بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وأعزّ المرسلين، سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
لمحة حول أحداث الغزوة
انتصر النبيّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله) في معركة بدر الكبرى انتصاراً ساحقاً على مشركي مكّة، وقد أوجد هذا الانتصار خوفاً في قلوبهم، فباتوا وهم يمتلؤون حقداً وغيظاً، عازمين على الأخذ بالثأر، فمنعوا النياحة مطلقاً في مكّة، استنهاضاً للعزائم، وحذراً من شماتة المسلمين، وجعلوا يتحيّنون الفرصة المناسبة لذلك.
وفي السنة الثالثة من الهجرة، خرج مشركو قريش من مكّة المكرّمة لغزو المسلمين، وقد تجهّزوا بكلِّ ما يحتاجونه للقتال، وأخرجوا معهم نساءهم وأطفالهم وأصنامهم؛ كي يثبتوا ولا يستطيع أحدٌ الفرار من ساحة المعركة.
وصل الخبر إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فشاور أصحابَه في المسألة، وبعد الانتهاء خطب فيهم قائلاً: «انظروا ما أمرتُكم به فاتّبعوه، امضوا على اسم الله، فلكم النصر ما صبرتُم»[1]. وسار بالمسلمين خارجاً من المدينة، حتّى استقرّ عند الشعب من أُحد، فجعله خلف ظهره، واستقبل المدينة. وبعد أن صلّى بالمسلمين الصبح، صفّ صفوفَهم، وتعبّأ للقتال، وجعل خمسين رجلاً من الرماة على الجبل خلف المسلمين، وأوعز إليهم قائلاً: «إنْ رأيتمونا قد هزمناهم حتّى أدخلناهم مكّة، فلا تبرحوا من هذا المكان، وإن رأيتموهم قد هزمونا حتّى أدخلونا المدينة، فلا تبرحوا والزموا مراكزَكم»[2].
انتصار فهزيمة!
كانت المعركة لصالح المسلمين، وكان النصر حليفَهم، لكنّ بعض الرماة خالفوا أمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأخلَوا أماكنهم، فرأى العدوّ أنّ الفرصة سانحة لمباغتة المسلمين، فاستدار خالد بن الوليد ومَن معه من وراء المسلمين، فورد المعسكر من هذا المكان على حين غفلة من المسلمين بعد أن قتل مَن بقي من الرماة، وتراجع قلب المشركين بعد الهزيمة، فصار المسلمون بينهم في مثل الحلقة المستديرة، واختلط الناس، فلم يعرف المسلمون بعضهم بعضاً، وضرب الرجل منهم أخاه وأباه بالسيف، وهو لا يعرفه لشدّة النقع والغبار، وعند ذلك أُثخِن المسلمون ضرباً وقتلاً.
وارتفع صوت أحد المشركين منادياً بأنّ محمّداً قد قُتِل؛ الأمر الّذي ساعد على تمزّق صفوف المسلمين، وتفرّقهم عن ساحة الحرب، ولجوئهم إلى مخابئ الجبل وثناياه، ولم يصمد إلّا شرذمة قليلة من أصحابه (صلّى الله عليه وآله) في ساحة المعركة، وعلى رأسهم أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وكلّما حملت طائفة على رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، استقبلهم أمير المؤمنين (عليه السلام)، فدفعهم عنه حتّى تقطّع سيفُه، فدفع إليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سيفَه ذا الفقار[3]، فلم يزل يقاتلهم حتّى أصابه في رأسه ووجهه ويديه سبعون جراحاً. وقد رُشِق رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله) بالحجارة، فأُثقِل بالجراح، وشُجّ وجهُه الكريم، وكُسِرَت رَباعِيَّتُه[4]. وقد قُتل من المسلمين في ساحة أُحد تسعة وأربعون رجلاً، وقُتل من المشركين ستّة عشر رجلاً.
وقد استشهد في هذا اليوم الحمزة (عليه السلام)، على يد وحشيّ بن حرب، وهو عبد حبشيّ يرمي بالحربة قلّما يخطئ، ولم تكن العرب تعرف ذلك، بل هو مخصوص بالحبشة.
وبعد أن ألقت الحرب أوزارَها، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «التمسوا حمزة»، فبعث أحد أصحابه يلتمسه، فلم يعد لمّا رأى حمزة بتلك الحالة من التمثيل، ثمّ بعث آخر وآخر، وكلُّ مَن يذهب ويشاهده بهذه الحالة لم يعد إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ليخبره، فلمّا استبطأهم، قام وبحث عنه بنفسه، فلمّا شاهده وهو مطروح ببطن الوادي، وقد مُثّل به شرّ تمثيل، بكى (صلّى الله عليه وآله)، ثمّ قال له مخاطباً: «واللهِ، ما وقفتُ موقفاً قطّ أغيظَ عليّ من هذا المكان[5]«.
ورثاه بقوله: «يا عمَّ رسولِ الله، أسدَ الله وأسدَ رسوله. يا حمزة، يا فاعلَ الخيرات. يا حمزة، يا كاشفَ الكربات، يا حمزة، يا ذابّ، يا مانع عن وجه رسول الله»[6].
لقد كان يومُ أُحد يومَ بلاءٍ ومحنة وتمحيص. أكرم الله تعالى فيه مَن أكرم بالشهادة، ومُحِّص فيه مَن لم يكن له ثبات وعزم في الزود والدفاع عن الإسلام.
من خلال هذه الإطلالة السريعة على غزوة أُحد، نستعين على فهم ما جاء كتاب الله تعالى من الآيات حولها، والإشارة إلى ما يمكن استفادتُه من عِظاتٍ وعِبَر.
غزوة أُحد في الكتاب الكريم
لم تكن زلّة القوم منحصرةً بالفرار من المعركة، وترك النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بين يدي المشركين، ومخالفة الرماة أوامره (صلّى الله عليه وآله)، بل بلغ أمرهم أبعد من ذلك، إذ طرأ على قلوبهم ظنون أهل الجاهليّة، فانتابتهم حالة من الشكّ، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه: ﴿ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّـهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّـهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّـهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّـهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾[7].
يقول الله تعالى في هذه الآية:
1. ﴿ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ﴾
النعاس ما يسبق النوم من فتور واسترخاء، وقد كُنّي به عن السكينة والاطمئنان الذي غشيَ طائفةً من القوم، ولم يعمّ الجميع، فكان رحمةً من الله تعالى لهم بعد ما أصابهم من الغمّ، فأزال عنهم الخوف ليستردّوا ما فقدوا من القوّة، وما تعرّضوا له من الضعف والهوان.
2. ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ﴾
أمّا الطائفة الثانية، فقد استولى عليهم الخوف، وذُهلوا عن كلّ شيء سواه، وبان ما كانوا يخفونه في صدورهم من عدم الثقة والتكذيب لوعد الله ورسوله (صلّى الله عليه وآله)، وحقّ عليهم ما وصفهم الله به:
أ. ﴿يَظُنُّونَ بِاللَّـهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾: كانوا يعتقدون في أنفسهم بأنّه «لو كان محمّد نبيّاً حقّاً ما سلّط الله عليه الكفّار»[8].
ب. ﴿يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٍ﴾: أي يسأل بعضُهم بعضاً على سبيل الإنكار والاستهجان: هَلْ لَنَا مِنَ النَّصْرِ وَالفَتْحِ والظّفر نصيب؟! أي إنّهم يعتقدون بأنّه ليس لهم ذلك، وأنّ الله سبحانه لا ينصر نبيَّه (صلّى الله عليه وآله)، وبما أنّ الأمر كذلك، فإنّ الدعوة المحمّديّة لم تكن حقّةً.
لكنّ الله عزّ وجلّ أجابهم في الآية بقوله: ﴿إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّـهِ﴾؛ أي إنّ الأمور كلَّها بيده، حتّى النّصر والهزيمة، ولكن بمقتضى السنن الّتي وضعها سبحانه لهذا الكون، وارتباط النتائج بأسبابها الطبيعيّة، فإنّ النصر مرهونٌ بتهيئة أسبابه، وحيث لا تتوافق الأسباب، بعصيان أمر النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وعدم التزام التكليف، وإيثار الدنيا على الآخرة... فلا ينتظرنّ أحدٌ حصول النصر والغلبة، بل على العكس، قد تكون الغلبة والظهور للمشركين على المؤمنين.
ثمّ إنّ الله تعالى بعد بيان أنّ الأمرَ كلّه له سبحانه، يُظهر ما كانوا يخفونه في أنفسهم وتختلج به عقولهم من معتقداتٍ وأفكارٍ فاسدة، فيقول:
ج. ﴿يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾: أي إنّهم يستدلّون على بطلان دعوة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بما وقع من الهزيمة والقتل، فلو كان الأمر بيد الله تعالى، وكان محمّد رسولَه، وكان ما يدّعيه حقّاً، لانتصرنا ولما قُتلنا، ولكن بما أنّ النتيجة كانت على عكس ذلك، فكيف يمكن أن يكون الأمر بيد الله؟! وكيف تكون دعوة محمّد صادقة؟! ومن هنا كان ظنّهم ظنَّ الجاهليّة.
ولقد أجاب الله تعالى عن ظنّهم هذا بقوله:
أوّلاً: ﴿قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ﴾: فالآجال محدودة بوقت لا تتعدّاه، فإنّ قَتْلَ مَن قُتِل منكم في المعركة ليس دليلاً على عدم كون الأمر بيد الله، أو أنّ الدعوة المحمّديّة ليست على حقّ، بل لأجل القضاء الإلهيّ الّذي لا مفرّ من وقوعه، فلو لم تخرجوا إلى القتال لبرز الّذين كُتب عليهم القتل إلى مضاجعهم، فلا مفرّ من الأجل المسمّى الّذي إذا حان لا يتقدّم ساعةً ولا يتأخّر.
ثانياً: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللَّـهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾: أي إنّ ما وقع في غزوة أُحد أظهر ما انطوت عليه الأنفس والسرائر، وميّزت المؤمنَ من المنافق والمجاهدَ من المتقاعد، وقد جرت سنّة الله على عموم الابتلاء والتمحيص.
إنّ النصر إذا كُتِب مطلقاً على جبين الأمّة على مرّ الدهور، لم يتميّز المؤمن عن المنافق، والصابر المجاهد عن المتهاون المتقاعد، وقد كان المسلمون قبل لقاء العدوّ يتمنّون الموت، ولكنّهم فشلوا في الامتحان عند اللقاء، كما يشير إليه قوله: ﴿وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ﴾، إذ انقسم المسلمون إلى ثلاث طوائف أو أكثر، يقول تعالى: ﴿مَّا كَانَ اللَّـهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّـهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّـهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾[9].
[1] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج14، ص226.
[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج20، ص49.
[3] راجع: عليّ بن إبراهيم القمّيّ، تفسير القمّيّ، ج1، ص116.
[4] الرباعيّة: السنّ الّتي تكون بين الثنية والناب.
[5] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج20، ص63.
[6] الحلبيّ، السيرة الحلبيّة، ج2، ص534.
[7] سورة آل عمران، الآية 154.
[8] المراغي، تفسير المراغي، ج4، ص104.
[9] سورة آل عمران، الآية 179.