بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وأعزّ المرسلين، سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله عزّ وجلّ: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾[1]، قال: «ليس يعني أكثر عملاً، ولكن أصوبكم عملاً، وإنّما الإصابة خشية الله، والنيّة الصادقة والحسنة»، ثمّ قال: «الإبقاء على العمل حتّى يخلص أشدّ من العمل، والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحدٌ إلّا الله عزّ وجلّ، والنيّة أفضل من العمل، ألا وإنّ النيّة هي العمل»، ثمّ تلا قوله عزّ وجلّ: «﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾[2]؛ يعني على نيّته»[3].
إنّ مسألةَ النيّة من العناوين الإسلاميّة الأساسيّة في حياة الإنسان؛ إذ إنّها تجسّد الدوافعَ التي تحرّك الإنسان نحو العمل، سواءٌ أكان عمله عباديّاً بينه وبين ربّه، أو كان مرتبطاً بعلاقاته مع الآخرين وفي حياته. فالنيّة لها تأثيرها في أعمال العباد وفي أنفسهم، وعلى الصعيدين، الدنيويّ والأخرويّ، وهي شرط واجب لجميع العبادات، ولا يمكن لأحدٍ أن يؤدّي عبادة من دون نيّة القربة إلى الله تعالى، بل يمكن تحصيل الثواب في جميع الأعمال والمعاملات المختلفة التي لا تُشترَط فيها النيّة أصلاً، إذا نُوي فيها القربة لله تعالى، فعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «يا أبا ذرّ، ليكن لك في كلّ شيء نيّة صالحة، حتّى في النوم والأكل»[4]؛ فالله تعالى يريد من عبده أن يكون في كلّ حركاته وسكناته له جلّ وعلا، لا لغيره، وإنّ القيمة التي يمنحها سبحانه للإنسان تتحدّد بمقدار ما يكون الله تعالى حاضراً في قلبه.
نيّة المؤمن خير من عمله
لذلك، لا بدّ للإنسان من أن يستشعر عظمة الله في نفسه، بحيث يكون حاضراً دائماً في قلبه، وهذا يحتاج إلى بناء النيّة بشكلٍ سليمٍ وخالصٍ لوجهه تعالى، وأن يعيش الإنسان هذه النيّة في كلّ وجوده، فقد ورد في الأحاديث أنّ قيمة العمل إنّما تتحدَّد بقيمة النيّة، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «النيّة أساس العمل»[5]، و«الأعمال ثمار النيّات»[6]، فكلّما كانت النيّة أكثر نموّاً وصفاءً وخلوصاً في قلب المرء، كانت الأعمال أكثر نضجاً وأشدّ صلاحاً.
بل ورد في العديد من الروايات أنّ نيّةَ المؤمن خيرٌ من عمله، كما عن الإمام الصادق (عليه السلام): «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): نيّة المؤمن خير من عمله، ونيّة الكافر شرّ من عمله، وكلّ عامل يعمل على نيّته»[7]، وقد تكون النيّة هنا بمعنى الاعتقاد والإيمان، وهو خير من العمل الخارجيّ، كما أنّ الكفر القلبيّ شرّ من الفسق العمليّ، وقد يكون المراد أنّ نيّة الخير من المؤمن إذا لم يقدر عليه، خير من العمل إذا قدر؛ لأنّ النيّةَ خالصةٌ لله، والعمل ربّما كان رياءً ونحوه، فعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «وإنّ الله عزّ وجلّ ليعطي العبد على نيّته ما لا يعطيه على عمله؛ وذلك أنّ النيّة لا رياء فيها، والعمل يخالطه الرياء»[8]، والكافر ينوي من الشرّ فوق ما قد يعمل به. ويؤيّد ذلك أيضاً ما ورد في بعض الأحاديث عن أثر النيّة يوم القيامة، وأنّ الله تعالى يُعطي الإنسان الذي يتحرّك نحو العمل، فتمنعه الحواجز عنه، ثوابَ ذلك العمل، ففي تفسير القمّيّ لقوله تعالى: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾، قال: على نيّته، ﴿فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا﴾[9]، فإنّه حدّثني أبي، عن جعفر بن إبراهيم، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام): «إذا كان يوم القيامة، أُوقِف المؤمنُ بين يديه، فيكون هو الذي يتولّى حسابه، فيعرض عليه عمله، فينظر في صحيفته، فأوّل ما يرى سيّئاته، فيتغيّر لذلك لونه، وترتعش فرائصه، وتفزع نفسه، ثمّ يرى حسناته، فتقَرَّ عينه، وتُسَرّ نفسه، وتفرح روحه، ثمّ ينظر إلى ما أعطاه الله من الثواب، فيشتدّ فرحه، ثمّ يقول الله للملائكة: هلمّوا الصحف التي فيها الأعمال التي لم يعملوها، قال: فيقرؤونها، ثمّ يقولون: وعزّتِك، إنّك لَتعلم أنّا لم نعمل منها شيئاً! فيقول: صدقتم، نويتموها فكتبناها لكم»[10].
من الآثار المترتّبة على النيّة
مضافاً إلى كون النيّة شرطاً لقبول العبادات، وما يترتّب عليها من الأثر الذي مرّ في رواية الإمام الرضا (عليه السلام) يومَ القيامة، ورد في الأخبار العديد من الآثار الأخرى، أخرويّة ودنيويّة، نذكر منها:
1. أنّ الناس يحشرون على نيّاتهم يوم القيامة، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّ الله عزّ وجلّ يحشر الناس على نيّاتهم يوم القيامة»[11]؛ فيحشرون مؤمنين أو كافرين أو منافقين، بحسب نيّاتهم، أو يحشرون في اتّصافهم بجزاء الأعمال على وفق نيّاتهم فيها.
2. أنّه يُكتَب للإنسان أجر العمل وإن لم يفعله إن كان صادقاً في نيّته، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّ العبد المؤمن الفقير ليقول: يا ربِّ، ارزقني حتّى أفعل كذا وكذا من البرّ ووجوه الخير، فإذا علم الله ذلك منه بصدق نيّته، كتب الله له من الأجر مثل ما يُكتب له لو عمله، إنّ الله واسع كريم»[12].
3. زيادة الرزق، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «من حسنت نيّته، زاد الله في رزقه»[13].
4. صاحب القلب السليم، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «صاحب النيّة الصادقة، صاحب القلب السليم»[14].
5. عون الله على قدر النيّة، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّما قدّر الله عونَ العباد على قدر نيّاتهم؛ فمَن صحَّت نيّته تمّ عون الله له، ومَن قصُرَت نيّته قَصُر عنه العون بقدر الذي قَصُر»[15].
حسن النيّة وسوؤها
ومن الأمور التي ينبغي تربية النفس عليها، حسن النيّة تجاه الآخرين، وعدم سوء الظنّ، وهو ما حثّت عليه الروايات العديدة، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «أفضل الذخائر حسن الضمائر»[16]، و«عوّد نفسك حسن النيّة وجميل المقصد، تُدرك في مباغيك النجاح»[17].
وفي المقابل عدّت الرواياتُ سوءَ النيّة من الأمراض الخطيرة التي يجب اقتلاعها من النفس، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أيضاً: «سوء النيّة داء دفين»[18]، و«من الشقاء فساد النيّة»[19].
الإخلاص في النيّة
ختاماً، لا مجال لتحقيق الغرض المرجوّ من النيّة، ولا سيّما في العبادات والطاعات، إلّا بالإخلاص فيها لله تعالى، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾[20]، وقال أيضاً: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[21].
والنصوص الدالّة على لزوم إخلاص الأعمال وتزكيتها وتمحيصها والسعي في كونها خالصة لله تعالى بحيث لا يشوبها أيّ غرض غيره كثيرة جدّاً بألسنة مختلفة، بعضها وارد في تفسير الآيات الشريفة، وبعضها مستقلّ.
فعن الإمام الباقر (عليه السلام): «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): يا أيّها الناس، إنّما هو الله والشيطان، والحقّ والباطل، والهدى والضلالة، والرشد والغيّ، والعاجلة والآجلة، والعاقبة، والحسنات والسيّئات، فما كان من حسنات فلله، وما كان من سيّئات فللشيطان (لعنه الله)»[22]؛ فالمراد أنّ الغرض الباعث على العمل في الناس لا يخلو من أحد أمرين: إمّا الله تعالى، فهو إذاً حقّ وهداية ورشد... أو الشيطان، فهو باطل وضلالة وغيّ...
وعن الإمام الرضا (عليه السلام) أنّ أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) كان يقول: «طوبى لمن أخلص لله العبادة والدعاء، ولم يشغل قلبه بما ترى عيناه، ولم ينسَ ذكر الله بما تسمع أذناه، ولم يحزن صدره بما أُعطِي غيرُه»[23].
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله عزّ وجلّ: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾[24]، قال: «ليس يعني أكثر عملاً، ولكن أصوبكم عملاً، وإنّما الإصابة خشية الله، والنيّة الصادقة والحسنة» ثمّ قال: «الإبقاء على العمل حتّى يخلص أشدّ من العمل، والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحدٌ إلّا الله عزّ وجلّ، والنيّة أفضل من العمل، ألا وإنّ النيّة هي العمل»، ثمّ تلا قوله عزّ وجلّ: «﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾[25]؛ يعني على نيّته»[26].
وسُئل (عليه السلام) عن قوله عزّ وجلّ: ﴿إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾، فقال: «القلب السليم الذي يلقى ربّه وليس فيه أحد سواه»، قال: «وكلّ قلب فيه شرك أو شكّ فهو ساقط، وإنّما أرادوا الزهد في الدنيا لتفرغ قلوبهم للآخرة»[27].
[1] سورة هود، الآية 7.
[2] سورة الإسراء، الآية 84.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص16.
[4] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، ص464.
[5] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص29
[6] المصدر نفسه، ص19.
[7] المصدر نفسه، ج2، ص84.
[8] المتّقي الهنديّ، كنز العمّال، ج3، ص424.
[9] سورة الإسراء، الآية 84.
[10] عليّ بن إبراهيم القمّيّ، تفسير القمّيّ، ج2، ص26.
[11] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج5، ص20.
[12] البرقيّ، المحاسن، ج1، ص261.
[13] المصدر نفسه.
[14] مصباح الشريعة المنسوب للإمام الصادق (عليه السلام)، ص53.
[15] الشيخ المفيد، الأمالي، ص66.
[16] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص115.
[17] المصدر نفسه، ص340.
[18] المصدر نفسه، ص284.
[19] المصدر نفسه، ص470.
[20] سورة الزمر، الآية 11.
[21] سورة الأنعام، ص162.
[22] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص16.
[23] المصدر نفسه.
[24] سورة هود، الآية 7.
[25] سورة الإسراء، الآية 84.
[26] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص16.
[27] المصدر نفسه.