بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على خير خلقه محمّد، وآله الطيّبين الطاهرين.
إلى مولانا بقيّة الله (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء)، ونائبه وليّ أمر المسلمين الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، والأمّة الإسلاميّة جمعاء، نرفع أسمى آيات العزاء بذكرى شهادة باب الحوائج الإمام موسى الكاظم (عليه السلام).
هو سابع أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، العبد الصالح، وباب الحوائج إلى الله. أبوه الإمام الصادق (عليه السلام)، وأمّه السيّدة حميدة، من أجلّ بيوت الأعاجم، فيها يقول الإمام الصادق (عليه السلام): «حميدة مُصفّاة من الأدناس كسبيكة الذهب، ما زالت الأملاكُ تحرسها حتّى أُدِّيَت إليّ كرامةً من الله لي والحجّةِ من بعدي»[1].
حين ولادته (عليه السلام)، أخذه الإمام الصادق (عليه السلام)، مجرياً له مراسيم الولادة الشرعيّة، فأذّن في اُذنه اليمنى، وأقام في اليسرى، وقال مخاطباً أصحابه: «سلّمها الله [أي السيّدة حميدة]، وقد وهب لي غلاماً، وهو خير من برأ الله في خلقه»[2].
وكانت ولادته سنة 128هـ، وقيل سنة 129هـ، وذلك في أيّام حكم عبد الملك بن مروان. وتكلّم يوماً بين يدي أبيه (عليه السلام)، فأحسن، فقال له: «يا بُنيّ، الحمد لله الذي جعلك خلفاً من الآباء، وسروراً من الأبناء، وعوضاً عن الأصدقاء»[3].
صفاته وألقابه
كان (عليه السلام) جليل القدر، عظيم المنزلة، مهيب الطلعة، كثير التعبّد، عظيم الحلم، وكان له ألقابٌ عديدة، تدلّ على بعضٍ من مظاهر شخصيّته الكريمة، وجملة من جوانب عظمته، نذكر منها:
الكاظم: وهو أبرز ألقابه، وإنّما لُقِّب به لكظم غيظه، عمّا فعله الظالمون به وبشيعته من التنكيل والاضطهاد، وقد لاقى من المحن ما تنهدّ لهولها الجبال، حتّى قضى شهيداً مسموماً في ظلمات السجون، صابراً محتسباً كآبائه وأجداده (عليهم السلام).
العالِم: لقد كان أفقه أهل زمانه وأعلمهم، وقد أخذ العلماء عنه فأكثروا، وروَوا عنه في فنون العلم ما ملأ بطونَ الدفاتر، وألّفوا في ذلك المؤلّفات الكثيرة المرويّة عنهم بالأسانيد المتّصلة؛ لذا كان يُعرَف بين الرواة بهذا اللقب. وقد شهد له بوفور علمه أبوه الإمام الصادق (عليه السلام)، إذ قال فيه لأحد أصحابه: «يا عيسى، إنّ ابني هذا الذي رأيت، لو سألتَه عمّا بين دفّتي المصحف، لأجابك فيه بعلم»[4]، وقال فيه أيضاً: «وقد علم الحكم والفهم والسخاء، والمعرفة بما يحتاج إليه الناس، وما اختلفوا فيه من أمر دينهم ودنياهم، وفيه حسن الخلق وحسن الجواب، وهو باب من أبواب الله عزّ وجلّ، وفيه أخرى خير من هذا كلّه»[5].
العبد الصالح: لقد كان (عليه السلام) أعبد أهل زمانه، وكان يُدعى بهذا اللقب لعبادته واجتهاده، وهو القائل لمّا أودعه هارون العبّاسيّ في ظلمات السجون، شاكراً الله على تفرّغه لطاعته: «اللهمّ، إنّك تعلم أنّي كنت أسألك أن تفرّغني لعبادتك. اللهمّ، وقد فعلت، فلك الحمد»[6].
خليفتان يُجبى إليهما الخراج
امتدّت إمامته (عليه السلام) خمساً وثلاثين سنة، من عام 148 إلى عام 183 هجريّة، وهي من أهمّ المراحل في مسيرة الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)؛ إذ عاصر الإمام (عليه السلام) فيها أكثر سلاطين بني العبّاس اقتداراً، المنصور وهارون، وأكثرهم تجبّراً، المهديّ والهادي.
يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) عن هذه المرحلة: «إنّ حياة موسى بن جعفر، أي إمامته، بدأت في أصعب المراحل والمقاطع الزمنيّة. فباعتقادي لا يوجد عصر من بعد عصر الإمام السجّاد (عليه السلام) بشدّة وصعوبة عصر موسى بن جعفر (عليه السلام). فموسى بن جعفر (عليه السلام) صار إمامًا عام 148 بعد وفاة أبيه الإمام الصادق (عليه السلام). وفي هذا العام كانت أوضاع بني العبّاس قد استتبَّت، بعد فراغهم من الصراعات والخلافات والحروب الّتي كانت دائرة فيما بينهم في بداية حكمهم»[7].
وعلى الرغم من هذا الخناق والاضطهاد والتضييق إلى درجة أنّه ورد عنه (عليه السلام) أنّه «دخل بعض قرى الشام متنكّراً هارباً، فوقع في غار...»[8]، كانت حياته جهاداً طويلاً، ومواجهةً منظّمةً، استطاع من خلالها تعزيز دائرة المحبّين والموالين لأهل البيت (عليهم السلام) في جميع أرجاء العالم الإسلاميّ، وممّا يشير إلى ذلك قصّته (عليه السلام) مع ابن أخيه محمّد بن إسماعيل، الذي دخل عليه يستأذنه في الخروج إلى العراق، ويطلب منه أن يوصيَه، فقال (عليه السلام): «أوصيك أن تتّقي الله في دمي...»، فخرج إلى العراق، فلمّا أتى باب هارون استأذن للدخول عليه، فأذِن له، فقال محمّد بن إسماعيل لهارون: يا أمير المؤمنين، خليفتان في الأرض؛ موسى بن جعفر بالمدينة يُجبى له الخراج، وأنت بالعراق يُجبى لك الخراج، فقال: والله؟! فقال: والله[9].
فهذا التعبير «خليفتان»، وإن كان نابعاً عن حقد وخبثٍ، ويبتغي السعاية والوشاية بالإمام، ولكنّه يتكلّم على ما هو واقع، ويبيّن ما كان عليه الإمام الكاظم (عليه السلام) في العالم الإسلاميّ من علاقات وشبكات. لقد كان الإمام الكاظم (عليه السلام) يشكّل أكبر خطر على حكومة هارون.
البعثة النبويّة وجهاد الإمام الكاظم (عليه السلام)
نعم، إنّ جهاد هذا الإمام العظيم (عليه السلام) كان استكمالاً لجهاد آبائه (عليهم السلام) وجدّه (صلّى الله عليه وآله)، هذا الإنسان الكامل الذي بدأ جهاده منذ اللحظة الأولى من البعثة في السابع والعشرين من شهر رجب الأصبّ، وحتّى رحيله عن هذه الدنيا، جهاداً شاملاً بلغ أعلى درجات المشقّة والمكابدة؛ إذ بُعِث (صلّى الله عليه وآله) في بيئةٍ يعمّها ظلامٌ حالك، بيئة حبّ الدنيا واتّباع الشهوات والظلم والرذائل الأخلاقيّة، بيئة التعسّف والتسلّط على الضعفاء، بيئةٍ يصفها أمير المؤمنين (عليه السلام) قائلاً: «في فِتَنٍ دَاسَتْهُمْ بِأَخْفَافِهَا، وَوَطِئَتْهُمْ بأَظْلاَفِهَا، وَقَامَتْ عَلَى سَنَابِكِهَا»[10].
ولقد كان الهدف الأساس لهذه البعثة ما رُوي عنه (صلّى الله عليه وآله)، في حديثٍ مشهورٍ ومتواتر، أنّه قال: «إنّما بُعثتُ لأتمّم مكارم الأخلاق»[11]، يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «فإنّ البعثة قد وُجدَت في هذا العالَم لأجل هذا الهدف، من أجل تعميم المكارم الأخلاقيّة والفضائل الروحيّة، وتكميلها عند الناس»[12].
وهذا ما عمل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على تحقيقه، إذ بنى القواعد الأولى للأمّة الإسلاميّة في مكّة المكرّمة، مواجهاً القيم الجاهليّة في صراع مرير دام ثلاث عشرة سنة، لتكون مقدِّمةً للسنوات العشر في المدينة المنوّرة، التي أرسى فيها قواعد النظام الإسلاميّ ورسم النموذج الكامل للحكم الإسلاميّ، الذي يقوم على معالم كثيرة، أهمّها: الإيمان والعدل والعلم والمعرفة والصفاء والأخوّة والصلاح الأخلاقيّ والسلوكيّ والاقتدار والعزّة والتقدّم المطّرد[13].
لكن، وبعد رحيل النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، انقلب الناس على وصيّته، وانحرفوا عن المسار الذي رسمه لهم بأمرٍ من الله تعالى، في اتّباع ولاية أهل البيت (عليهم السلام)، والتي تضمن حفظ الأهداف التي لأجلها بُعث رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقد وصل الأمر بعد شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) إلى مرحلةٍ يقول عنها الإمام السجّاد (عليه السلام): «ما بمكّة ولا بالمدينة عشرون رجلاً يحبّنا»[14].
والذي أعاد البوصلة إلى مسارها الصحيح والمستقيم، هو جهاد الأئمّة (عليهم السلام)، الذي استمرّ طيلة 250 سنة، فحافظ على ما جاءت به البعثة النبويّة الشريفة، وأثمرَت قاعدةً شعبيّةً واسعة، يُكنّى عنها في زمن الإمام الكاظم (عليه السلام) بعبارة «خليفتان يُجبى إليهما الخراج».
لذلك أوعز هارون العبّاسيّ إلى السنديّ بن شاهك ليقتل الإمام (عليه السلام)، فعمد إلى رطب، وضع فيه سمّاً فاتكاً، وقدّمه للإمام، فأكل منه عشر رطبات، فقال له السنديّ: «تزداد»، فقال (عليه السلام): «حسبك، قد بلغت ما تحتاج إليه في ما أُمرتَ به»[15].
والمشهور أنّ شهادته (عليه السلام) كانت سنة 183هـ لخمسٍ بقين من شهر رجب، وقيل سنة 186هـ.
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج1، ص477.
[2] المصدر نفسه، ج1، ص385.
[3] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، ج2، ص135.
[4] الحميريّ القمّيّ، قرب الإسناد، 335.
[5] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج1، ص314.
[6] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص240.
[7] الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، إنسان بعمر 250 سنة، ص318.
[8] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج3، ص427.
[9] راجع: العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج48، ص240.
[10] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص47، الخطبة 2.
[11] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج68، ص382.
[12] الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، إنسان بعمر 250 سنة، ص23.
[13] راجع: الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، إنسان بعمر 250 سنة، ص28.
[14] إبراهيم بن محمّد الثقفيّ الكوفيّ، الغارات، ج2، ص573.
[15] حسين بن عبد الوهّاب، عيون المعجزات، ص95.