بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
إلى مولانا صاحب العصر والزمان (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء)، وإلى وليّ أمر المسلمين الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، وإلى مراجعنا وقادتنا العظام، وإلى الأمّة الإسلاميّة جمعاء، نرفع أسمى آيات التهنئة ولتبريك بحلول شهر رمضان المبارك، راجين من الله تعالى أن يوفّقنا لأداء حقّ هذا الشهر الكريم.
عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لجابر بن عبد الله الأنصاريّ: «يا جابر، هذا شهر رمضان، مَن صام نهارَه، وقام وِرْداً مِن ليلِه، وعفَّ بطنَه وفَرْجَه، وكفَّ لسانَه، خرج مِن ذنوبه كخروجه مِن الشهر»، فقال جابر: يا رسول الله، ما أحسنَ هذا الحديث! فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «يا جابر، وما أشدَّ هذه الشروط!»[1].
إنّ شهر رمضان المبارك مقطعٌ زمنيّ خاصّ في السنة، نسبَه اللهُ تعالى إليه دون بقيّة الشهور، فخصّه وميّزه وعظّمه، وأجزل فيه العطايا، وضاعف فيه الهدايا، وفي استقباله يقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «أيّها الناس، إنّه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيّامه أفضل الأيّام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات...»[2]؛ لذا فإنّه فرصة مميّزة جدّاً؛ فرصةٌ للتعبّد، فرصةٌ للجلوس على مائدة الرحمن والضيافة الإلهيّة، فرصةٌ للتقرّب إلى الله تعالى، ولا سعادة أكبر للمؤمن من التقرّب إليه تعالى؛ فهو صاحب الكمال المحض، والقدرة اللامحدودة، والعلم المطلق، ولا راحة أعلى من اليقين بأنّ الإنسانَ لا محالة راجعٌ إلى ربٍّ ودودٍ رحيمٍ. وقد بشّر عزّ وجلّ المؤمنين بلقائه، فقال: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنينَ﴾[3]، ووعد الذين يرجون لقاءه بأنّ لهم ما يأملون: ﴿مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّميعُ الْعَليمُ﴾[4].
لقاءُ الله عدمُ الغفلة عنه
إنّ لقاءَ الله تعالى على نحوين، لقاءٌ في الدنيا ولقاءٌ في يوم القيامة. وليس المقصود من اللقاء اللقاءَ الحسّيّ ورؤيتَه تعالى بالبصر المادّيّ؛ فالله ليس جسماً، ولا يحدّه مكان، ولا يُرى بالعين، ﴿لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطيفُ الْخَبيرُ﴾[5]، بل إنّ المراد به اللقاءُ المعنويّ. واللقاء في الدنيا يعني حضورَه تعالى الدائم في حياتنا، وعدمَ الغفلة عنه أبداً، والتوجّهَ إليه باستمرار، ومشاهدةَ آياته وآثار قدرته تعالى في كلّ شيءٍ؛ فلا نعبد غيرَه، ولا ندعو سواه، ولا نطلب حوائجَنا إلّا منه. فالإنسان عندما يدرك أنّ الله تعالى خالقُه، ومالكُ كلّ شيء، وبيده الأمرَ كلَّه، وهو في السماء إلهٌ وفي الأرض إله، وهو ربُّ العالمين، فمن الطبيعيّ أن يتوجّهَ إليه بالعبوديّة له والتسليم. وكيف لا يكون ذلك، وهو تعالى معه أينما ولّى وجهه، ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصيرٌ﴾[6].
أثر حضور الله في حياتنا
إنّ الإنسان إذا استشعر وجود الله تعالى، وأدرك أنّه في محضره، وأنّه مطّلعٌ على جميع حركاته وسكناته، فلن يقومَ بأعمالٍ لا ترضيه، ولن يعصيَه، بل سيسعى دائماً ليجعل أعماله موافقةً لإرادته تعالى وخالصةً لوجهه سبحانه. فالله تعالى يرى ويشاهد أعمال الإنسان، كما أنّها تُعرَض على رسوله (صلّى الله عليه وآله) والأئمّة المعصومين (عليهم السلام)، يقول تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾[7]، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) عندما سُئل عن «المؤمنون» في الآية الكريمة، قال: «هم الأئمّة»[8].
فإذا أدرك الإنسان هذه الحقيقة، عندها سوف يسعى لاجتناب المعاصي وفعل الصالحات؛ أمّا إذا غفل عنها، ولم يطّلع على أنّ «الله معه» دائماً، فإنّه سوف يتهاون في أداء الأعمال الواجبة عليه، ولن يهتمّ باجتناب المحرّمات، بخلاف ما إذا أدرك أنّ الله تعالى محيطٌ به، ووجد نفسه دائماً في مشهده ومحضره، فإنّه يسعى لأداء الأعمال طبق الإرادة الإلهيّة. وهذه الأعمال التي تؤدّى وفق إرادة الله هي أعمالٌ مقرِّبةٌ إليه، كالصلاة مثلاً الّتي هي «قربان كلِّ تقيّ»[9]. وإذا وصل الإنسان إلى هذا الحدّ، فاعتقد أنّ اللهَ ناظرٌ إلى أعماله، راعى الخلوص أيضاً في أعماله كلّها؛ فهو من جهةٍ يؤدّي الأعمال امتثالاً لأوامر الله، ومن جهةٍ أخرى يكون مخلصاً في القيام بأعمال البرّ والخير.
كيف نشعر بالرقابة الإلهيّة؟
إذا كان كمال الإنسان وسعادته الحقيقيّة يكمنان في التقرّب إلى الله، فإنّ تحقّق ذلك يكون من خلال أمرين أساسيّين: المراقبة والمحاسبة؛ فالإنسان إذا أدرك أنّه في محضر الله، فلا بدّ له من مراقبة أعماله والانتباه إلى تصرّفاته من جهة، ومن جهةٍ أخرى عليه أن يحاسب نفسه باستمرار. فالمراقبة الدائمة والحساب المستمرّ يوصلان الإنسان إلى المكان الذي لا ينظر فيه إلّا إلى الله. ويبيّن القرآن الكريم هذين الأصلين بقوله: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبيرٌ بِما تَعْمَلُونَ﴾[10]، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «حاسبوا أنفسَكم قبل أن تُحاسَبوا، ووازنوها قبل أن توازنوا»[11]، «حاسبوا نفوسكم بأعمالها، وطالبوها بأداء المفروض عليها وخذوا من فنائها لبقائها، وتزوّدوا وتأهّبوا قبل أن تُبعَثوا»[12].
شهر رمضان وتنمية الشعور بالرقابة الإلهيّة
وإنّ ممّا يساعد على تحقيق هذا الشعور أيضاً وتنميته هو هذا الشهر الشريف، فـ«هو شهر دُعيتُم فيه إلى ضيافة الله، وجُعِلتُم فيه من أهل كرامة الله»[13]؛ لذا هو فرصة تجلّي العلاقة بالله تعالى، وإنّ من أهمّ ما يمكن أن يتقرّب به الإنسان الله في هذا الشهر هو اجتناب المحارم، إذ يسأل أميرُ المؤمنين (عليه السلام) رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله): «يا رسول الله، ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟»، فيجيبه (صلّى الله عليه وآله): «يا أبا الحسن، أفضلُ الأعمال الورعُ عن محارم الله»[14]، وما يعين الإنسان على الورع معرفةُ خصائص هذا الشهر الكريم ومزاياه، نذكر منها:
1. شهر القرآن والهداية: قال تعالى: ﴿شَهْرُ رمَضانَ الّذي أُنْزِلَ فيهِ القُرآنُ هُدىً لِلنّاسِ وبيّناتٍ مِنَ الهُدى والفُرقان﴾[15].
2. شهر التكريم بالتكليف: عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّما فرَضَ اللهُ صيامَ شهر رمضانَ على الأنبياء دون الأُمم، ففضّل اللهُ به هذه الأُمّة، وجعل صيامَه فرضاً على رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وعلى أُمّته»[16].
3. شهر تثبيت الإخلاص: عن فاطمة الزهراء (عليها السلام): «فرَضَ اللهُ الصيامَ تثبيتاً للإخلاص»[17].
4. شهر زكاة الأبدان: عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «لكلّ شيء زكاة، وزكاة الأبدان الصيام»[18].
5. شهر العبادة والثواب الجزيل: عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «ومَن تطوّع فيه بصلاةٍ كتَبَ اللهُ له براءةً مِن النار، ومَن أدّى فرضاً كان له ثوابُ مَن أدّى سبعين فريضةً فيما سواه من الشهور، ومَن أكثرَ فيه مِن الصلاةِ علَيّ ثقّل اللهُ ميزانَه يومَ تخفّ الموازين، ومَن تَلا فيه آيةً مِن القرآن كان له مِثلُ أجرِ مَن ختم القرآنَ في غيره من الشهور»[19].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج4، ص87.
[2] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص154.
[3] سورة البقرة، الآية 223.
[4] سورة العنكبوت، الآية 5.
[5] سورة الأنعام، الآية 103.
[6] سورة الحديد، الآية 4.
[7] سورة التوبة، الآية 105.
[8] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج1، ص219.
[9] المصدر نفسه، ج3، ص265.
[10] سورة الحشر، الآية 18.
[11] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص234.
[12] المصدر نفسه.
[13] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص154.
[14] المصدر نفسه، ص155.
[15] سورة البقرة، الآية 185.
[16] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج2، ص100.
[17] الشيخ الطبرسيّ، الاحتجاج، ج1، ص134.
[18] الشيخ المفيد، المقنعة، ص304.
[19] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص155.