بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.
عن المفضّل بن عمر، قال: سألتُ أبا عبد الله [الإمام الصادق] (عليه السلام) عن الصراط، فقال: «هو الطريقُ إلى معرفة الله عزّ وجلّ، وهما صراطان: صراطٌ في الدنيا، وصراطٌ في الآخرة. وأمّا الصراط الّذي في الدنيا فهو الإمامُ المُفترَض الطاعة، من عرفَه في الدنيا واقتدى بهداه، مرّ على الصراط الّذي هو جسر جهنّم في الآخرة، ومن لم يعرفْه في الدنيا، زلَّت قدمُه عن الصراط في الآخرة، فتردّى في نار جهنّم»[1].
معنى الصراط
إنّ الصراطَ في معناه الأصليّ يدلّ على الطريق والمنهج الّذي يسلكه المرءُ ويغيب فيه، وقد وصف القرآنُ الكريمُ الطريقَ الحقَّ الّذي ينبغي اتّباعُه للوصول إلى الله تعالى بالاستقامة، مضيفاً الصراطَ إليه جلّ وعلا، إذ يقول: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[2]، وكذلك وصفه بالسويّ في مواضعَ أخرى، إذ يقول: ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا﴾[3]؛ وذلك تمييزاً لصراط الحقّ عن صراط الباطل الّذي يبتلع الداخلين فيه ويغيّبُهم في أعماقِ ظلماته، ثمّ يمضي بهم في انحرافه واعوجاجه، فلا يُفضي في النهاية إلّا إلى الجحيم، قال تعالى: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ﴾[4].
استقامة الصراط ودقّته
وإنّ صفةَ الاستقامة لها دلالةٌ على التوسّط والاعتدال في الحركة والمسير، فلا مَزلّة إلى يمينٍ، ولا مَضلّة إلى شمال. ولها كذلك دلالةٌ على السرعة في بلوغ الغاية؛ ذلك أنّ استقامةَ الخطّ تجعله أقصر مسافةً بين مبدئه ومنتهاه، في حين يَسِم الاعوجاجُ الطريقَ بِسمات الطول والبطء والانحراف.
ومضافاً إلى صفة الاستقامة، وُصِف الصراطُ بصفتين أُخريَين تكشفان عن واقعيّة دقيقة، إذ عبّرَت عنه رواياتُ النبيّ وآله الأطهار (عليهم السلام) بأنّه «أدقّ من الشَّعرة، وأحدّ من السيف»[5]، فماذا تعني هاتان الصفتان في حاضر الإنسان ومستقبله حين يدخل في حقائق يوم القيامة؟ وهل يكون صراط الله المستقيم على هذه الشاكلة من الدقّة والحدّة؟
الصراط المستقيم صراطان
يظهر من الروايات أنّ الصراطَ المستقيمَ صراطان؛ أحدهما في الدنيا، والثاني في الآخرة، يقول الإمام العسكريّ (عليه السلام) في آية ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾[6]: «الصراط المستقيم هو صراطان؛ فأمّا الصراط المستقيم في الدنيا فهو ما قَصُر عن الغلوّ، وارتفع عن التقصير، واستقام فلم يَعدِل إلى شيء من الباطل. وأمّا الطريق الآخر فهو طريق المؤمنين إلى الجنّة الّذي هو مستقيم، لا يعدلون عن الجنّة إلى النار، ولا إلى غير النار سوى الجنّة»[7].
فهذه الرواية تكشف عن ارتباط الصراط بالمنهج الإلهيّ الّذي أعدّه الله لتتعرّفه البشريّةُ وتهتدي به، والّذي كان حُججُ الله من أنبياء وأوصياء (عليهم السلام) داعين إليه ودالّين عليه.
الصراط مظهر الرحمة
والصراط في الدنيا والآخرة، هو مظهر للرحمة الإلهيّة؛ فهو صراط للمؤمنين، لا يجوز عليه أهل الكفر والعناد.
والإسلام هو صراط الدنيا، أظهره الله تعالى لعباده من رحمته؛ فمَن ضيّع منهم شيئاً من الإسلام فقد ضيّع من تلك الرحمة الّتي رحمه الله سبحانه بها، فصعُب عليه المرور عليه.
والدقّة والاتّساع في الصراط، إنّما تكون على قدر ما قَبِل المرء من تلك الرحمة؛ فالدقّة للمذنبين، والسعة للمتّقين.
وإنّ كلَّ صراط يسلكه أفراد البشر في الدنيا لا بدّ من أن يؤدّي بصاحبه إلى لقاء الله. والفارق العظيم هو أنّ الصراط المستقيم يؤدّي بسالكه إلى لقاء الله «الرحمن الرحيم» الموصِل إلى جنّات النعيم. والصراط الملتوي المعوجّ يسوق أهلَه إلى لقاء الله «القهّار المنتقم الجبّار».
صراط الآخرة
وإنّ صراطَ الآخرة هو امتدادٌ لصراط الإنسان في حياته الدنيا، بل هو نفسُه، قد تجسّد ظاهراً للعيان في عالم الانكشاف الأخرويّ المبين.
وهو جسرٌ تصفُه الروايات بـِ«أنّه مظلم، يسعى الناسُ عليه على قدر أنوارهم»[8]. ويصوّر حديثٌ للإمام الصادق (عليه السلام) مسيرَ الناسِ آنذاك على الصراط، فيقول: «الناسُ يمرّون على الصراط طبقات، والصراط أدقّ من الشعر ومن حدّ السيف؛ فمنهم مَن يمرُّ مثلَ البرق، ومنهم مَن يمرُّ مثلَ عَدْوِ الفرس، ومنهم مَن يمرُّ حبواً، ومنهم مَن يمرُّ مشياً، ومنهم مَن يمرُّ متعلِّقاً، قد تأخذ النار منه شيئاً وتترك شيئاً»[9].
وما من شكّ في أنّ التمسّكَ بالحقّ والالتزام بالموقف التوحيديّ الراسخ بما يتطلّب من البراءة والرفض لكلّ مُطاعٍ من دون الله، إنّما يشبه المشيَ في طريقٍ ضيّق شديد الضيق، حادٍّ بارز الحدّة، كأنّما هو نصلةُ سيف! وقد أشارت بعض الروايات إلى هذا المعنى، فعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «يأتي على الناس زمانٌ، الصابرُ منهم على دينِه كالقابضِ على الجمر»[10].
ما يُوجب النجاة والثبات على الصراط
إنّ للصراطِ قيمةً عليا وأهميّةً كبرى في وجود الإنسان، لا يصحّ أن يغفَلَ عنها، بل عليه أن يلتزمَ بكلّ ما يوجِبُ ثباتَ قدمِه على الصراط، وينجيه من السقوطِ في جهنّم، وأبرزها:
1. ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) ومحبّته: عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «يا عليّ، إذا كان يوم القيامة، أقعد أنا وأنت وجبرئيل على الصراط، فلا يجوز على الصراط إلّا من كانت معه براءةٌ بولايتِك»[11]. وعنه (صلّى الله عليه وآله) أيضاً، يقول لأمير المؤمنين (عليه السلام): «يا عليّ، ما ثبت حبُّك في قلبِ امرئٍ مؤمن، فزلَّت به قدمُه على الصراط، إلّا ثبتَت له قدم، حتّى يُدخلَه اللهُ عزّ وجلّ بحبِّك الجنّة»[12].
2. حبّ أهل البيت (عليهم السلام): عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «أثبتُكم قدماً على الصراط، أشدُّكم حبّاً لأهل بيتي»[13].
إنّ هذه الروايات تؤكّد ارتباطَ صراط الآخرة بصراط الدنيا، وأنّه امتدادٌ له، وتبيّن لنا سبيلَ النجاة؛ فالأئمّةُ (عليهم السلام) بعد رسولِ الله (صلّى الله عليه وآله) هم الأدلّاءُ على الله، وبهم يُعرَف الحقُّ من الباطل، فهم الفلك الجارية في اللجج الغامرة، يأمن من ركبها ويغرق من تركها، وإنّ معرفتَهم والتمسّكَ بهم طريقٌ إلى الله سبحانه وتعالى، يقول رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله): «أنا صراطُ الله المستقيم الّذي أمركم باتّباعِه، ثمّ عليّ من بعدي، ثمّ وُلدي من صلبِه، أئمّةٌ يهدون بالحقّ وبه يَعدِلون»[14].
[1] الشيخ الصدوق، معاني الأخبار، ص32.
[2] سورة الأنعام، الآية 153.
[3] سورة مريم، الآية 43.
[4] سورة الصافّات، الآيتان 22 و23.
[5] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج8، ص65.
[6] سورة الفاتحة، الآية 6.
[7] الشيخ الصدوق، معاني الأخبار، ص33.
[8] الفيض الكاشانيّ، التفسير الصافي، ج1، ص85.
[9] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص242.
[10] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، ص485.
[11] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج8، ص70.
[12] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص679.
[13] الشيخ الصدوق، فضائل الشيعة، ص6.
[14] الفتّال النيسابوريّ، روضة الواعظين، ص96.