بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وأعزّ المرسلين، سيّدنا محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
يقول الله تعالى: ﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[1].
تتوجّه هذه الآية الكريمة بالخطاب إلى المؤمنين، مشيرةً إلى نقاطٍ أربع، تُعَدّ من مفاتيح السعادة ومصادر الخيرات والبركات على الإنسان في حياته، المادّيّة والمعنويّة.
«اصبِروا»: أوّل مادّة في هذا البرنامج الصبر والاستقامة والصمود أمام الحوادث والمشكلات والمصائب والموانع الّتي يجدها الإنسان في حركته الدنيويّة لتحدّيات الواقع وصعوبة الظروف. فهو أصل كلّ نجاحٍ مادّيّ، وعلّة كلِّ فوزٍ معنويّ؛ لما له من أثرٍ بالغٍ في الانتصارات والنجاحات، الفرديّة والاجتماعيّة، وهو الذي أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام)، إذ يقول: «إِنَّ الصَّبْرَ مِنَ الْإِيمَانِ كَالرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ»[2].
و«صابِروا»: وهي المادّة الثانية في هذا البرنامج، ومعناها الصبر والثبات في قِبال صبر الآخرين وثباتهم، فكلمة «اصبروا» ناظرةٌ إلى الصبر بمعناه العامّ والاستقامة بكيفيّتها الشاملة، في مسار الإنسان في هذه الحياة؛ أمّا المصابرة فهي تخصيص للصبر والثبات والاستقامة في مواجهة الأعداء، إذ إنّ على المسلمين أن يضاعفوا من صبرهم وثباتهم كلّما بذل العدوّ جهداً في عدائه وعناده، وأن يبذلوا جهداً أكبر من ذلك، ويعيشوا الصبر بأقوى ممّا لدى العدوّ، كي ينالوا النصر والغلبة عليه.
أنحاء الصبر
وللصبر أنحاؤه، التي أشارت إليها الروايات، فعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «الصبر ثلاثة: صبر عند المصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر عن المعصية»[3].
فالصبر على الطاعة يعني مقاومة المشاكل والعقبات التي تعتري الإنسان وتواجهه، فتعيقه عن طاعة الله سبحانه. والصبر عن المعصية؛ يعني الثبات أمام دوافع الشهوات العاتية والحذر من الانزلاق والانقياد خلف ميول النفس الأمّارة بالسوء. أمّا الصبر عند المصيبة، فيتمثّل بالصمود أمام الحوادث المرّة، وعدم الانهيار والضعف، أو الخضوع للجزع والفزع.
الاختبار الإلهيّ
يقول تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾[4].
فهذا الابتلاء والاختبار في نظام الحياة، هو أمرٌ لا شكّ فيه؛ إذ إنّه نظامُ تكاملٍ وتربية، والموجودات الحيّة كلّها تطوي مسيرة تكاملها، حتّى الأشجار تُعبِّر عن قابليّاتها الكامنة بالإثمار. من هنا، فإنَّ البشر، حتّى الأنبياء (عليهم السلام)، مشمولون بقانون الاختبار الإلهيّ، يقول سبحانه: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ﴾[5].
ويعرض القرآن نماذج لاختبارات الأنبياء (عليهم السلام)، فيقول في كلامه على النبيّ إبراهيم (عليه السلام): ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ﴾[6]، ويقول في موضعٍ آخر بشأن اختبار النبيّ سليمان (عليه السلام): ﴿فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي ءأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُر﴾[7]، وفي الرواية عن لقمان الحكيم: «إنّ الذهبَ يُجرّب بالنار، والعبدَ الصالحَ يُجرّب بالبلاء، فإذا أحبَّ الله قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط»[8].
عوامل النجاح
وإذا كان الامتحان الإلهيّ عامّاً لجميع البشر، وله مظاهر وطرق، فما هو السبيل لإحراز النجاح؟
1. إنّ أهمّ عامل من عوامل النجاح هو الصبر؛ لذلك يقول تعالى في الآية: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾.
عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «لَا يَعْدَمُ الصَّبُورُ الظَّفَرَ، وَإِنْ طَالَ بِهِ الزَّمَانُ»[9]، وعنه (عليه السلام): «حَلَاوَةُ الظَّفَرِ تَمْحُو مَرَارَةَ الصَّبْرِ»[10].
2. العامل الثاني هو الالتفات إلى أنّ نكبات الحياة ومشاكلها مهما كانت شديدة وقاسية، فهي مؤقّتة وعابرة، وهذا ما يؤكِّده القرآن الكريم، إذ يقول تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً﴾[11].
3. العامل الثالث قوّة الإيمان بالله تعالى، والعلم بأنّا إليه راجعون، يقول تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾[12].
4. العامل الرابع هو الالتفات إلى أنّ الله سبحانه عالمٌ بمجريات الأمور كلّها، وهذا عامل آخر في التثبيت وزيادة المقاومة، فحين واجه النبيُّ نوح (عليه السلام) أعظم المصائب والضغوط من قومه وهو يصنع الفلك، جاءه نداء التثبيت الإلهيّ ليقول له: ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا﴾[13].
وهذا التعبير «بِأَعْيُنِنَا» كان له وقعه العظيم في نفس هذا النبيِّ الكريم، فاستقام وواصل عمله حتّى المرحلة النهائيّة، من دون الالتفات إلى تقريع الكفّار واستهزائهم. وهذا الأمر هو عينه ما أشار إليه الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء عندما تفاقم الخطب أمامه، واستشهد جميع أصحابه وأهل بيته، قال (عليه السلام): «هوّن عليّ ما نزل بي أنّه بعين الله»[14].
5. التدقيق في تاريخ مَن سبقنا من الأمم والشعوب، وإمعان النظر في مواقفهم من الاختبارات الإلهيّة، فهذا عامل مؤثِّر في إعداد الإنسان لاجتياز الامتحان الإلهيّ بنجاح.
نماذج صابرة
وفي التاريخ نماذج كثيرة، نذكر منها:
في الصبر على المصائب، لنا أسوةٌ حسنةٌ برسول الله (صلّى الله عليه وآله) والأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، وما جرى على الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء أعظم معين لنا في الصبر والمصابرة، وهنا نذكر قول الإمام الكاظم (عليه السلام) لهارون الرشيد، وقد اتّفقت كلمة المؤرّخين على أنّ هارون الرشيد قام باعتقال الإمام الكاظم (عليه السلام) وإيداعه السجن لسنين طويلة، مع تأكيده على سجّانيه بالتشديد والتضييق عليه، فلمّا طال سجن الإمام الكاظم (عليه السلام) كتب إلى الرشيد: «أمّا بعد يا أمير المؤمنين، إنّه لم ينقضِ عنّي يوم من البلاء، إلّا انقضى عنك يوم من الرخاء، حتّى يفضي بنا ذلك إلى يومٍ يخسر فيه المبطِلون»[15].
وفي الصبر عن المعصية، خلّد لنا القرآن تجربة مهمّة في هذا المجال، مرّ بها النبيُّ يوسف (عليه السلام)، إذ صبر عن معصية الله التي دعته إليها امرأة العزيز، مع ملاحظة الأسباب الّتي تقوى معها دواعي الموافقة. وإنّ الشباب المؤمن اليوم بحاجةٍ ماسّة، وخاصّة في هذه الأيّام الّتي تنتشر فيها دواعي الفساد، إلى الاقتداء بالنبيِّ يوسف (عليه السلام)، بإرادته وصبره وجهاده لنفسه، ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾[16].
أمّا في الصبر على الطاعة، فمثاله صبر النبيّ إبراهيم (عليه السلام) وابنه النبيّ اسماعيل (عليه السلام)، وهذا نموذج رفيع من نماذج الصبر، إذ يُقدّم الإنسان ابنَه لله، فإنّ ذلك يحتاج إلى صبر وإرادة عظيمَين. وأبرز مثال على ذلك صبر الإمام الحسين (عليه السلام) على تنفيذ أمر الله تعالى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقدّم نفسه وأولاده وأرحامه وأصحابه، قرباناً لله سبحانه وطاعةً لأمره.
وقبل هذا كلّه وبعده، الأسوة والقدوة الأساس هو رسولنا الأكرم (صلّى الله عليه وآله)، وقد أمرنا الله بذلك، إذ يقول تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً﴾[17].
في الختام
إنّ التاريخ يذخر بالنماذج الصابرة، خصوصاً في معركة الحقّ ضدّ الباطل، وكذا في حاضرنا المعاصر، ثمّة نماذج عظيمة في الصبر، كما في علمائنا الأبرار أمثال الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرّه)، والمقاومين المجاهدين، الّذين نسمع عن قصص بعضهم في السجون وفي الحروب ما يُحيِّر العقول ويُدهشها.
وإنّ ما يحصل اليوم على أهالي غزّة في فلسطين، يأتي في سياق هذا الصراع الدائم بين الحقّ والباطل، ولا بدّ لأصحاب الحقّ من الصبر والمصابرة، ليحصل الأثر الذي وعد به الله تعالى من النصر والفلاح والغلبة على الأعداء، وكذلك الأجر العظيم الذي يُعطى للصابر في الآخرة، يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾[18]، يُعطَون أجورَهم من دون حساب، ويُقال لهم: ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارُ﴾[19].
[1] سورة آل عمران، الآية 200.
[2] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص482، الحكمة 82.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص91.
[4] سورة البقرة، الآيتان 155 - 157.
[5] سورة العنكبوت، الآية 2
[6] سورة البقرة، الآية 124.
[7] سورة النمل، الآية 40.
[8] الفيض الكاشانيّ، المحجّة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج7، ص234.
[9] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص499، الحكمة 153.
[10] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص232.
[11] سورة الشرح، الآيتان 4 و5.
[12] سورة البقرة، الآيتان 155 و156.
[13] سورة هود، الآية 37.
[14] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص46.
[15] ابن كثير، البداية والنهاية، ج10، ص97.
[16] سورة العنكبوت، الآية 69.
[17] سورة الأحزاب، الآية 21.
[18] سورة الزمر، الآية 10.
[19] سورة الرعد، الآية 24.