بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وأعزِّ المرسلين، سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
إنّ المسجدَ ابتكارٌ أبدعه الإسلام في بدايات ولادته في المدينة المنوّرة، فكان محلّاً يجتمع فيه الناسُ للذكر والدعاء والتوجّه إلى الله تعالى؛ وإنّ لهذا الاجتماعِ تأثيراتٍ عديدة، ترتبط بالتواصل الفكريّ المشترك، وتبادل المعلومات والأفكار، وذلك في مكان العبادة والصلاة والذكر؛ الأمر الذي يُضفي جاذبيّةً خاصّة للقلوب.
إنّ المسجدَ آنذاك لم يكن للصلاة فقط، بل كان محوراً لكلِّ أمر حادثٍ ومهمٍّ يحصل في المجتمع، كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ينادي أصحابَه للحضور في المسجد، وذلك لأمورٍ عديدةٍ غير الصلاة والعبادة، من قبيل التشاور والتعاون والتنسيق وتعبئة الطاقات والإخبار عن المستجدّات، وما إلى ذلك من مسائلَ وأمورٍ ترتبط بقضايا المجتمع والدين.
المساجد بيوت الله
من هنا، كان تأكيد القرآن الكريم والسنّة الشريفة دورَ المسجد في حياة المجتمع الإسلاميّ وبناء الشخصيّة الإسلاميّة؛ فـ«المساجد أنوار الله»[1]، و«بيت كلّ مؤمن»[2]، كما عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقد أمر الإمام الصادق (عليه السلام) بإتيانها، فقال: «عليكم بإتيان المساجد؛ فإنّها بيوتُ الله في الأرض، ومن أتاها مُتطهِّراً طهّره اللهُ من ذنوبه، وكُتِب من زوّارِه؛ فأكثروا فيها من الصلاة والدعاء»[3].
وإنّما صارت المساجدُ بيوتَ الله في الأرض؛ لأنّها محلُّ عبادة، وبالتالي هي محلُّ حضور المعبود وموقف شهوده، فيكون بيتاً له حقيقةً، ولكن ليس بالظاهر والصورة، إنّما في الباطن والمعنى[4]، فطوبى لعبدٍ تطهّرَ في بيتِه، وزار اللهَ في بيتِه[5].
المساجد بيوت المؤمنين
ومن «كان المسجدُ بيتَه، بنى الله له بيتاً في الجنّة»[6]، وإنّ «نقلَ الأقدام إلى المساجد وانتظارَ الصلاة بعد الصلاة، تغسلُ الخطايا غسلاً»[7]. ويقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «إذا رأيتُم الرجلَ يعتاد المساجد، فاشهدوا له بالإيمان»[8]؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَن بِاللهِ﴾[9].
الصلاة في المساجد
وإنّما تُعمَر المساجدُ بالحضورِ فيه، وأداءِ الصلاة، والتقرّبِ إلى الله بالعبادة، فقد جعل اللهُ للعبادة في المسجد ثواباً خاصّاً يفوق غيرَه من الأماكن.
رُوي أنّ أحدَهم سأل الإمامَ الصادقَ (عليه السلام)، فقال: إنّ رجلا ًيصلّي بنا نقتدي به، فهو أحبُّ إليك أو في المسجد؟ قال (عليه السلام): «المسجدُ أحبُّ إليّ»[10].
وهذا يحتمل أمرين؛ أحدَهما: أنّ صلاتَهم في المسجد جماعة أفضل، وهذا لا اشكال فيه؛ لأنّ فيه جمعاً بين الجماعة والمسجد. والثاني: أن تكون الصلاةُ في المسجد لا جماعة، أفضلَ من الصلاة في غيره جماعة، كما هو ظاهر الحديث؛ لأنّ تَضاعُفَ الصلاةِ في المسجد أعظمُ غالباً من تَضاعُفِها بالجماعة[11]؛ إذ ورد عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «الصلاة في المسجد الحرام مئة ألف صلاة، والصلاة في مسجد المدينة عشرة آلاف صلاة، والصلاة في بيت المقدس ألف صلاة، والصلاة في المسجد الأعظم مئة صلاة، والصلاة في مسجد القبيلة خمس وعشرون صلاة، والصلاة في مسجد السوق اثنتا عشرة صلاة، وصلاة الرجل وحده في بيته صلاة واحدة»[12]؛ والمراد من المسجد الأعظم المسجد الجامع، بينما يُراد من مسجد القبيلة سائرُ المساجد غير الجامع. أمّا الجماعة فقد ورد فيها عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «صلاةُ الجماعة أفضلُ من صلاة الفرد بخمسٍ وعشرين درجة»[13].
وقد جعل اللهُ سبحانه الجماعةَ في الصلاة لكي يُعرَف من يصلّي ممّن لا يصلّي، ومن يحافظ على مواقيت الصلاة ممّن يضيّعها، ولولا ذلك لم يمكن لأحدٍ أن يشهدَ على أحد بصلاحٍ أو خير؛ لأنّ من لم يصلِّ في جماعة فلا صلاةَ له بين المسلمين، فعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «لا صلاةَ لمن لم يصلِّ في المسجد مع المسلمين إلّا من علّة»[14].
فالاختلافُ إلى المساجد رحمة، والاجتنابُ عنها خسارة، والغفلةُ كلُّ الغفلةِ في ترك المسجد، ولا يزال الشيطان ذعِراً من المؤمن ما حافظ على الصلوات الخمس، فإذا ضيّعهنّ تجرّأ عليه، وأوقعه في العظائم.
المسجد وصيّة العلماء
من هنا، ولما في ذلك من تأثيرٍ بالغٍ على روحيّةِ الإنسان وبنيانِه الإيمانيّ، حثّ علماؤنا على تفعيلِ دور المسجد، وكان في طليعة وصاياهم، وقد جعله الإمامُ الخمينيّ (قُدِّس سرّه) على جانبٍ من الأهمّيّة بأن نهى عن هجرانِه، عادّاً ذلك تكليفاً، إذ يقول بشكلٍ مختصرٍ وموجَز: «لا تهجروا المساجد؛ فإنّ ذلك هو تكليفكم»[15].
كما يرى في الابتعاد عنه خطراً جسيماً، ومُخطّطاً من قبل أعداء الأمّة، فيقول: «المسجد هو خندق إسلاميّ، والمحراب هو محلّ الحرب، إنّهم يُريدون أن يأخذوا هذا منكم، بل إنّ ذلك مقدّمة، وإلّا فاذهبوا وصلّوا ما شئتم، إنّهم تضرّروا من المسجد (خلال هاتين السنتين أو الثلاث الأخيرة) إذ أصبح المسجدُ مكاناً لتجمّع الناس، وتثويرِ الجماهير للانتفاضة ضدّ الظلم، إنّهم يُريدون أخذَ هذا الخندقِ منكم»[16].
وكذلك يؤكّد الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في كثيرٍ من كلماتِه وتوجيهاتِه ضرورةَ الحضور في المساجد والحفاظ على الجماعات فيها، فيقول: «يجب أن تكون المساجدُ عامـرةً، ويجـب أن تُقام فيهـا الصلاة جمـاعـةً وقـت أداء الفريضة، كما يجـب أن يُـسمـعَ صـوتُ الأذان والإقامة»[17].
ويوصي الشبابَ بتوطيد العلاقة مع المسجد، وعدمِ قطعه، فيقول: «لا تَدعوا علاقتَكم بالمسجد تضعف؛ فالتعبئةُ وليدةُ المساجد، تمّ إرسالُهم إلى الجبهات من المساجد، وإلى المساجد عادَت أجسادُ الشهداء المطهّرة، وغالباً ما جرى توجيهُهم في المساجد. لا تنقطعوا عن المسجد»[18].
في الختام، لقد جعل الإمامُ الخمينيّ (قُدِّس سرّه) الأسبوعَ الأخير من شهر شعبان، أسبوعاً للمسجد، ونحن على أعتاب شهرِ رمضان المبارك، شهرِ الله وشهرِ بيوته تعالى، وهذا الإعلان مبنيّ على موقع المسجد ومكانته في الإسلام والقرآن الكريم والروايات الشريفة، الّتي تحفل بكمٍّ هائلٍ من التحفيز والتشجيع على إعمار المساجد والحضور فيها، بل وعدم التقصير في ذلك، إلى درجة أنّ المسجدَ يشتكي لله يومَ القيامة من هجران الناس له، وبعدِهم عنه، وعدمِ شعورهم بأهمّيّته في حفظ الإسلام والمسلمين.
عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «يجيء يوم القيامة ثلاثةٌ يشكون إلى الله عزّ وجلّ: المصحف والمسجد والعترة. يقول المصحف: يا ربِّ، حرقوني ومزّقوني، ويقول المسجد: يا ربِّ، عطّلوني وضيّعوني، وتقول العترة: يا ربِّ، قتلونا وطردونا وشرّدونا؛ فأجثو للركبتين للخصومة، فيقول الله جلّ جلاله لي: أنا أولى بذلك»[19].
[1] الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، ج3، ص448.
[2] جلال الدين السيوطيّ، الجامع الصغير، ج2، ص667.
[3] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص440.
[4] الفيض الكاشانيّ، الوافي، ج7، ص512 (بتصرّف).
[5] رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «في التوراة مكتوب: إنّ بيوتي في الأرض المساجد؛ فطوبى لعبدٍ تطهّر في بيته، ثمّ زارني في بيتي، ألا إنّ على المزور كرامة الزائر، ألا بشّر المشّائين في الظلمات إلى المساجد بالنور الساطع يوم القيامة» - الشيخ الصدوق، الهداية، ص132.
[6] الشيخ الصدوق، ثواب الأعمال، ص27.
[7] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج85، ص18.
[8] ابن أبي جمهور الأحسائيّ، عوالي اللئالي، ج2، ص 32.
[9] سورة التوبة، الآية 18.
[10] الشيخ الطوسيّ، تهذيب الأحكام، ج3، ص261.
[11] الشهيد الأوّل، ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، ج3، ص134.
[12] القاضي النعمان المغربيّ، دعائم الإسلام، ج1، ص148.
[13] الشيخ الصدوق، الخصال، ص521.
[14] علل الشرائع، ج1، ص325.
[15] الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرّه)، الكلمات القصار، ص64.
[16] الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرّه)، منهجيّة الثورة الإسلاميّة، ص279.
[17] من كلامٍ للإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، بتاريخ 01/11/2008م.
[18] من كلامٍ للإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، بتاريخ 27/11/2019م.
[19] الشيخ الصدوق، الخصال، ص175.