بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.
إلى مولانا صاحب العصر والزمان (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء)، وإلى مراجعنا وقادتنا العظام، ولا سيّما وليّ أمر المسلمين الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، وإلى الأمّة الإسلاميّة جمعاء، نرفع أسمى آيات العزاء برحيل ناصر رسول الله أبي طالب (عليه السلام)، ورحيل زوجه أمّ المؤمنين خديجة الكبرى (عليها السلام).
عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «لم يكمُل من النساءِ إلّا أربع: آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمّد (صلّى الله عليه وآله)»[1].
تشرّفَت السيّدةُ خديجة (عليها السلام) بالزواج من رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، كما تشرّف غيرها من زوجات النبيّ (صلّى الله عليه وآله) الأخريات، لكنّ خديجة (عليها السلام) عايشَت رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله) في أصعب مراحل الدعوة الإسلاميّة؛ إذ إنّ مرحلة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في المدينة المنوّرة كانت مرحلة بداية العزّة والاقتدار، على خلاف مرحلة نزول الرسالة وبداية الدعوة في مكّة المكرّمة، حيث الصعوبات والشدائد والأذى العظيم الّذي عبّر عنه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بقوله: «ما أُوذِيَ نبيٌّ مثلما أوذِيت»[2]. والسيّدة خديجة (عليها السلام) عايشَت هذا الأذى مع زوجها، عايشَت مرحلة آلام النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وعذاباته، وصبرَت معه؛ كانَت معه في الدعوة الهادئة، وفي الدعوة العلنيّة، وفي جهاده ضدّ المشركين، وفي حصار مكّة، وتحمّلَت الأذى من نساء قريش اللاتي هجرنها بسبب وقوفها إلى جانب رسول الله ودعمها له (صلّى الله عليه وآله).
إيمانها برسول الله (صلّى الله عليه وآله)
بدايةً، ومنذ اللحظات الأولى بعد البعثة الشريفة، كانت (عليها السلام) أوّلَ من آمَن به، وصدّق بدعوته؛ وذلك ميزة عظيمة وكبيرة؛ إذ إنّ تجاهل الإنسان لمعتقداتٍ عاشها على مدى أعوام، ليس أمراً بسيطاً، بل هو أمرٌ صعبٌ ومصيريّ.
عن يحيى بن عفيف، عن أبيه، قال: كنتُ جالساً مع العبّاس بن عبد المطّلب بمكّة، قبل أن يظهر أمر النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، فجاء شابٌّ، فنظر إلى السماء حين تحلّقَتِ الشمس[3]، ثمّ استقبل الكعبة، فقام يصلّي، ثمّ جاء غلام، فقام عن يمينه، ثمّ جاءت امرأة، فقامَت خلفهما، فركع الشابّ، فركع الغلام والمرأة، ثمّ رفع الشابّ فرفعا، ثمّ سجد الشابّ فسجدا، فقلتُ: يا عبّاس، أمرٌ عظيم؟! فقال العبّاس: أمرٌ عظيم، أتدري مَن هذا الشابّ؟ هذا محمّد بن عبد الله، ابن أخي، أتدري مَن هذا الغلام؟ هذا عليّ بن أبي طالب، ابن أخي، أتدري مَن هذه المرأة؟ هذه خديجة بنت خويلد. إنّ ابنَ أخي هذا حدَّثني أنّ ربّه، ربّ السماوات والأرض، أمره بهذا الدين الذي هو عليه، ولا والله، ما على ظهر الأرض على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة[4].
جهادها بمالها
ومن مزايا هذه السيّدة العظيمة أيضاً، أنّها أنفقَت جميعَ أموالها، وتخلّت عنها، دعماً لرسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وفي سبيل نشر الدعوة الإسلاميّة وترويجها، فكانت أبرز مصداقٍ لقوله تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾[5]، بل إنّ جهادَها كان بمالها كلِّه، فصاحب الثروة قد يُنفِق بعض ماله، لكنّ السيّدة خديجة (عليها السلام) تخلَّت عن جميع أموالها في قمّة الشدائد والمصاعب، وإلى هذا يشير القرآن الكريم أيضاً، مُميّزاً بين مَن أنفق قبل الفتح وبعده، أي قبل مرحلة فتح المدينة، ومرحلة الحكومة والاقتدار، يقول تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾[6].
ويكفي دلالةً على عظم مكانتها وتضحياتها، ما قاله رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عنها: «ما أبدلني الله خيراً منها، صدّقَتني إذ كذّبني الناس، وواسَتني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله الولدَ منها، ولم يرزقني من غيرها»[7].
السيّدة خديجة نموذج المرأة الإسلاميّة
إنَّ الإسلام أراد من المرأة نموذجاً إنسانيّاً يُحتذى به، في تديّنه، في إيمانه، في فاعليّته ومؤثّريّته ودوره... يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «إنَّ المرأة الإسلاميّة عبارة عن ذلك الكائن الذي يتحلّى بالإيمان، ويمتاز بالعفاف، ويتصدّى لأهمّ قسم في تربية الإنسان، وهو يؤثّر في المجتمع، ويمتاز بالرشد العلميّ والمعنويّ، وهو مدير لمؤسّسة بالغة الأهمّيّة، هي مؤسّسة الأسرة، وهي مبعث استقرار وسكينة الرجل؛ هذا كلّه إلى جانب خصوصيّات الأنوثة، مثل اللطافة، ورقّة القلب، والاستعداد لتلقّي الأنوار الإلهيّة؛ هذا هو نموذج المرأة المسلمة. ما قاله الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) في كلمات ومناسبات عديدة، في تمجيده لفاطمة الزهراء (سلام الله عليها)، أو خديجة الكبرى، أو بخصوص المرأة بشكل عام؛ هذا هو النموذج الإسلاميّ»[8].
لقد كانت السيّدة خديجة (عليها السلام) ذلك النموذج، في أرقى تجلّياته وأبهاها، كانت سيّدةً عظيمةً، قدّمَت للإسلام ما لم يقدّمْه أحد قبلها؛ لذا يقول لها رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «لا تظنّي يا خديجة إلّا خيراً؛ فإنّ الله عزّ وجلّ لَيباهي بكِ كرامَ ملائكتِه كلَّ يوم مراراً»[9].
وبفقدِها في السنة العاشرة من البعثة، في شهر رمضان المبارَك، فَقَدَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الشريكة المؤنِسة، المواسية، الصابرة، المضحّية، وقد رُوي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: «ذكرَ النبيُّ (صلّى الله عليه وآله) خديجةَ يوماً، وهو عند نسائِه، فبكى...»، فسُئلَ عن سبب ذلك، فقال (صلّى الله عليه وآله): «صدّقتني إذ كذّبتُم، وآمنَت بي إذ كفرتُم، وولدَت لي إذ عقمتُم»[10].
[1] الشيخ الطبرسيّ، مجمع البيان، ج10، ص65.
[2] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج3، ص42.
[3] أي حين ارتفعَت.
[4] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج1، ص30.
[5] سورة النساء، الآية 95.
[6] سورة الحديد، الآية 10.
[7] الشيخ المفيد، الإفصاح، ص217.
[8] من كلمةٍ له (دام ظلّه)، بتاريخ 08/03/2018م.
[9] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج16، ص78.
[10] المصدر نفسه، ج16، ص8.