بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وأعزّ المرسلين، سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
إلى مولانا صاحب العصر والزمان (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء)، وإلى وليّ أمر المسلمين الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، وإلى مراجعنا وقادتنا العظام، وإلى الأمّة الإسلاميّة جمعاء، نرفع أسمى آيات العزاء، بذكرى شهادة الإمام الباقر (عليه السلام)، في السابع من ذي الحجّة، عام 114هـ.
جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام): «المشهودُ يومُ عرفة، والمجموعُ له الناس يومُ القيامة»[1].
من زوال اليوم التاسع من ذي الحجّة وحتّى غروبه، وعلى جبل عرفات، ثمّة خصائص ومزايا لذاك الزمان، وفي هذا المكان، لم يجعلها الله تعالى لزمان أو مكانٍ آخرَين؛ فالمُضيف هو الله تعالى، وضيوفه عبادُه الذين أتَوا من كلِّ فجٍّ عميق، معترفين بخطاياهم، مقرّين بذنوبهم، مجدّدين العهد بتوحيده عزّ وجلّ.
وجه التسمية
عرفات، جبلٌ قريبٌ من مكّة، فيه يقف الحجّاج يومَ التاسع من ذي الحجّة، يوم عرفة. ولعلّ تسميته بـ«عرفات» كانت مراعاةً للمعنى اللغويّ؛ فالعُرُف يعني الجبل والرمل العالي[2]؛ لكونه جبلاً عالياً بالنسبة إلى مكّة وأوديتها، وقد ورد في علّة التسمية أيضاً، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «سُمّيت التروية لأنّ جبرئيل (عليه السلام) أتى إبراهيم (عليه السلام) يوم التروية، فقال: يا إبراهيم، ارتوِ من الماء لك ولأهلك، ولم يكن بين مكّة وعرفات ماء، ثمّ مضى به إلى الموقف، فقال: اعترِف واعرف مناسكك، فذلك سُمِّيَت عرفة، ثمّ قال له: ازدلف إلى المشعر الحرام، فسُمّيَت المزدلفة»[3].
خصوصيّة يوم عرفة
يوم عرفة هو يوم يخرج فيه الحجّاج إلى صحراء عرفات، يطلبون من الله العفو والمغفرة، ويُعَدّ من أفضل الأيّام عند المسلمين، بل هو من الأعياد العظيمة، وإن لم يُسمَّ عيداً. هو يومٌ دعا الله فيه عبادَه إلى طاعته وعبادته، وبسط لهم موائد إحسانه وجوده، والشيطان فيه ذليل، حقير، طريد، غضبان أكثر من أيّ وقت سواه، عن الإمام زين العابدين (عليه السلام): «إنّه إذا كان يوم عرفة، قال الله لملائكة سماء الدنيا: انظروا إلى عبادي، أتَوني شُعْثاُ غُبْراً، إنّ حقّاً عليّ أن أجيبَهم. أُشهدكم أنّي قد شفّعتُ محسنَهم في مسيئِهم، وقد تقبّلت من محسنهم، فليفيضوا مغفوراً لهم»[4].
ولهذا اليوم خصائص ومزايا عديدة، نذكر منها:
1. الحجّ عرفة: إذ يُعَد الوقوف في عرفة من أهمّ مناسك الحجّ؛ ولذا أفتى الفقهاء العظام (أعزّهم المولى) أنّه من ترك الوقوفَين، الاختياريّ والاضطراريّ، عمداً وجهلاً، بطل حجّه، ويجب عليه الاستئناف من قابل؛ أمّا من أدركَ عرفة وتركَ بعض المناسك الأخرى جهلاً، فلا يبطل حجّه من رأس، وقد اختصر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) مناسك الحجّ بكلمة جامعة، إذ قال: «الحجّ عرفة، فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحجّ»[5].
2. اليوم المشهود: إنَّ من عِبر الحجِّ ومواقفه المؤثّرة، ذلك الجمعُ العظيمُ والحشد الكبير الذي يشهده الحُجَّاج في عرفات، حيث يقفون جميعاً ملبِّين ومبتهلين إلى الله، يرجون رحمتَه، ويخافون عذابَه، ويسألونه من فضله العظيم. هذا الاجتماع الكبير يذكِّر بالموقف الأكبر يوم القيامة، الذي يلتقي فيه الأوَّلون والآخرون، ينتظرون فصل القضاء ليصيروا إلى منازلهم؛ إمَّا إلى نعيم مُقيم أو إلى عذاب أليم. وقد فسّر الإمام الصادق (عليه السلام) اليوم المشهود في قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ﴾[6]، فقال: «المشهودُ يومُ عرفة، والمجموعُ له الناس يومُ القيامة».
3. الاعتراف بالخطايا وتجديد العهد: إنّ الاعتراف بالخطايا والإقرار بالذنوب في محضر الله تعالى وبين يديه، هو باب التوبة والإنابة إليه، والتوبة سبيل التخلية من الذنوب، والتخلية طريق التحلّي بصفات الكمال، وبدايتها تجديد العهد بالوحدانيّة لله تعالى، وأفضل مكان وزمان لذلك هو يوم الوقوف في عرفات، يقول الإمام الصادق (عليه السلام): «واعترف بالخطايا بعرفات، وجدّد عهدك عند الله بوحدانيّته»[7].
4. استجابة الدعاء: إنّ ليوم عرفات خصوصيّة وميزة ترتبط بالدعاء، فإنّ الله لا يردّ في هذا اليوم سائلاً يسأله، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لمّا حجّ حجّة الوداع، وقف بعرفة، وأقبل على الناس بوجهه، فقال: مرحباً بوفد الله -ثلاثاً- الذين إن سألوا أُعطوا»[8]، وعن الإمام الباقر (عليه السلام): «إذا كان يوم عرفة، لم يَردَّ سائلاً»[9]، بل ورد أنّ من خاف أن يُضعفَه الصوم عن الدعاء في هذا اليوم، فليترك الصوم، ويدعُ الله تعالى. ومن اللافت في مزايا اليوم العظيم أنّ الله تعالى يستجيب فيه دعاء البرّ والفاجر؛ فالجميع ضيوفه عزّ وجلّ، وواجب على المضيف إكرام ضيوفه، عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: «كان أبو جعفر (عليه السلام) يقول: ما من برٍّ ولا فاجرٍ يقف بجبل عرفات فيدعو الله، إلّا استجاب الله له؛ أمّا البرّ ففي حوائج الدنيا والآخرة، أمّا الفاجر ففي أمر الدنيا»[10].
ومن أروع الأدعية الواردة عن أهل العصمة (عليهم السلام) في هذا اليوم العظيم، هو دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) في عرفة، ودعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام)، ذوا المضامين العالية، التي تشهد أنّها وردت من الأطهار الكرام (عليهم السلام).
5. يوم الرجاء: من مزايا هذا اليوم العظيم، أن لا يسأل الإنسان ولا يرجو غير الله تعالى، فلربّما تعلّقت آمال بعض الناس بغير الخالق، ولجأ إلى المخلوقين أمثاله، فقد رُوي أنّ الإمام زين العابدين (عليه السلام) سمع في يوم عرفة سائلاً يسأل الناس، فقال له: «ويحك! أغيرَ الله تسألُ في هذا اليوم؟! إنّه ليُرجى لما في بطون الحبالى في هذا اليوم أن يكون سعيداً»[11].
6. ذنوب لا تُغفَر إلّا في عرفات: فإنّ الله تعالى كتب على نفسه المغفرة والتوبة، ولكنّه تعالى قضى في بعض ذنوب عباده أن لا يغفرها لهم إلّا إذا كانوا في عرفات، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «العمرة إلى العمرة كفّارة ما بينهما، والحجّة المتقبّلة ثوابها الجنّة، ومن الذنوب ذنوب لا تُغفر إلّا بعرفات»[12].
7. الرحمة الواسعة: إنّ لله رحمةً عظيمةً يوم عرفة، يبسطها فوق رؤوس عباده؛ وما يدلّ على سعتها ما عن الإمام الصادق (عليه السلام): «وأعظم الناس جرماً من أهل عرفات، الذي ينصرف من عرفات وهو يظنّ أنّه لم يُغفَر له»[13].
خروج الإمام الحسين (عليه السلام) من مكّة المكرّمة قبل عرفة
قبل هذا اليوم العظيم بيومٍ واحد، سنة 60 للهجرة؛ أي في اليوم الثامن من ذي الحجّة، يوم التروية، كان خروج الإمام الحسين (عليه السلام) من مكّة المكرّمة، خوفاً من الاغتيال في حرم الله الآمن، فقد دسّ يزيد بين الحجيج من يقتله، ولو كان معلّقاً بأستار الكعبة!
يقول عبد الله بن عبّاس في رسالته إلى يزيد (لعنه الله): «وما أنسى من الأشياء، فلستُ بناسٍ اطّرادك الحسين بن عليّ من حرم رسول الله إلى حرم الله، ودسّك إليه الرجال تغتاله، فأشخصتَه من حرم الله إلى الكوفة، فخرج منها خائفاً يترقّب، وقد كان أعزّ أهل البطحاء بالبطحاء قديماً، وأعزّ أهلها بها حديثاً، وأطوع أهل الحرمين بالحرمين، لو تبوّأ بها مقاماً واستحلّ بها قتالاً»[14].
[1] الشيخ الصدوق، معاني الأخبار، ص298.
[2] ابن منظور، لسان العرب، ج9، ص243.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص336.
[4] الأشعريّ القمّيّ، النوادر، ص139.
[5] العلّامة الحلّيّ، تذكرة الفقهاء، ج8، ص171.
[6] سورة هود، الآية 103.
[7] مصباح الشريعة ومفتاح الحقيقة، المنسوب للإمام الصادق (عليه السلام)، ص92.
[8] القاضي النعمان المغربيّ، دعائم الإسلام، ج1، ص294.
[9] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج2، ص211.
[10] الحميريّ القمّيّ، قرب الإسناد، ص374.
[11] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج2، ص211.
[12] القاضي النعمان المغربيّ، دعائم الإسلام، ج1، ص294.
[13] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج2، ص211.
[14] اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبيّ، ج2، ص249.