بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
نبارك لوليّ أمر المسلمين الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، ولمراجعنا وقادتنا العِظام، وللأمّة الإسلاميّة جمعاء، ذكرى ولادة صاحب العصر والزمان (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء) في الخامس عشر من شهر شعبان، سنة 255 للهجرة، سائلين المولى أن يعجّل فرجه الشريف، وأن يجعلنا من أنصاره وأعوانه، وأن يكرمنا بالشهادة بين يديه.
كما نبارك لكم أيضاً ذكرى ولادةِ عليٍّ الأكبر، في الحادي عشر من شهر شعبان، سنة 33 للهجرة.
من رسالة الإمام المهديّ (عجّل الله فرجه) إلى الشيخ المفيد (قُدِّس سرُّه): «فليعملْ كلُّ امرىءٍ منكم بما يَقرُب به من محبَّتِنا، ويتجنَّبْ ما يُدنيهِ من كراهتِنا وسخطِنا»[1].
إنّ فكرة المُصلِح السماويّ هي محلّ اتّفاق كلمة الأديان والأمم والمذاهب، يأتي في آخر الزمان مُصلِحاً ما فسد من العالَم، ومُزيحاً ما ساد من الظلم والفساد، وناشراً العدلَ والحقّ. وإنّ فكرة المهدويّة هي محلّ اتّفاق المسلمين، بأنّ ذاك المُصلِح هو الإمام المهديّ (عجّل الله فرجه) الّذي يملأ الأرضَ قسطاً وعدلاً، كما مُلِئت ظلماً وجوراً، بل إنّ الاعتقاد بالمهدويّة هو من ضروريّات الإسلام؛ إذ إنّ الأخبار والروايات قد تواترت عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعن الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، مُبشِّرةً بظهور الإمام المهديّ (عليه السلام). وفي هذا الشأن، ثمّة نكاتٌ تنبغي الإشارةُ إليها:
الأولى: إمامتُه (عليه السلام) امتدادٌ للنبوّة
إنّ الإمامةَ رئاسةٌ عامّة في أمور الدين والدنيا، ووظائفها مستمدّة من النبوّة، لناحية قيادة المجتمع وإدارة شؤون الأمّة والدولة، ومرجعيّة دينيّة، وولاية أمرٍ عامّةٍ للمسلمين كافّة. وإنّ وجودَ الإمام المهديّ (عليه السلام) هو استمرارٌ لهذه النبوّة، وبالتالي استمرارٌ للدعوة الإلهيّة الّتي بدأت مع النبيّ آدم (عليه السلام)، وانتهَت برسول الله الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، كما هو واضحٌ في دعاء الندبة: «اللّهُمَّ لَكَ الحَمدُ عَلى ما جَرى بِهِ قَضاؤُكَ فِي أَوْلِيائِكَ الَّذينَ اسْتَخْلَصْتَهُمْ لِنَفْسِكَ وَدِينِكَ... فَبَعْضٌ أَسْكَنْتَهُ جَنَّتَكَ، إِلى أَنْ أَخْرَجْتَهُ مِنها، وَبَعْضٌ حَمَلْتَهُ فِي فُلْكِكَ، وَنَجَّيْتَهُ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ مِنَ الهَلَكَةِ بِرَحْمَتِكَ... إِلى أَنِ انْتَهَيْتَ بِالأَمْرِ إِلى حَبِيبِكَ وَنَجِيبِكَ مُحَمَّدٍ (صَلّى الله عَلَيْهِ وَآلِه)»[2]، إلى أن يصل إلى الوصيّة الّتي جُعِلت لأهل البيت (عليهم السلام)، فيقول: «فَلَمّا انْقَضَتْ أَيّامُهُ، أَقامَ وَلِيَّهُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طالِبٍ (صَلَواتُكَ عَلَيْهِما وَآلِهِما) هادِياً، إِذْ كانَ هُوَ المُنْذِرَ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ... وَلَمَّا قَضى نَحْبَهُ، وَقَتَلَهُ أَشْقى الآخِرينَ يَتْبَعُ أَشْقَى الأوّلِينَ، لَمْ يُمْتَثَلْ أَمْرُ رَسُولِ الله (صَلّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ) فِي الهادِينَ بَعْدَ الهادِينَ»، ثمّ يُشير بعد ذلك إلى وراثة الأرض لِمَن يشاء من عباده، فيقول: «إِذْ كانَتِ الأرْضُ للهِ، يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ»، وهذا اقتباسٌ قرآنيّ؛ إذ يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾[3]، ويبيّن الإمام الباقر (عليه السلام) المقصودَ بهذه الآية، فيقول: «وجدْنا في كتاب عليٍّ (عليه السلام): أنا وأهلُ بيتي الّذين أُورِثنا الأرض، ونحن المتّقون، والأرضُ كلُّها لنا»[4].
يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «فالجميعُ سلسلةٌ متّصلة ومرتبطةٌ ببعضها في تاريخ البشريّة؛ وهذا معناه أنّ تلك الحركة العظيمة للنبوّات وتلك الدعوات الإلهيّة بواسطة الرسل، لم تتوقّف في أيّ مقطعٍ من الزمان. فالبشريّة تحتاج إلى الأنبياء والدعوات الإلهيّة، والدُعاة الإلهيّين، وهذا الاحتياج باقٍ إلى يومنا هذا، وكلّما مرّ الزمان، فإنّ البشرَ يُصبحون أقرب إلى تعاليم الأنبياء»[5].
فالإمام المهديّ (عليه السلام) هو الّذي يرث الأنبياءَ (عليهم السلام)، ويدعو البشريّةَ إلى تلك المعارف الّتي جاؤوا بها عن الله تبارك وتعالى.
وإنّ ما يعزّز هذا الاعتقادَ بهذه السلسلة المتّصلة أيضاً مجموعةُ الأخبارِ الّتي أكّدت أنّ الأرضَ لا تخلو من حجّة لله، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّ الله أجلُّ وأعظم من أن يترك الأرضَ بغير إمام عادل»[6]، وعن الإمام الباقر (عليه السلام): «والله، ما ترك اللهُ أرضاً منذ قبض آدم، إلّا وفيها إمامٌ يُهتدى به إلى الله، وهو حجّتُه على عباده، ولا تبقى الأرضُ بغير إمامٍ حجّةٍ لله على عباده»[7].
الثانية: المعنى الحقيقيّ للانتظار
لقد حثَّت روايات عديدة على انتظار الفرج، وجعلته أفضل العبادات، كما عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «أفضلُ العبادةِ انتظارُ الفرج»[8]. وللانتظار مفهومٌ واسعٌ جدّاً، فليس معناه السكون والقعود إلى أن تصلح الأمورُ بنفسها؛ فهذا يعني الاستسلامَ أمام الظروف، وما تحويه من فسادٍ وظلمٍ وانحراف...
إنّ الانتظار يعني الوعيَ واليقظة، يعني التحرّكَ والعمل، بل عُدَّ انتظارُ الفرج في الروايات من أفضل الأعمال، بل إنّه أحبّ الأعمال إلى الله تعالى، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «انتظروا الفرج، ولا تيأسوا من روح الله؛ فإنّ أحبَّ الأعمال إلى الله عزّ وجلّ انتظارُ الفرج، ما دام عليه العبد المؤمن»[9].
فالانتظار عملٌ لا بطالة، وهو سعيٌ للأفضل والأصلح، وعدم الرضا بالوضع الحاليّ لحياة البشر، وهو اعتقادٌ بأنّ الوضعَ الّذي أراده اللهُ للبشريّة سوف يتحقّق على يد صاحب الزمان (عليه السلام)، وبالتالي يجب علينا إعدادُ النفس لتلك الظروف والشرائط، بل يجب الجهادُ في هذا المجال، وقد بيّنَت الروايات أنّ الانتظارَ توأمٌ مع الجهاد، يقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «أفضلُ جهادِ أمّتي، انتظارُ الفرج»[10]، وسأل أحدُهم الإمامَ الصادق (عليه السلام): ما تقول في مَن مات على هذا الأمرِ منتظراً له؟ قال (عليه السلام): «هو بمنزلةِ مَن كان مع القائمِ (عليه السلام) في فسطاطِه»، ثمّ سكت هنيئة، ثمّ قال: «هو كمن كان مع رسولِ الله (صلّى الله عليه وآله)»[11].
إذاً، فالانتظار يعني الاستعدادَ التامَّ والشاملَ للأفراد والمجتمعات، وعلى مختلف المستويات البنيويّة والسياسيّة والعسكريّة والعلميّة، وهذا هو الثبات الّذي يشير إليه أميرُ المؤمنين (عليه السلام)، إذ يقول: «للقائمِ منّا غيبةٌ، أمدُها طويل، كأنّي بالشيعة يجولون جَوَلانَ النَّعَمِ[12] في غيبتِه، يطلبون المرعى فلا يجدونه، ألا فمَن ثَبَتَ منهم على دينِه، ولم يقسُ قلبُه لطولِ غيبةِ إمامِه، فهو معي في درجتي يوم القيامة»[13]، وعن الإمام عليّ بن الحسين (عليهما السلام): «إنّ للقائمِ منّا غيبتَين؛ إحداهما أطولُ من الأخرى... وأمّا الأخرى فيطول أمدُها، حتّى يرجعَ عن هذا الأمر أكثرُ مَن يقول به، فلا يثبُت عليه إلّا من قَوِي يقينُه، وصحَّت معرفتُه، ولم يجد في نفسه حرجاً ممّا قضينا، وسلّم لنا أهلَ البيت»[14].
الثالثة: الارتباط بالإمام المهديّ (عليه السلام)
يُمثّل الارتباط بالإمام الحجّة (عجّل الله فرجه) عنوانَ الأمل في حياة المسلمين، بصفته خاتم الوصيِّين الّذي ترتبط قضيّتُه ارتباطاً وثيقاً بمستقبل الإنسان وحاضره، ولبناء العلاقة مع الإمام (عجّل الله فرجه) ينبغي الالتفاتُ إلى أمور، أهمُّها:
1. المعرفة الحقيقيّة: والمراد من المعرفة هنا سلامة الاعتقاد والإيمان به (عليه السلام)، لا مجرّد المعرفة التاريخيّة فحسب، عن الإمام الباقر (عليه السلام): «من مات وليس له إمام، فميتتُه ميتةٌ جاهليّة، ومن مات وهو عارفٌ لإمامه، لم يضرُّه، تقدَّمَ هذا الأمرُ أو تأخَّر، ومن مات وهو عارفٌ لإمامه، كان كمَن هو مع القائمِ في فسطاطِه»[15].
2. البيعة للإمام (عليه السلام): وتعني الاعتقادَ بولايته والتسليمَ بها، وأنّها ولايةُ اللهِ ورسولِه، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «مَن مات وليس في رقَبتِه بيعة لإمام، مات ميتة جاهليّة، ولا يُعذَر الناسُ حتّى يعرفوا إمامَهم»[16].
3. الارتباط الروحيّ والعاطفيّ بالإمام: يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «إنّ هذا الإنسانَ الّذي اصطفاه الله، موجودٌ اليوم، ويجب أن نقوّيَ علاقتَنا به من الناحية الشخصيّة والقلبيّة والروحيّة، مضافاً إلى الجانب الاجتماعيّ والسياسيّ... فليجعلْ كلُّ واحدٍ من أبناء مجتمعنا توسّلَه بوليّ العصر وارتباطَه به، ومناجاتَه معه، وسلامَه عليه، وتوجّهَه إليه، تكليفاً وفريضةً، وليدعو له كما لدينا في الروايات، وهو الدعاء المعروف «اللهمّ كُن لوليِّك»[17]، الّذي يُعَدّ من الأدعية الكثيرة الموجودة، وتوجد زياراتٌ في الكتب، هي جميعاً مضافاً إلى وجود البعد الفكريّ والوعي والمعرفة فيها، يوجد فيها أيضاً بعدٌ روحيّ وقلبيّ وعاطفيّ وشعوريّ، وهو ما نحتاج إليه أيضاً. إنّ أطفالَنا وشبابَنا ومجاهدينا في الجبهة يحصلون على الروحيّة والمعنويّات بالتوجّه والتوسّل بإمام الزمان، ويفرحون ويتفاءلون. وببكاء الشوق ودموعِه المنهمرة يُقرّبون قلوبَهم إليه»[18].
[1] الشيخ المفيد، المزار، ص9.
[2] الشيخ عبّاس القمّيّ، مفاتيح الجنان، من دعاء الندبة، ص769.
[3] سورة الأعراف، الآية 128.
[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج1، ص407.
[5] الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، إنسان بعمر 250 سنة، ص372.
[6] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج1، ص178.
[7] المصدر نفسه، ج1، ص179.
[8] الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص287.
[9] الشيخ الصدوق، الخصال، ص616.
[10] ابن شعبة الحرّانيّ، تحف العقول، ص37.
[11] البرقيّ، المحاسن، ج1، ص173.
[12] الإبل والشاة، وقيل: الإبل خاصّة.
[13] الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص303.
[14] المصدر نفسه، ص324.
[15] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج1، ص371.
[16] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج27، ص126.
[17] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج4، ص162.
[18] الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، إنسان بعمر 250 سنة، ص387.