بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وأعزّ المرسلين، سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
إلى مولانا صاحب العصر والزمان (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء)، وإلى مراجعنا وقادتنا العظام، ولا سيّما وليّ أمر المسلمين الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، وإلى الأمّة الإسلاميّة جمعاء، نرفع أسمى آيات التهنئة والتبريك بذكرى ولادة كريم أهل البيت، الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام).
عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «الحسن والحسين ابناي، من أحبّهما أحبّني، ومن أحبّني أحبّه الله، ومن أحبّه الله أدخله الجنّة، ومن أبغضهما أبغضني، ومن أبغضني أبغضه الله، ومن أبغضه الله أدخله النار»[1].
مولد النور
وُلد الإمام الحسن بن عليّ بن أبي طالب (عليهم السلام)، الثمرة الأولى لزواج أمير المؤمنين من السيّدة الزهراء (عليهما السلام)، في النصف من شهر رمضان، في السنة الثالثة من الهجرة.
أدرك من حياة جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سبع سنين وأشهراً، ومن حياة أمّه السيّدة الزهراء (عليها السلام) ثماني سنين إلّا أشهراً، وعاصر أباه أمير المؤمنين (عليه السلام) ثلاثين سنة تقريباً، وبقي بعد أبيه نحو عشر سنوات، واستشهد مسموماً بمؤامرة من معاوية بن أبي سفيان عام خمسين للهجرة، وله من العمر ثمانية وأربعون عاماً، ودُفِن في البقيع بالمدينة المنوَّرة[2].
مكارم أخلاقه (عليه السلام)
لقد حاز الإمام الحسن (عليه السلام) صفات جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في خَلقِه وخُلُقِه، فكان (عليه السلام) «أشبه الناس برسول الله (صلّى الله عليه وآله) خَلقاً وسؤدداً وهدياً»[3]، كما عن الإمام الصادق (عليه السلام)، وله يقول (صلّى الله عليه وآله): «أشبهتَ خَلقي وخُلُقي»[4].
نعم، لقد جسّد الإمام المجتبى (عليه السلام) أسمى الأخلاق الإلهيّة، ومثّل أعلى قيم الإسلام، من إدراكٍ للملهوف، وإغاثةٍ للمحتاج، حتّى قيل فيه: «كان الحسن له مناقب كثيرة؛ سيّداً، حليماً، ذا سكينة ووقار وحشمة، جواداً»[5].
وفي ما يأتي نذكر بعضاً من مصاديق هذه الأخلاق والفضائل:
1. كرمه وسخاؤه
سجّل المؤرِّخون صفحاتٍ زاخرةً بالسخاء، فريدة بالعطاء، إلى حدّ لا يدانيه كريم ولا يشبهه عظيم؛ وهذا ممّا يدلّ على إدباره عن مظاهر الدنيا وزهده فيها، فضلاً عن كرم النفس وسماحتها، حتّى أنّه (عليه السلام) «خرج من ماله مرّتين لله، وقاسم اللهَ ثلاث مرّات، حتّى كان يعطي نعلاً ويمسك نعلاً، ويعطي خفّاً ويمسك خفّاً»[6].
وممّا رُوي في سخائه (عليه السلام)، أنّه «رأى غلاماً أسود يأكل من رغيف لقمة، ويطعم كلباً هناك لقمة؛ فقال له: «ما حملك على هذا؟!»، فقال: إنّي استحي منه أن آكل ولا أطعمه! فقال له الحسن (عليه السلام): «لا تبرح مكانك حتّى آتيَك»، فذهب إلى سيّده، فاشتراه واشترى الحائط (البستان) الّذي هو فيه، فأعتقه، وملّكه الحائط»[7].
2. تواضعه
وقد رُوي في كرم أخلاقه وتواضعه الكثير، ومن ذلك أنّه (عليه السلام) كان يهمّ بالقيام من مكان جلوسه، إذ دخل رجل، فقال له الإمام (عليه السلام): «إنّك دخلتَ على حين قيامٍ منّا، أفتأذن؟»[8].
كان يأكل مع الفقراء على الأرض، ويجالس المساكين والصبيان، وفي ذلك يُروى أنّه مرّ (عليه السلام) بصبيان يلعبون، وبين أيديهم كسر خبزٍ يأكلونها، فدعوه، فنزل وأكل معهم، ثمّ حملهم إلى منزله، فأطعمهم وكساهم، وقال: «الفضل لهم؛ لأنّهم لم يجدوا غير ما أطعموني، ونحن نجد أكثر ممّا أطعمناهم»[9].
3. حِلمه
وقد رُوي أنّ رجلاً من أهل الشام دخل المدينة، فرأى رجلاً راكباً بغلة حسنة، قال: لم أرَ أحسن منه، فمال قلبي إليه، فسألت عنه، فقيل لي: إنّه الحسن بن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، فامتلأ قلبي غيظاً وحَنَقاً وحسداً أنْ يكون لعليّ (عليه السلام) ولد مثله، فقمت إليه، فقلت: أنت ابن عليّ بن أبي طالب، فقال: «أنا ابنه»، فقلت: أنت ابن مَن ومَن ومَن، وجعلت أشتُمه، وأنال منه ومن أبيه، وهو ساكت حتّى استحييتُ منه، فلمّا انقضى كلامي، ضحك، وقال: «أحسبك غريباً شاميّاً»، فقلت: أجل، فقال: «فمِلْ معي؛ إن احتجتَ إلى منزلٍ أنزلناك، وإلى مالٍ أرفدناك، وإلى حاجةٍ عاونّاك»، فاستحييتُ منه، وعجبتُ من كرم أخلاقه، فانصرفتُ وقد صرتُ أحبُّه ما لا أحبُّ أحداً غيره[10].
4. أدبه
وحسبنا في خُلقه وأدبه، تلك الحادثة الّتي تُروى في هذا الجانب، وهي أنّ الحسن والحسين (عليهما السلام) مرّا على شيخ يتوضّأ ولا يُحسِن، فأخذا بالتنازع؛ يقول كلُّ واحدٍ منهما: «أنت لا تُحسِن الوضوء»، فقالا: «أيّها الشيخ، كن حكماً بيننا، يتوضّأ كلّ واحد منّا سويّة»، ثمّ قالا: «أيّنا يُحسِن؟» قال: كلاكما تحسنان الوضوء، ولكن هذا الشيخ الجاهل [يشير إلى نفسه] هو الّذي لم يكن يُحسِن، وقد تعلّم الآن منكما، وتاب على يديكما، ببركتكما وشفقتكما على أمّة جدّكما[11].
حفظ الإسلام الأصيل
لقد استطاع الإمام الحسن (عليه السلام) بحكمته وحسن قيادته أن يحفظ إسلام القيم والقرآن، الإسلام الأصيل، في قِبال إسلام التيّار الحاكم آنذاك، المنافي للقيم؛ إذ إنّ من الثمار العظيمة للصلح الّذي قام به الإمام (عليه السلام) استمرارَ التيّار القيميّ للنهضة الإسلاميّة، ولولاه لزال الإسلام القيميّ من الوجود؛ إذ لم تكن الظروف آنذاك تسمح بانتصار الإمام الحسن (عليه السلام) في حربه ضدّ معاوية، بل إنّ استمرارَها كان سيقضي على وجود آل النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بشكل كامل، ولن يبقى مَن يحفظ التيّار القيميّ الأصيل للإسلام، يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في هذا الشأن: «فلو كان الإمام المجتبى (عليه السلام) قد قرّر الاستمرار في الحرب ضدّ معاوية، وانتهت (الحرب) باستشهاد آل النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، لكان الإمام الحسين (عليه السلام) قُتل في تلك الحادثة نفسها، ولحصل الشيء نفسه لكبار الأصحاب، أمثال حجر بن عُديّ، ولكان مات الجميع وما بقي من يستفيد من الفرصة للمحافظة على الإسلام بإطاره القيميّ؛ فقد كان للإمام المجتبى (عليه السلام) حقٌّ عظيم على بقاء الإسلام»[12].
مظلوميّة الإمام الحسن (عليه السلام)
وعلى الرغم من أنّ الإمام (عليه السلام) قد حفظ الشيعة، وحفظ الإسلام، بما أقدم عليه من الصلح، وإنْ لم يكن راغباً به، فقد قام الجاهلون ممّن لا يملكون الوعي والبصيرة بالتجرّؤ عليه، واتّهامه بإذلال المؤمنين المتحمّسين لقتال معاوية، وبأنّه استسلم له، حتّى أنّ بعضَهم كان يُسلّم عليه قائلاً: السلام عليك يا مُذلّ المؤمنين[13]! بينما كان الإمام (عليه السلام) يخطب فيهم، ويبيّن لهم حقيقة الأمر، ويجيبهم بهذه الآية القرآنيّة: ﴿وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾[14]، والّتي تدلّ بشكلٍ واضحٍ على أنّ ما جرى إنّما هو فتنةٌ وامتحانٌ لكم، وهو متاعٌ محدود لمعاوية.
يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «لو أنّ الإمام الحسن حارب وقُتل في الحرب -وكان ثمّة احتمالٌ كبير بأن يُقتل على أيدي أصحابه أو على أيدي الجواسيس الّذين اشتراهم معاوية- لكان معاوية ليقول: أنا لم أقتله، بل قتله أصحابه، ولعلّه كان سيقيم العزاء عليه أيضاً، ويبيد جميعَ أصحاب أمير المؤمنين من بعدها، ولما كان بقي هناك أيّ شيء باسم التشيّع»[15].
وقد حصلَت محاولات عديدة لاغتيال الإمام الحسن (عليه السلام)، منها أنّه «أراد (عليه السلام) أن يمتحن أصحابَه، ويستبرئ أحوالهم في الطاعة له، ليتميّز بذلك أولياؤه من أعدائه، ويكون على بصيرة في لقاء معاوية وأهل الشام؛ فأمر أن يُنادى في الناس بالصلاة جامعة، فاجتمعوا، فصعد المنبر، فخطبهم... قال: فنظر الناس بعضهم إلى بعض، وقالوا: ما ترَونه يريد بما قال؟ قالوا: نظنّه والله يريد أن يصالح معاوية، ويسلّم الأمر إليه، فقالوا: كفر والله الرجل، ثمّ شدّوا على فسطاطه فانتهبوه، حتّى أخذوا مصلّاه من تحته، ثمّ شدّ عليه عبد الرحمن بن عبد الله بن جعال الأزديّ، فنزع مطرفه عن عاتقه، فبقي جالساً متقلِّداً السيف بغير رداء!
ثم دعا بفرسه فركبه، وأحدق به طوائف من خاصّته وشيعته، ومنعوا منه مَن أراده... فلمّا مرّ في مظلم ساباط، بَدَرَ إليه رجلٌ من بني أسد، يُقال له: الجرّاح بن سنان، فأخذ بلجام بغلته، وبيده مغول[16]، وقال: الله أكبر، أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل! ثمّ طعنه في فخذه، فشقّه حتّى بلغ العظم، فاعتنقه الحسن (عليه السلام)، وخرّا جميعاً إلى الأرض، فوثب إليه رجلٌ من شيعة الحسن (عليه السلام)، يُقال له: عبد الله بن خطل الطائيّ، فانتزع المغول من يده، وخضخض به جوفه... فقُتِل. وحَمَل الحسنَ (عليه السلام) على سريرٍ إلى المدائن...»[17].
فسلامٌ عليه يوم وُلِد، ويوم استُشهِد، ويوم يُبعَثُ حيّاً.
[1] الحاكم النيسابوريّ، المستدرك، ج3، ص166.
[2] ابن الأثير الجزريّ، أسد الغابة، ج2، ص10 - الشيخ المفيد، الإرشاد، ص187 - ابن شهر آشوب المازندرانيّ، مناقب آل أبي طالب، ج4، ص28، بتلخيص من الجميع.
[3] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص5.
[4] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج3، ص185.
[5] جلال الدين السيوطيّ، تاريخ الخلفاء، ص189.
[6] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج43، ص358.
[7] ابن كثير، البداية والنهاية، ج8، ص42.
[8] ابن سعد، الطبقات، ص59.
[9] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج11، ص198.
[10] الإربليّ، كشف الغمّة في معرفة الأئمّة، ج2، ص183.
[11] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج3، ص169.
[12] من كلامٍ له (دام ظلّه)، بتاريخ 11/04/1990م.
[13] ابن شعبة الحرّانيّ، تحف العقول، ص308.
[14] سورة الأنبياء، الآية 111.
[15] من كلامٍ له (دام ظلّه)، بتاريخ 11/04/1990م.
[16] سيف دقيق له قفا، يكون غمده كالسوط.
[17] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص12.