بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
عن أبي محمّد الحسن بن أحمد، قال: كنتُ بمدينة السلام في السنة الّتي تُوفّي فيها الشيخ عليّ بن محمّد السمّريّ (قدّس الله روحه)، فحضرتُه قبل وفاته بأيّام، فأخرج إلى الناس توقيعاً نسختُه: «بسم الله الرحمن الرحيم، يا عليُّ بن محمّد السمّريّ، أعظم الله أجرَ إخوانك فيك؛ فإنّك ميّت ما بينك وبين ستّة أيّام، فاجمع أمرَك، ولا تُوصِ إلى أحدٍ يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعَتِ الغيبة الثانية، فلا ظهور إلّا بعد إذن الله عزّ وجلّ، وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي شيعتي مَن يدّعي المشاهدة، ألا فمَنِ ادّعى المشاهدةَ قبل خروج السفيانيّ والصيحة، فهو كاذب مُفترٍ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم».
قال: فنسخنا هذا التوقيع، وخرجنا من عنده، فلمّا كان اليوم السادس، عدنا إليه، وهو يجود بنفسه، فقيل له: من وصيّك من بعدك؟ فقال: لله أمرٌ هو بالغُه. ومضى[1]!
في الرابع من شهر شوّال، سنة 329 للهجرة، كانت وفاة السفير الرابع للإمام المهديّ (عجّل الله فرجه)، وبوفاته كانت بداية الغيبة الكبرى، الّتي لا زالت باقية، وسوف تنتهي بظهوره الشريف، ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما مُلِئت ظلماً وجوراً.
الغيبة سرٌّ من سرِّ الله
لكنّ السؤال الّذي يطرح نفسه في المقام، هو السبب الّذي لأجله كانت هذه الغيبة، والّتي لا يُعلم منتهى أجلها، فما العلّة الّتي لأجلها وقعَت هذه الغيبة؟
إنّنا نعتقد بأنّ اللهَ تعالى حكيم، لا يصدر عنه لغوٌ في أفعاله، وإنّ الإيمانَ بحكمته تعالى يقتضي منّا التسليم لأمره وحكمته، وبالتالي لا ينبغي أن يضرّنا عدمُ علمنا بالعلّة الأساس للغيبة، إنّما يكفينا ثبوت ذلك من خلال الآيات الكريمة والروايات الصحيحة الّتي تكلّمت على أنّ الله تعالى سيُورث هذه الأرض عبادَه الصالحين، وأنّه سيملؤها قسطاً وعدلاً على يد حجّته القائم من آل محمّد (عليهم السلام)، وما ذُكر من أنّ ذلك يكون بعد غيبةٍ ثانية للإمام (عليه السلام) يُمحَّص فيها العباد، وقد ورد في الروايات إشارة إلى هذا الأمر؛ إذ يقول عبد الله بن الفضل الهاشميّ: سمعتُ الصادقَ جعفرَ بن محمّد (عليه السلام) يقول: «إنّ لصاحب هذا الأمر غيبةً لا بدّ منها، يرتاب فيها كلُّ مبطل»، فقلتُ له: ولِمَ؟ جُعِلتُ فداك! قال: «لأمرٍ لم يؤذَن لنا في كشفه لكم»، قلتُ: فما وجه الحكمة في غيبته؟ قال: «وجهُ الحكمة في غيبته، وجهُ الحكمة في غيبات مَن تقدّمَه مِن حجج الله تعالى ذكره. إنّ وجهَ الحكمة في ذلك لا ينكشف إلّا بعد ظهوره، كما لم ينكشفْ وجهُ الحكمة لِما أتاه الخضرُ (عليه السلام)، من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار، لموسى (عليه السلام) إلّا وقت افتراقهما. يا بن الفضل، إنّ هذا الأمرَ أمرٌ من أمرِ الله، وسرٌّ مِن سرِّ الله، وغيبٌ من غيبِ الله، ومتى علمنا أنّه عزَّ وجلَّ حكيمٌ، صدَّقنا بأنّ أفعالَه كلّها حكمة، وإن كان وجهُها غيرَ منكشفٍ لنا»[2].
من فوائد الغيبة
تُبيّن لنا هذه الرواية أنّ العلّةَ الأساس للغيبة لا تنكشف إلّا بظهور الإمام (عليه السلام)، إلّا أنّ بعضَ الروايات بيّنت لنا وأشارت إلى بعض الحكم والفوائد الّتي تترتّب على هذه الغيبة، نذكر منها:ِ
1. الامتحان والتمحيص؛ إذ يتكامل المؤمنون بذلك، وتخرج الصفوة من الناس، فتكون دعامة تشكيل الدولة الإسلاميّة وبنائها واستمرارها، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «والّذي بعثني بالحقّ بشيراً، إنّ الثابتين على القول به في زمان غيبته لأعزُّ من الكبريت الأحمر»، فقام إليه جابر بن عبد الله الأنصاريّ، فقال: يا رسول الله، وللقائم من ولدك غيبة؟ قال (صلّى الله عليه وآله): «إي وربّي، ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾[3]»[4].
وعن الإمام الرضا (عليه السلام): «والله، لا يكون ما تمدّون إليه أعناقَكم حتّى تُميَّزوا وتُمحَّصوا، فلا يبقى منكم إلّا الأندر، ثمّ قرأ قوله تعالى: ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾[5]»[6].
2. الحفظ من القتل؛ إذ ممّا لا شكّ فيه أنّ خلفاء بني أميّة، وبعدهم خلفاء بني العبّاس، كانوا يعمدون إلى قتل مَن يهدّد عروشَهم وسلطانَهم، وهذا ما حصل مع الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، بدءاً بالإمام المجتبى (عليه السلام)، وصولاً إلى الإمام العسكريّ (عليه السلام)، فلو كان الإمام المهديّ (عليه السلام) ظاهراً في تلك الحقبة، ومع قلّة الناصر والمعين، فإنّه كان سيُقتَل كما قُتِل آباؤه (عليهم السلام)، خصوصاً مع علم السلطة الجائرة آنذاك بأنّه من أبناء الإمام العسكريّ (عليه السلام)، وبأنّه المُعَدّ لتحطيم عروشهم، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): لا بدّ للغلام من غيبة، فقيل له: ولِمَ يا رسول الله؟ قال: يخاف القتل»[7].
3. لئلّا تكون في عنقه بيعة لظالم؛ إذ تبيّن بعض الروايات أنّ من فوائد الغيبة عدم اضطرار الإمام (عليه السلام) إلى بيعة أحد الطواغيت والظالمين الغاصبين للحكم، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «يُبعَث القائم، وليس في عنقه بيعةٌ لأحد»[8].
4. قلّة الناصر والمعين، عن الإمام أبي الحسن (عليه السلام): «يابن بكير، إنّي لأقول لك قولاً قد كانت آبائي (عليها السلام) تقوله: لو كان فيكم عدّةُ أهلِ بدر، لقام قائمُنا»[9].
الانتفاع به في غيبته
إنّ اللهَ تعالى جعل لنا أئمّةً يهدون إلى الحقّ، ولكنّ الناسَ طيلة تاريخ الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) ما كانوا على استعداد وجهوزيّة للحكومة الإلهيّة العادلة، وإنّ رفضَهم لذلك هو من العوامل الأساسيّة في تأخير الظهور، لكن وبرغم ذلك، فإنّ الفائدة من وجود الإمام (عليه السلام) لا تنحصر فقط بوجوده ظاهراً بين الناس، بل إنّ لوجوده غائباً عنهم فوائد عديدة، نذكر منها:
1. إنّ الله تعالى جعل من المعصوم رابطةً بينه وبين خلقه، وبعدم وجوده مطلقاً تنقطع هذه الرابطة؛ إذ إنّ الفيضَ الإلهيَّ إنّما يتنزّل على الناس بواسطة المعصوم (عليه السلام)، فهو واسطة في الفيض الإلهيّ على عباده، وقد بيّنت بعض الروايات هذا المضمون، فعن أبي حمزة، قال: قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): أتبقى الأرضُ بغير إمام؟ قال: «لو بقيَت الأرضُ بغير إمامٍ، لساخت»[10]. وأيضاً في قوله تعالى: ﴿وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾[11]، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «أنا وسيلتُه»[12]، وعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «الأئمّة من ولد الحسين (عليه السلام)، من أطاعهم فقد أطاع الله، ومن عصاهم فقد عصى اللهَ عزّ وجلّ، هم العروة الوثقى، وهم الوسيلة إلى الله عزّ وجلّ»[13].
2. الأمر الثاني يرتبط بالهداية المعنويّة لِمن أرادها من الخلق، فإنّ الارتباطَ بالله تعالى لم ينقطع بعد رحيل الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، بل بقي مستمرّاً حتّى هذه الساعة، وحتّى نهاية الزمان، بوجود الإمام المعصوم (عليه السلام)؛ إذ إنّ وجودَه والاعتقادَ به والإيمانَ بظهوره لإقامة دولة العدل الإلهيّة، يعني بقاءَ الارتباط بعالم الغيب وعدمَ انقطاعه، وبالتالي بقاء الهداية وحفظ الدين، فبالولاية تبقى رابطة الهداية حيّةً إلى يوم القيامة.
وإلى هذا المعنى يشير الإمامُ الصادقُ (عليه السلام) في الرواية عن سليمان بن مهران الأعمش: «ولم تخلُ الأرضُ منذ خلق اللهُ آدم من حجّة لله فيها، ظاهر مشهور، أو غائب مستور، ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجّة الله فيها، ولولا ذلك لم يُعبَد الله»، قال سليمان: فقلتُ للصادق (عليه السلام): فكيف ينتفع الناس بالحجّة الغائب المستور؟! قال: «كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب»[14].
[1] الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص516.
[2] الشيخ الصدوق، علل الشرائع، ج1، ص246.
[3] سورة آل عمران، الآية 141.
[4] الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص288.
[5] سورة العنكبوت، الآيتان 1 و2.
[6] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص375.
[7] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج52، ص90.
[8] ابن بابويه القمّيّ، الإمامة والتبصرة، ص116.
[9] الطبرسيّ، مشكاة الأنوار في غرر الأخبار، ص128.
[10] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج1، ص179.
[11] سورة المائدة، الآية 35.
[12] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج2، ص273.
[13] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، ج2، ص63.
[14] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص253.