أهل البيت لا نتأثّث في الدنيا، نَقَلْنا أجلَّ متاعنا إلى الآخرة؛ فإنّ مثَلَنا في الدنيا كراكبٍ تحت شجرة، ثمّ راح وتركها»[10].
كما حذّرنا الله تعالى ورسوله (صلّى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام) من هذه الدنيا، وطلبوا منّا أن تكون أعمالنا أعمال أبناء الآخرة، فعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «إنّ الله يُعطي الدنيا مَن يُحبّ ويُبغض. وإذا أحبّ الله عبداً أعطاه الإيمان. ألا إنّ للدين أبناء، وللدنيا أبناء، فكونوا من أبناء الدين، ولا تكونوا من أبناء الدنيا. ألا إنّ الدنيا قد ارتحلت مولّية، والآخرة قد ارتحلت مقبلة. ألا وإنّكم في يوم عمل ليس فيه حساب. ألا وإنّكم توشكون في يوم حساب وليس فيه عمل»[11].
نتيجة أعمال جيران الله
في الختام، إنّ لله الكريم عوائدَ كثيرة على جيرانه، منها ما عن أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام): «جيران الله، يتمنَّون عليه فيُعطيهم ما تمنَّوه، ولا يردّ لهم دعوة، ولا ينقص لهم نصيباً من اللذّة...»[12].
وعنه (عليه السلام): «فَبَادِرُوا بِأَعْمَالِكُمْ تَكُونُوا مَعَ جِيرَانِ اللَّه فِي دَارِه، رَافَقَ بِهِمْ رُسُلَه، وأَزَارَهُمْ مَلَائِكَتَه، وأَكْرَمَ أَسْمَاعَهُمْ أَنْ تَسْمَعَ حَسِيسَ نَارٍ أَبَداً، وصَانَ أَجْسَادَهُمْ أَنْ تَلْقَى لُغُوباً ونَصَباً، ﴿ذلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيه مَنْ يَشاءُ والله ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾»[13].
وعن الإمام الباقر (عليه السلام): «جيران الله في داره يخاف الناس ولا يخافون، ويُحاسَب الناس ولا يُحاسَبون»[14].
ونختم بحديث الإمام الصادق (عليه السلام): «نحن جيران الله غداً في داره، فمن قبِل منّا وأطاعنا، فهو في الجنّة»[15].
[1] ابن شعبة الحرّانيّ، تحف العقول، ص315.
[2] سورة الطلاق، الآية 2.
[3] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص266، الخطبة 183.
[4] الكوفيّ، الزهد، ص93.
[5] الآمديّ التميميّ، غرر الحكم ودرر الكلم، ص625.
[6] المصدر نفسه، ص701.
[7] سورة الحديد، الآية 120.
[8] الإحسائيّ، عوالي اللآلئ، ج1، ص202.
[9] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج70، ص169.
[10] الديلميّ، إرشاد القلوب، ج1، ص20 - 21.
[11] الغزاليّ، إحياء علوم الدين، ج15، ص110.
[12] الشيخ المفيد، الأمالي، ص263.
[13] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص268، الخطبة 183.
[14] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج71، ص393.
[15] القاضي النعمان المغربيّ، دعائم الإسلام، ج1، ص50.