بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وأعزِّ المرسلين، سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
عن الإمام الصادق (عليه السلام): «ما على أحدِكم أن ينالَ الخيرَ كلَّه باليسير»، قال الراوي: قلت: بماذا؟ جُعلتُ فداك! قال: «يَسرُّنا بإدخالِ السرورِ على المؤمنينَ من شيعتِنا»[1].
الإنسان مخلوقٌ اجتماعيّ بطبعه، لا يعيش بمفرده، ولا تصلح معيشتُه إلّا بتواصلٍ واتّصالٍ مع محيطه الاجتماعيّ من أبناء جنسه، بل إنّ مَن أراد العزلةَ عن الناس، فقد اختار النمطَ الشاذَّ لحياته، وهذا أمرٌ يُدرَك بالوجدان؛ لذا لا بدّ من الكلام على تنظيم العلاقات الاجتماعيّة بين الناس، وبيانِ أسسِها الصحيحة وركائزِها المتينة، إذ من الخطورةِ بمكان تلك العلاقات الملتوية والتهديدات القائمة في التواصل السلبيّ، بل هي أشدّ خطراً من اعتزال الناس والبعد عنهم.
من هنا، كان على الإنسان المؤمن أن يتعلّمَ الواجباتِ والحقوق، وأن يطّلعَ على الآداب والسنن التي تشكّل بمجموعها منظومةً متكاملةً، تحدّد المسارَ القويمَ للعلاقات الاجتماعيّة، وتبني صرحاً متماسكاً في عمليّة التواصل مع الآخرين.
بادر إلى فعل الخير
إنّ من الأسس التي ينبغي اعتمادُها في صناعة المعروف وإسداء الخير، المبادرةَ إلى ذلك، من دونِ ترقّبٍ وانتظارٍ لما يقوم به الآخرون، بل على المرءِ أن يقدّمَ يدَ العون والمساعدة بما يقوى عليه، وأن يلتمسَ الخيرَ للآخرين، ويسعى في الحفاظ على مصالحهم، ولا يتجاوزَ حدودَهم وحقوقَهم؛ إذ إنّ الأساسَ في الإحسان والمبادرة إلى الخير عدمُ فوات هذا العمل، وأن لا يسبقَه غيره إليه، لا ما يقوم به الآخرون ويبادرون به؛ لأنّه بذلك يُغلق باباً على نفسه فتحه الله تعالى له، فقد جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام): «كان أبي يقول: إذا هممت بخيرٍ فبادر؛ فإنّك لا تدري ما يحدث»[2]، بل دلّت الروايات أيضاً على التعجيل في فعل الخير، وعدم تأخيره، فعن الإمام الباقر (عليه السلام): «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): إنّ اللهَ يحبّ من الخير ما يُعَجَّل»[3].
ابتغاء وجه الله
مضافاً إلى المبادرة والتعجيل في فعل الخير، لا بدّ من الالتفات إلى الغاية التي لأجلها يُقدِم المرء على ذلك، فإنّ فعلَ الخير وصنعَ المعروف، تارةً يكون نابعاً من الرغبة والحبّ لهذا العمل؛ تقرّباً إلى الله تعالى، ومرضاةً لوجهه الكريم، وأخرى يكون وسيلةً لأهدافٍ أخرى، وقنطرةَ عبورٍ لغاياتٍ نفعيّة، لها ارتباط بالمصالح الدنيويّة، والمآرب الشخصيّة، وثمّة بونٌ شاسعٌ بين الأمرين.
وإلى هذا المعنى يشير الإمام الصادق (عليه السلام) في قول الله عزّ وجلّ: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾[4]، قال: «الرجل يعمل شيئاً من الثواب، لا يطلب به وجهَ الله، إنّما يطلب تزكيةَ الناس، يشتهي أن يسمعَ به الناس، فهذا الذي أشرك بعبادة ربّه»[5].
وبعبارة أخرى، ينبغي على فاعل الخير وصانع المعروف أن يلتفت جيّداً إلى الدافع الذي لأجله يُقدِم على ذلك، فإن كان لغير وجه الله تعالى، فإنّ ثوابَه سيذهب سُدىً، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله): إنّ الملكَ ليصعد بعمل العبد مبتهجاً به، فإذا صعد بحسناته، يقول الله عزّ وجلّ: اجعلوها في سجّين! إنّه ليس إيّاي أراد بها»[6].
اجعل نفسَك ميزاناً
من الأسس أيضاً في فعل الخير، أن يرى الإنسان نفسَه ميزاناً في ذلك، إذ في بعض الأحيان ربّما يقع صانع المعروف في شيء من التردّد بما يقدّمه من العطاء، شكلاً ومضموناً. لذلك، بيّنت الروايات ضابطةَ ذلك ومعيارَه، بأن يجعل المرء من نفسه ميزاناً، يزن بها أفعالَه مع الآخرين؛ فما يحبّه لنفسه يحبّه لهم، وما يكرهه ولا يرضى به لنفسه يكرهه لهم، والأخبار في ذلك كثيرة، منها ما جاء عن الإمام الباقر (عليه السلام)، قال: «أوحى الله تبارك وتعالى إلى آدم (عليه السلام): يا آدمُ، إنّي أجمعُ لك الخيرَ كلَّه في أربع كلمات: واحدة منهنّ لي، وواحدة لك، وواحدة في ما بيني وبينك، وواحدة في ما بينك وبين الناس؛ فأمّا التي لي، فتعبدني ولا تشرك بي شيئاً، وأمّا التي لك، فأجازيك بعملك أحوج ما تكون إليه، وأمّا التي بيني وبينك، فعليك الدعاء وعليَّ الإجابة، وأمّا التي في ما بينك وبين الناس، فترضى للناس ما ترضى لنفسك»[7].
قضاء الحوائج مِن أعظم المعروف
حثّت الروايات الشريفة على السعي في قضاء حوائج المؤمنين، وعدم التقصير في ذلك، بل جعلته من أفضل أنواع الخير وصنع المعروف، وبيّنت لذلك آثاراً عظيمة، ترتبط بالدنيا والآخرة، نشير إلى بعضها:
1. كان الله في حاجته، فعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن سرَّ مسلماً سرّه الله يوم القيامة»[8].
2. خيرٌ من صيام شهر واعتكافه، فعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «والله، لقضاءُ حاجة المؤمن خيرٌ من صيام شهر واعتكافه»[9].
3. أفضل من عشر حجج، فعن المُشمَعِلُّ الأَسَدِيّ، قال: خرجتُ ذات سنة حاجّاً، فانصرفتُ إلى أبي عبد الله الصادق جعفر بن محمّد (عليهما السلام)، فقال: «من أين بك يا مُشمَعِلّ؟»، فقلتُ: جُعِلتُ فداك! كنتُ حاجّاً، فقال: «أوتدري ما للحاجِّ من الثواب؟»، فقلتُ: ما أدري حتّى تُعلِمَني، فقال: «إنّ العبدَ إذا طاف بهذا البيت أسبوعاً، وصلّى ركعتَيه، وسعى بين الصفا والمروة، كتب اللهُ له ستّةَ آلاف حسنة، وحطَّ عنه ستّةَ آلاف سيّئة، ورفع له ستّةَ آلاف درجة، وقضى له ستّةَ آلاف حاجة؛ للدنيا كذا، وادّخر له للآخرة كذا»، فقلتُ له: جُعِلتُ فداك! إنّ هذا لكثير! قال: «أفلا أخبرُك بما هو أكثرُ من ذلك؟»، قال: قلتُ: بلى، فقال (عليه السلام): «لَقضاءُ حاجةِ امرئٍ مؤمنٍ، أفضلُ من حجّةٍ وحجّةٍ وحجّة (حتّى عدّ عشر حجج)»[10].
4. الصورة البرزخيّة لفعل الخير، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إذا بعث اللهُ المؤمنَ من قبره، خرج معه مِثالٌ يَقدُمُه، فكلّما رأى المؤمنُ هولاً من أهوال القيامة، قال له المِثال: لا تجزع ولا تحزن، وأبشِر بالسرور والكرامة من الله عزّ وجلّ»، قال: «فما يزال يبشّره بالسرور والكرامة من الله عزّ وجلّ، حتّى يقفَ بين يدي الله سبحانه، فيحاسبه حساباً يسيراً، ويأمر به إلى الجنّة، والمِثال أمامه، فيقول له المؤمن: رحمكَ الله! نِعْمَ الخارج! خرجتَ معي من قبري، ما زلتَ تبشّرني بالسرور والكرامة من الله عزّ وجلّ، حتّى كان ذلك، فمَن أنت؟ فيقول له المِثال: أنا السرور الذي أدخلتَه على أخيك المؤمن في الدنيا، خلقني اللهُ منه لأبشّرَك»[11].
5. تُباحُ له الجنّة، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «أوحى الله عزّ وجلّ إلى داوود (عليه السلام): إنّ العبدَ من عبادي، ليأتيني بالحسنة فأبيحُه جنّتي، فقال داوود: يا ربِّ، وما تلك الحسنة؟ قال: يُدخِلُ على عبدي المؤمن سروراً، ولو بتمرة، قال داوود: يا ربِّ، حقٌّ لمن عرفَك أن لا يقطعَ رجاءَه منك»[12].
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج71، ص312.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص142.
[3] المصدر نفسه.
[4] سورة الكهف، الآية 110.
[5] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص294.
[6] المصدر نفسه، ج2، ص295.
[7] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص706.
[8] ابن أبي جمهور الأحسائيّ، عوالي اللئالي، ج1، ص128.
[9] الحميريّ القمّيّ، قرب الإسناد، ص120.
[10] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص581.
[11] الشيخ المفيد، الأمالي، ص178.
[12] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص189.