بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وأعزّ المرسلين، سيّدنا محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
إلى مولانا صاحب العصر والزمان (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء)، وإلى نائبه وليّ أمر المسلمين الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، وإلى مراجعنا وقادتنا العظام، وإلى الأمّة الإسلاميّة جمعاء، نرفع أسمى آيات العزاء بذكرى وفاة السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام).
عن الإمام الصادق (عليه السلام): «أشرف الموت قتل الشهادة»[1].
الشهادة درجةٌ يرفع الله إليها مَن يتخيَّر من عباده، فهي منحة إلهيّةٌ عظيمة، وإذا أراد الله أن يرفع درجة إنسان اختاره شهيداً، قال الله تعالى: ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾[2].
وقد اقترن معنى الشهادة بتضحية المرء بنفسه في سبيل الله، في كلِّ موقف يُراد منه الدفاع عن الدين لإعلاء كلمة الله، وقد فرض الله تعالى ذلك على كلِّ قادر، ذوداً عن المقدَّسات والحرمات، وعن العقيدة والمبدأ، وعن الحِمَى والوطن، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «مَنْ قُتل دون ماله فهو شَهيدٌ، ومَنْ قُتل دون أهلِهِ فهو شهيد، ومن قُتل دون دينه فهو شهيد، ومَنْ قُتل دون دمه فهو شهيد»[3]، وقد جاءت في القرآن آياتٌ كثيرة تحثُّ على استشعار روح هذا الجهاد، يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾[4]، وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[5].
فضل الشهادة في سبيل الله
لقد زخرت آيات الكتاب العزيز، واستفاضت نصوص السنّة النبويّة الشريفة، في الحديث عن فضل الشهادة ومقام الشهداء، حتّى غدت الشهادة أعظم وسائل القرب من رحمة الله تعالى، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «فوق كلّ ذي برٍّ برٌّ، حتّى يُقتلَ الرجل في سبيل الله، فإذا قُتل في سبيل الله فليس فوقه برّ»[6]، وقد صرّح رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وآله الأطهار (عليهم السلام) للشهادة، فعنه (صلّى الله عليه وآله): «والذي نفسي بيده، لوددتُ أن أغزوَ في سبيل الله فأُقتل، ثمّ أغزو فأُقتل، ثمّ أغزو فأُقتل»[7]، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «... فوالله، إنّي لعلى حقّ، وإنّي للشهادة لَمُحبّ»[8]. فالتضحية بالنفس هي أعلى أنواع التضحية، وفيها يجود المسلم بنفسه لله سبحانه، والنصوص في بيان هذا المقام كثيرة، نذكر منها:
1. الشهادة حياة عند الله، قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾[9]، ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾[10].
2. الشهادة تمحو الذنوب، فالله تعالى يكرّم الشهيد بتكفير ما عليه من الذنوب التي بينه وبين الله، فعن الإمام الباقر (عليه السلام): «كلّ ذنبٍ يكفّره القتل في سبيل الله عزّ وجلّ إلّا الدَين، لا كفّارة له إلّا أداؤه، أو يقضي صاحبه، أو يعفو الذي له الحقّ»[11]، وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «مَن قُتِل في سبيل الله، لم يُعرِّفه اللهُ شيئاً من سيّئاته»[12].
3. أشرف الموت، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «أشرف الموت قتل الشهادة»[13].
خصال الشهيد
وللشهيد خصال وخصوصيّات كثيرة، فعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «للشهيد عند الله ستّ خصال: يغفر له في أوّل قطرة دم ويرى مقعده من الجنّة، ويُجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويُوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويُزوّج اثنتين وسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه [وفي لفظٍ: من أهل بيته]»[14].
ومنها أيضاً:
1. يُخفّف عنه مسّ الموت، فلا يجد ألمَه، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «ما يجد الشهيد من مسّ القتل إلّا كما يجد أحدكم من مسّ القرصة»[15].
2. لا يُصعَق عند النشور، فقد سأل النبي (صلّى الله عليه وآله) جبرائيل (عليه السلام) عن آية ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ﴾: «مَن الذين لم يشأ الله أن يصعقهم؟»، قال: «هم شهداء الله».
3. تمنّي العودة إلى الدنيا، فإنّ الشهيد في سبيل الله يسأل الله تعالى أن يردّه إلى الدنيا؛ ليقتل في سبيل الله مرّةً أخرى، لما يرى من فضل الشهادة، وكرامة الله عزّ وجلّ له، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «ما من أحد يدخل الجنّة يحبّ أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلّا الشهيد، فإنّه يتمنّى أن يرجع فيُقتل عشر مرّات؛ لما يرى من الكرامة»[16].
ثواب الجريح في سبيل الله
هذا وقد أشارت الروايات أيضاً إلى عظيم ثواب مَن يُجرَح في سبيل الله أيضاً، وإن لم ينل الشهادة، بل إنّ الثوابَ يعمّ أيضاً مَن يسأل الله الشهادةَ مُخلِصاً، يقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «مَن جُرح في سبيل الله، جاء يوم القيامة، ريحه كريح المسك، ولونه لون الزعفران، عليه طابع الشهداء، ومن سأل اللهَ الشهادةَ مُخلِصاً أعطاه الله أجرَ شهيد، وإن مات على فراشه»[17].
أفضل الشهداء
يقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «أفضل الشهداء الذين يقاتلون في الصفّ الأوّل، فلا يُلفتون وجوهَهم حتّى يقتلوا»[18].
إنّ في هذه الرواية إشارة إلى ضرورة الثبات وأهمّيّته عند لقاء العدوّ، وإنّ عدم الانهزام والفرار من أهمّ عوامل النصر، وقد كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قائداً عسكريّاً، يخطّط ويوجّه ويقاتل ويقود الجبهة، وهذا ما يفسّر كثرة عدد الغزوات التي قادها النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بنفسه، إذ بلغت سبعاً وعشرين[19]. فالنبيّ (صلّى الله عليه وآله) كان أشجع الناس، بل أكملهم شجاعة وإقداماً في هذه الحروب. وقد ظهرت شجاعته في المعارك الكبرى، ففي معركة بدر، عبّر الإمام علي (عليه السلام) عن شجاعة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قائلاً: «لقد رأيتني يوم بدر، ونحن نلوذ برسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وهو أقربنا إلى العدوّ، وكان من أشدّ الناس يومئذٍ بأساً»[20]، وعنه (عليه السلام): «كنّا إذا حمي البأس، ولقي القوم القوم اتّقينا برسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فلا يكون أحد أدنى إلى القوم منه»[21].
فالاتّصاف بالشجاعة والتضحية بالنفس، يرتكز على مبدأ الاعتقاد والإيمان بأنّ الجهاد لا يقدّم الموتَ ولا يؤخّره، قال تعالى: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾[22].
وإنّ كثيراً من الناس يعتقد بأنّ الجهاد أو حمل السيف والدفاع والقتال هو السبب الأساس والحصريّ للموت؛ بمعنى أنّه لو لم يبرز هؤلاء للقتال لما ماتوا، مع أنّ الله تعالى نفى هذا الأمر في القرآن الكريم، وفي آيات عدّة، بل وأكّد أنّ الذين قُتِلوا لو كانوا في بيوتهم ولم يخرجوا إلى المعركة، لبرزوا إلى مصارعهم أيضاً، قال تعالى: ﴿يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾[23]، ثمّ يعود الله فيؤكّد في السورة نفسها، وضمن السياق نفسه، أنّه هو مَن يُحيي ويميت، فيقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾[24]، ثمّ يختم الله تعالى قبل أن يبيّن مقامَ الذين قُتِلوا في سبيل الله بأنّهم أحياءٌ عنده، بتحدّي أصحاب هذا الاعتقاد بأن يدفعوا الموتَ عن أنفسهم إن كان اعتقادهم سليماً وصحيحاً، يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾[25].
[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص576.
[2] سورة آل عمران، الآية 140.
[3] أحمد بن حنبل، المسند، ج1، ص190.
[4] سورة العنكبوت، الآية 69.
[5] سورة البقرة، الآية 218.
[6] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص348.
[7] النوويّ، شرح صحيح مسلم، ج13، ص22.
[8] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج6، ص100.
[9] سورة آل عمران، الآية 169.
[10] سورة البقرة، الآية 154.
[11] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج5، ص94.
[12] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج5، ص54.
[13] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص576.
[14] راجع: أحمد بن حنبل، المسند (مسند أحمد)، ج4، ص131.
[15] الترمذيّ، الجامع الصحيح (سنن الترمذيّ)، ج3، ص109.
[16] المتّقي الهنديّ، كنز العمّال، ج4، ص411.
[17] المصدر نفسه، ج4، ص408.
[18] المصدر نفسه، ج4، ص401.
[19] ابن هشام الحميريّ، السيرة النبويّة، ج4، ص486.
[20] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج16، ص232.
[21] المصدر نفسه.
[22] سورة النساء، الآية 78.
[23] سورة آل عمران، الآية 154.
[24] سورة آل عمران، الآية 156.
[25] سورة آل عمران، الآية 168.