بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وأعزِّ المرسلين، سيِّدنا محمَّد، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين.
إلى مولانا صاحب العصر والزمان (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء)، وإلى نائبه وليّ أمر المسلمين الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، وإلى مراجعنا وقادتنا العظام، وإلى الأمّة الإسلاميّة جمعاء، نرفع أسمى آيات التهنئة والتبريك بذكرى ولادة الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام).
هو الإمام الثامن من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، القائم بالإمامة بعد أبيه الإمام الكاظم (عليه السلام). وُلِد في المدينة سنة 148 للهجرة، واستشهد في طوس من أرض خراسان، في شهر صفر سنة 203 للهجرة، وله يومئذٍ 55 سنة، وكانت مدّة إمامته بعد أبيه عشرين سنة[1].
علم الإمام الرضا (عليه السلام)
عاش الإمام الرضا (عليه السلام) في زمنٍ ازدهرت فيه الحضارة الإسلاميّة، وتنوّعت العلوم وكثرَت التراجم لكتب اليونانيّين والرومانيّين وغيرهم؛ الأمر الّذي أدّى إلى دخول معتقدات جديدة وأفكارٍ بعيدة عن التعاليم الإسلاميّة، ممّا أدّى إلى ازدياد التشكيك في الأُصول والعقائد من قِبل الملاحدة والأحبار والبطارقة والمُجسِّمة.
في هذه الأزمة، أُتيحت للإمام الرضا (عليه السلام) فرصةُ المناظرة ومواجهة المخالفين على تنوّع مذاهبهم واختلاف آرائهم ومعتقداتهم، فظهرَت بذلك براهينه واحتجاجاته على هؤلاء، وعلا شأنه، وذاع صيتُه في أرجاء العالم الإسلاميّ، وقد دُوِّنَت هذه المناظرات والاحتجاجات في عدّة مصنّفاتٍ وكتب[2].
لقد انتشر علم الإمام وفضله، فأخذت الأفئدة والقلوب تُشَدّ إليه، فما سُئل عن شيءٍ إلّا أجاب عنه، وما كان أحد أعلم منه في زمانه، وكان يستخرج أجوبتَه من القرآن الكريم، فعن إبراهيم بن العبّاس، قال: ما رأيتُ الرضا (عليه السلام) سُئِل عن شيءٍ قطّ إلّا عَلِمَه، ولا رأيتُ أعلمَ منه بما كان في الزمان إلى وقته وعصره، وكان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كلِّ شيءٍ فيجيب فيه، وكان كلامُه كلُّه وجوابه وتمثيله بآياتٍ من القرآن، وكان يختمه في كلِّ ثلاثٍ، ويقول: «لو أردتُ أن أختمَه في أقلِّ من ثلاثٍ لَختمْت، ولكن ما مررتُ بآيةٍ قطّ إلّا فكّرتُ فيها، وفي أيِّ شيءٍ أُنزِلَت، وفي أيِّ وقت؛ فلذلك صرتُ أختم في ثلاثة أيّام»[3].
وكان المأمون العبّاسيّ مولعاً بالسماع إلى العلماء، وجدالهم ونقاشهم، فكان يجمعُ له العلماء والفقهاء والمتكلّمين من جميع الأديان، فيسألونه، ويجيب الواحد تلوّ الآخر، حتّى لم يبقَ أحد منهم إلّا اعترف له بالفضل، وأقرّ على نفسه بالقصور والعجز.
من مسائله العلميّة
وقد ورد أنّ أحد العلماء، وهو محمّد بن عيسى اليقطينيّ، قال: لمّا اختلف الناسُ في أمر أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، جمعتُ من مسائله -ممّا سُئل عنه وأجاب فيه- ثمانيةَ عشرَ ألف مسألة[4]، لكن -مع الأسف- فُقِد هذا الكتاب ككثيرٍ من الكتب الّتي خسرتها المكتبة الإسلاميّة والعربيّة[5].
نذكر من هذه المسائل:
1. أين الله؟ وكيف هو؟
عن أحمد بن أبي نصر، قال: جاء قومٌ من وراء النهر إلى أبي الحسن (عليه السلام)، فقالوا له: جئناك نسألك عن ثلاث مسائل، فإن أجبتَنا فيها، علمنا أنّك عالم، فقال: «سلوا»، فقالوا: أخبرنا عن الله؛ أين كان؟ وكيف كان؟ وعلى أيِّ شيءٍ كان اعتماده؟ فقال: «إنّ الله عزّ وجلّ كيَّف الكيف، فهو بلا كيف، وأيَّن الأين، فهو بلا أين، وكان اعتمادُه على قدرتِه»، فقالوا: نشهد أنّك عالم[6].
فالكيف هو الشكل، والأين هو المكان، ومعنى جواب الإمام (عليه السلام) أنّ الله تعالى هو الّذي خلق الشكل لكلِّ ذي شكل، والمكان لكلِّ ذي مكان، فإذا كان هو الخالق والموجد لهذه الأمور، فلا تكون له، ويكون منزَّهاً عنها، ولا تجري عليه أحكامُها، فهو خالقُ كلِّ شيء، وليس كمثلِه شيء، ولا يجري عليه ما أجراه هو تعالى على خلقه من الكيف والأين؛ إذ إنّه تعالى لا يُقاس بمخلوقاته، فجميع المخلوقات هي في عالم الإمكان، وهذا العالم هو عالم الفقر والحاجة، أمّا الله تعالى فهو الغنيّ، وكان اعتماده على قدرته؛ أي على ذاته المقدّسة؛ لأنّ القدرة من صفات ذات الله تعالى[7].
2. الإمامة
ومنها في بيان معنى الإمامة، ومَن هو الإمام، حيث ورد عن عبد العزيز بن مسلم، قال: كنّا مع الرضا (عليه السلام) بمرو، فاجتمعنا في الجامع يوم الجمعة في بدء مَقْدَمِنا، فأداروا أمر الإمامة، وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها، فدخلتُ على سيّدي (عليه السلام)، فأعلمتُه خوضَ الناس فيه، فتبسّم (عليه السلام)، ثمّ قال: «... إنَّ الله عزّ وجلّ لم يقبض نبيَّه (صلّى الله عليه وآله) حتّى أكمل له الدين، وأنزل عليه القرآن، فيه تبيان كلِّ شيء؛ بيّن فيه الحلال والحرام، والحدود والأحكام، وجميع ما يحتاج إليه الناسُ كَمَلاً، فقال عزّ وجلّ: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾[8]، وأنزل في حجّة الوداع، وهي آخر عمره (صلّى الله عليه وآله): ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾[9]، وأمر الإمامة من تمام الدين، ولم يمضِ (صلّى الله عليه وآله) حتّى بيّن لأمّته معالمَ دينِهم، وأوضح لهم سبيلهم، وتركهم على قصد سبيل الحقّ، وأقام لهم عليّاً (عليه السلام) عَلَماً وإماماً، وما ترك لهم شيئاً يحتاج إليه الأمّة إلّا بيّنه... هل يعرفون قدرَ الإمامة ومحلَّها من الأمّة، فيجوز فيها اختيارهم؟! إنّ الإمامةَ أجلُّ قدراً، وأعظم شأناً، وأعلا مكاناً، وأمنع جانباً، وأبعد غوراً من أن يبلغَها الناس بعقولهم، أو ينالوها بآرائهم، أو يقيموا إماماً باختيارهم، إنّ الإمامةَ خصّ اللهُ عزّ وجلّ بها إبراهيمَ الخليل (عليه السلام) بعد النبوّة، والخلّة مرتبة ثالثة، وفضيلة شرّفه بها، وأشاد بها ذكرَه، فقال: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾[10]، فقال الخليل (عليه السلام) سروراً بها: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾، قال الله تبارك وتعالى: ﴿قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾، فأبطلت هذه الآيةُ إمامةَ كلِّ ظالمٍ إلى يوم القيامة... إنّ الإمامةَ هي منزلة الأنبياء، وإرث الأوصياء، إنّ الإمامةَ خلافة الله، وخلافةُ الرسول (صلّى الله عليه وآله)، ومقام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وميراث الحسن والحسين (عليهما السلام)، إنّ الإمامةَ زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعزّ المؤمنين، إنّ الإمامةَ رأس الإسلام النامي، وفرعُه السامي، بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحجّ والجهاد...»[11]. والحديث في بيان معنى الإمامة ومكانة الإمام طويلٌ جدّاً.
مكانته في قلوب الناس وخشية المأمون العبّاسيّ منه
لقد كان الإمام الرضا (عليه السلام) في مرو يقصده البعيد والقريب، ومن مختلف الطبقات، وقد تعلّق به الناس، وكثيرةٌ هي الحوادث الّتي تشير إلى ذلك، ومن أبرزها حادثة صلاة العيد؛ إذ إنّ المأمون بعث إلى الإمام الرضا (عليه السلام) أن يصلّي العيدَ بالناس ويخطب فيهم، فبعث إليه الإمام الرضا (عليه السلام): «قد علمتَ ما كان بيني وبينك من الشروط في دخول هذا الأمر»، فبعث إليه المأمون: إنّما أريد بذلك أن تطمئنَّ قلوب الناس، ويعرفوا فضلك، فلم يزل (عليه السلام) يُرادُّه الكلامَ في ذلك، فألحّ عليه، فقال: «يا أمير المؤمنين، إن أعفيتني من ذلك فهو أحبّ إليّ، وإن لم تعفني خرجتُ كما خرج رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام)»، فقال المأمون: اخرج كيف شئت... قال الراوي: قعد الناس لأبي الحسن (عليه السلام) في الطرقات والسطوح، الرجال والنساء والصبيان، واجتمع القوّاد والجند على باب أبي الحسن (عليه السلام)، فلمّا طلعَت الشمس، قام (عليه السلام) فاغتسل وتعمّم بعمامة بيضاء من قطن، ألقى طرفاً منها على صدره، وطرفاً بين كتفيه، وتشمّر، ثمّ قال لجميع مواليه: «افعلوا مثلما فعلت»، ثمّ أخذ بيده عكّازاً، ثمّ خرج ونحن بين يديه، وهو حافٍ، قد شمّر سراويله إلى نصف الساق، وعليه ثياب مشمَّرة، فلمّا مشى ومشينا بين يديه، رفع رأسه إلى السماء وكبّر أربع تكبيرات، فخُيِّل إلينا أنّ السماء والحيطان تجاوبه، والقوّاد والناس على الباب قد تهيّؤوا، ولبسوا السلاح، وتزيّنوا بأحسن الزينة، فلمّا طلعنا عليهم بهذه الصورة وطلع الرضا (عليه السلام)، وقف على الباب وقفة، ثمّ قال: «الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، [الله أكبر] على ما هدانا، الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام، والحمد لله على ما أبلانا»، نرفع بها أصواتنا، قال الراوي: فتزعزعَت مرو بالبكاء والضجيج والصياح لمّا نظروا إلى أبي الحسن (عليه السلام)، وسقط القوّاد عن دوابّهم، ورموا بخفافهم لمّا رأَوا أبا الحسن (عليه السلام) حافياً، وكان يمشي ويقف في كلّ عشر خطوات، ويكبّر ثلاث مرّات، قال الراوي: فتخيّل إلينا أنّ السماء والأرض والجبال تجاوبه، وصارت مرو ضجّةً واحدة من البكاء، وبلغ المأمون ذلك، فقال له الفضل بن سهل ذو الرياستَين: يا أمير المؤمنين، إن بلغ الرضا المصلّى على هذا السبيل، افتُتِنَ به الناس، والرأي أن تسأله أن يرجع، فبعث إليه المأمون، فسأله الرجوع، فدعا أبو الحسن (عليه السلام) بخفّه فلبسه، وركب ورجع[12].
وقد أشار الشاعر البحتريّ إلى تلك القصّة بأبيات:
ذَكَروا بِطَلعَتِكَ النَبِيَّ فَهَلَّلوا *** لَمّا طَلَعتَ مِنَ الصُفوفِ وَكَبَّروا
حَتّى انتَهَيتَ إِلى المُصَلّى لابِسًا *** نورَ الهُدى يَبدو عَلَيكَ وَيَظهَرُ
وَمَشَيتَ مِشيَةَ خاشِعٍ مُتَواضِعٍ *** لِلَّهِ لا يُزهى وَلا يَتَكَبَّرُ[13]
فسلامٌ عليه يومَ وُلِد، ويومَ استشهد، ويومُ يُبعَث حيّاً.
[1] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص247.
[2] راجع: الشيخ الطبرسيّ، الاحتجاج، ج2، ص170 - 237.
[3] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص758.
[4] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج3، ص461.
[5] راجع: الشيخ محمّد جواد مغنيّة، الشيعة في الميزان، ص240.
[6] الشيخ الصدوق، التوحيد، ص125.
[7] المصدر نفسه.
[8] سورة الأنعام، الآية 38.
[9] سورة المائدة، الآية 3.
[10] سورة البقرة، الآية 124.
[11] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج1، ص200.
[12] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج1، ص489.
[13] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج3، ص480.