بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.
إلى مولانا صاحب العصر والزمان (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء)، وإلى مراجعنا وقادتنا العظام، ولا سيّما وليّ أمر المسلمين الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، وإلى الأمّة الإسلاميّة جمعاء، نرفع أسمى آيات العزاء، بذكرى شهادة صادق أهل البيت (عليهم السلام)، في الخامس والعشرين من شهر شوّال.
عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «يُخرِج اللهُ من صُلبِه [أي صُلب الإمام الباقر] كلمةَ الحقّ، ولسانَ الصدق»، فقال له ابن مسعود: فما اسمه يا نبيَّ الله؟ قال: «جعفر، صادقٌ في قوله وفعاله، الطاعن عليه كالطاعن عليّ، والرادّ عليه كالرادّ عليّ»[1].
هو سادس أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، وُلد في المدينة المنورة، في السابع عشر من ربيع الأوّل 83هـ، في زمن الخليفة الأمويّ عبد الملك بن مَرْوان. تربَّى في أحضان أبيه الإمام الباقر وجَدِّه الإمام السجَّاد (عليهما السلام). يُكنَّى بأبي عبد الله، ويُلقَّب بالصادق. بلغ من شهرته بهذا اللقب أنّه صار كالاسم له، حتّى أنّه ليُستغنى به عن ذكر اسمه، ويُعرف به إذا أُطلِق، وكذلك كنيته بأبي عبد الله، ولا سيّما في الأحاديث الشريفة. دُسَّ إليه السمُّ بأمرٍ من الخليفة العبّاسيّ المنصور الدوانيقيّ، فاستشهد (عليه السلام) في الخامس والعشرين من شوّال 148هـ، ودُفن (عليه السلام) في مقبرة البقيع بالمدينة المنوّرة.
ارتباط الشيعة بأهل البيت (عليهم السلام)
لمّا قرُبَت وفاة الإمام الباقر (عليه السلام) استدعى بأبي عبد الله جعفر ابنه (عليهما السلام)، فقال له: إنّ هذه الليلة التي وُعِدتُ فيها، ثمّ سلّم إليه الاسم الأعظم ومواريث الأنبياء والسلاح، وقال له: «يا أبا عبد الله، الله الله في الشيعة»[2].
إنّ من الأسس التي عمل عليه الإمام الصادق (عليه السلام) في حياته، صناعةَ الارتباط بأهل البيت (عليهم السلام) وتأكيدَه، وهو ما يُسمّى في الثقافة الشيعيّة بـ «الولاية».
يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «لقد استطاع الإمام الصادق (عليه السلام)، وبمساعدة آبائه الواسعة... إعدادَ عدّةٍ مؤمنةٍ ومسلمة ومذهبيّة وأصيلة وثوريّة ومضحّية، ومستعدّة للمخاطرة في أنحاء العالم الإسلاميّ كلّه... هؤلاء كانوا يُمثّلون الشبكة العظيمة لتشكيلات الإمام الصادق (عليه السلام)، الحزب العلويّ وحزب التشيّع... وهذا من الفصول التي لم تُعرف من حياة الإمام الصادق...
كان هناك شبكة هي التي كانت تتحمّل مسؤوليّة الأنشطة الواسعة والمثمرة المتعلّقة بقضيّة الإمامة في الكثير من المناطق النائية لدولة المسلمين»[3].
أساسُ الإسلام حبُّنا أهل البيت
لا قيمة لأيّ بناء من دون أساسٍ متين ودعامة قويّة، فكلّ شيء لا أساس له لا ثبات له. وإنّ ثبات الإسلام بأساسه الذي هو حبّ أهل البيت (عليهم السلام)، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): الإسلام عريان، فلباسه الحياء، وزينته الوقار، ومروءته العمل الصالح، وعماده الورع، ولكلّ شيء أساس، وأساس الإسلام حبُّنا أهل البيت»[4].
وإنّ دور الأساس في كلّ شيء هو ثباته وعدم زواله، وهكذا حبّ أهل البيت (عليهم السلام)، يثبّت الإيمان في القلوب، ويدلّ عليه ما رُوي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «يا معشر الصحابة، والله ما تقدَّمتُ على أمر إلّا ما عهد إليّ فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فطوبى لمن رسخ حبُّنا أهل البيت في قلبه، ليكون الإيمانُ أثبتَ في قلبه من جبل أُحدٍ في مكانه، ومن لم تصر مودّتنا في قلبه انماث[5] الإيمان في قلبه كانمياث الملح في الماء»[6].
حبّنا إيمان وبغضنا كفر
إنّ كلمة التوحيد هي المائز بين المسلم والمشرك، وحبّ أهل البيت (عليهم السلام) هو الفيصل بين الإيمان والكفر والنفاق، فقد يكون المرء مسلماً، ولكن ليس بمؤمن، والمسلم قد يكون منافقاً، أمّا المؤمن فلا يمكن أن يكون منافقاً، فضلاً عن أن يكون كافراً أو مشركاً. لذا، فمن نطق بكلمة التوحيد أصبح مسلماً، ولكن لا يكون مؤمناً حتّى يحبَّ أهل البيت (عليهم السلام)؛ لأنّ الإسلام يثبت باللسان، أمّا الإيمان فلا يثبت إلّا في الجنان، وهو مركز الحبّ والمودّة، عن محمّد بن الفضيل قال: سألته -أي الإمام الصادق (عليه السلام)- عن أفضل ما يتقرّب به العبادُ إلى الله عزّ وجلّ، قال: «أفضل ما يتقرّب به العبادُ إلى الله عزّ وجلّ طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة أولي الأمر، قال أبو جعفر (عليه السلام): حبّنا إيمان وبغضنا كفر»[7].
حبّنا أفضل عبادة
إنّ الأمر العباديّ هو ما يجعله الله من قوانين وتشريعات لعباده، ثمّ يكلّفهم بها، إمّا بعثاً وتحريكاً، وإمّا زجراً وردعاً عنها، لزوماً أو دونه، وقد يكون متعلَّق طلبه فعلاً خارجيّاً، كالصلاة وعدم تناول المسكر، وقد يكون معتقداً، كالإيمان بوحدانيّة الله، وقد يكون أمراً محلّه القلب والباطن، كحبّ الله ورسوله وأهل بيته، ولا يمكن للعبد أن يختار واحدة ليعبد الله ويرفض البقيّة، فلكي يكون عبداً مطيعاً لمولاه ومخالفاً لهواه، عليه أن يلتزم بكلّ ما شرّعه الله سبحانه، وإلّا كان كإبليس الذي طلب من الله تعالى أن يعفيَه من السجود لآدم ويطيعه أفضل طاعة! لكنّ المولى يُعبَد كما يريد، لا كما يريد العبد.
وقد جاء في الروايات أنّ أفضل العبادة هي محبّة أهل البيت (عليهم السلام)، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّ فوق كلّ عبادة عبادة، وحبّنا أهل البيت أفضل عبادة»[8] .
حبّنا حسنة وبغضنا سيّئة
إنّ حبَّ أهل البيت حسنةٌ، ولكن أيّ حسنة؟ وبغضهم سيّئة، ولكن أيّ سيّئة؟ حسنة تستبطن الأمن والأمان يوم الفزع، وسيّئة تكبُّ الوجوه في النار، فقد جاء في تأويل الآيتين المباركتين: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[9]، عن أبي عبد الله الجدليّ، قال: قال لي أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (صلوات الله عليه): «يا أبا عبد الله، ألا أحدّثك بالحسنة التي مَن جاء بها أمِن من فزع يوم القيامة، وبالسيّئة التي مَن جاء بها أكبّه الله على وجهه في النار؟»، قلتُ: بلى، قال: «الحسنة حبّنا، والسيّئة بغضنا»[10].
حبّنا ميثاق مأخوذ في صلب آدم
عن الإمام الباقر (عليه السلام): «إنّ الله أخذ ميثاقَ شيعتنا من صلب آدم، فنحن نعرف بذلك حبَّ المُحِبّ، وإن أظهر خلاف ذلك بلسانه، ونعرف بغضَ المُبغِض، وإن أظهر حبَّنا أهل البيت»[11].
إنّ أخذَ الله سبحانه ميثاقَ محبّة أهل البيت (عليهم السلام) من الناس، وهم في صلب آدم، يذكّرنا بأخذ ميثاق الربوبيّة منهم لذاته المقدَّسة، كما تشير الآية الكريمة: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾[12]، فلأهمّيّة الربوبيّة وخطر أمرها، أُخذ هذا الميثاق في عالم الأصلاب، وعندما نقرأ في هذه الرواية بأنّ حبَّ أهل البيت ميثاقٌ أُخذ في صلب آدم (عليه السلام)، فحبّ أهل البيت (عليهم السلام) يأتي في أهمّيّته بعد الربوبيّة والألوهيّة.
ثمرة حبّهم (عليهم السلام)
عن الإمام الصادق (عليه السلام): «مَن أحبّنا لله نفعه الله بذلك، ولو كان أسيراً في يد الديلم، ومَن أحبّنا لغير الله، فإنّ الله يفعل به ما يشاء. إنّ حبّنا أهلَ البيت ليحطّ الذنوب عن العباد كما تحطّ الريح الشديدة الورقَ عن الشجر»[13]، هذه ثمرة دنيويّة. أمّا الأخرويّة، فعن الإمام الرضا (عليه السلام): «حدّثني أبي، عن أبيه، عن آبائه، عن عليّ (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): أربعةٌ، أنا الشفيع لهم يوم القيامة، ولو آتوني بذنوب أهل الأرض: معينُ أهلِ بيتي، والقاضي لهم حوائجَهم عندما اضطروا إليه، والمحبّ لهم بقلبه ولسانه، والدافع عنهم بيده»[14].
[1] الخزار القمّيّ، كفاية الأثر، ص83.
[2] الخصيبيّ، الهداية الكبرى، ص239.
[3] الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، إنسان بعمر 250 سنة، ص373.
[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص46.
[5] ذاب.
[6] سليم بن قيس الهلاليّ الكوفيّ، كتاب سليم بن قيس، ص357.
[7] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج1، ص187.
[8] البرقيّ، المحاسن، ج1، ص150.
[9] سورة النمل، الآيتان 89 و90.
[10] البرقيّ، المحاسن، ج1، ص150.
[11] الشيخ المفيد، الاختصاص، ص278.
[12] سورة الأعراف، الآية 172.
[13] الحميريّ القمّيّ، قرب الإسناد، ص39.
[14] الشيخ الصدوق، الخصال، ص196.